محمود دويكات Ýí 2008-03-18
في مقال سابق حاولنا تدعيم وجهة نظرنا ان قصة يوسف كان من جملة أهدافها إظهار و عرض مبدأ لتأويل القرءان الكريم. و كان أحد الأمور المدللة على هذا الزعم أن الله استخدم كلمة أحاديث في حين كان يوسف يؤول أحلاما ، و كلمة أحاديث أستخدمها القرءان لوصف كلماته ، كما أن الله اشار أيضا الى امكانية تأويل القرءان ، و قابلنا بين ذلك و بين تأويل الاحاديث الذي تعلمه يوسف من الله عزوجل. في هذا المقال سنحاول أن نسير بقصة يوسف و نسلك فيها سبلا بهدف الوصول الى استجلاء و توضيح لبعض مباديء التأويل التي ظهرت في سياق قصة يوسف التي استغرقت سورة كاملة تقريبا من الطوال .
لقد طرح الله لنا مبدأ تأويل الاحاديث الذي علمه ليوسف من خلال أربع أمثلة – سجود الكواكب ، عصر الخمر ، حمل الخبز على الرأس و حلم الملك. و لأن الله هو معلمنا في هذه الامثلة لذا نفترض أن في هذه الامثلة توجد القواعد و المبادئ الاساسية اللازمة لتأويل الاحاديث ، و من ضمنها أحسن الحديث (القرءان). و سنحاول في هذا المقال أن نسير مع تلك الامثلة و نتوخي الدقة قدر الامكان لعل الله يهدينا سواء السبيل. في البدء سنلقي ضوءا على الايات و من ثم سنحاول اشتقاق بعض الاسس منها. و لكن قبل البدء نريد التشديد أننا هنا لا نؤول القرءان و لكن في المجمل نقارن بين أيتين كأمثلة مطروحه أمامنا من عند الله على كيفية تأويل الايات: الاية الاولى هي المؤول منها و الثانية هي المؤول اليها .. نحن هنا نفترض الفرض الاساسي الذي مفاده أن كلتي الايتين من القرءان هما متكافئتان و أن الاية المؤول اليها أظهرت معنىً آخر (أعمق من المعنى الظاهر) بخصوص الاية المؤول منها.
تبدأ سورة يوسف و بالتالي قصة يوسف بعرض "حلم " (أو رؤيا) رآه يوسف و هو قوله ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ «4») يوسف. و تأويل هذا الحلم (أو الرؤيا) جاء متأخرا جدا (في نهاية السورة) – بقوله (فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ «99» وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ «100») يوسف ، و بالمقابلة بين الايات فإننا سوف نسمي الحديث الاول الحديث المُأوّل و هو قوله (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ .... لِي سَاجِدِينَ ) و الحديث الثاني بالمُأوّل إليه ، و هو قوله (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا) و بالمقارنة المباشرة بين الايتين نجد أن يوسف استنبط ان أبويه و اخوته هم الشمس و القمر و الاحد عشر كوكباً و أن الجهتين اشتركوا بعملية السجود. لاحظ وجود الرابط المباشر ما بين الايتين (ألا و هو عملية السجود) ... سوف أسمي ذلك الرابط المشترك بالشق المتشابه ما بين الايتين (أو الحديثين) :
(أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ .... لِي سَاجِدِينَ ) -----> (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا)
من هذا المثال نلاحظ التشابه المباشر ما بين الايتين (السجود له) و أن الكواكب و الشمس و القمر ترمز لأبويه و اخوته. سوف أسمي المسميات في الاية الاولى (الكواكب و الشمس و القمر) بالمعاني الظاهرة – لأانها كانت ظاهرة على هذا الشكل في الحلم (أو الحديث – الاية الاولى) – و أسمي المسميات في الاية الثانية (الابوين و هم=الاخوة) بالمعاني الباطنة (لأنها كانت هي المقصودة في الحديث) .. مما سبق و باستخدام التعريفات التي وضعناها نقول: تم تتبع (أو اتباع) المتشابه ما بين الايتين و تحويل (أو تأويل) المعاني الظاهرة الى باطنة.
المثال الثاني في الاية (أَعْصِرُ خَمْرًا) التي أوّلها يوسف بناء على ما علمه الله بـ(فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا) .. و هنا أيضا نجد التشابه و اضح بين الايتين و لكن ما لا يبدو واضحا هو كيف أصبحت (أعصر) = (يسقي ربه) . العلاقة ما بين (أعصر) و (يسقي ربه) هي علاقة تلاحق و تتابع : إذ أن السُّقيا لا يمكن ان تتم إلا بعد أن يتم عصر الخمر . والشيء الملاحظ هنا هو أن (أعصر) و (يسقي) عبارة عن أفعال كلها مضارعة مع فارق أن الثاني قد تعدى لمفعولين. إذن نلخص هذا كله: أن يوسف لاحق و تابع ما يمكن أن يحدث بعد الفعل المؤوّل منه ، و لكن لماذا جاء بكلمة (ربه) و التي من المحتمل جدا أنها تعني سيده أو ماشابه – يبدو ان ذلك له علاقة بماذا كان يعمل ذلك الشخص قبل أن يسجن. و بالتالي فقد اختار يوسف من الاحداث ما يلائم المقام.
المثال الثالث في الاية (أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) و التي أوّلها يوسف الى (فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ) أيضا التشابه واضح ما بين الايتين , و نلاخظ أيضا نوع من الحذف و التبديل أجراه يوسف عليه السلام في الاية المؤوّل منها : إذ أن كلمة (أحمل) أصبحت (يصلب) كما أنه حذف كلمة خبزا! و أيضا حرّك كلمة رأس مسافة ثلاث كلمات (تأكل الطير منـــ (رأس) ــه ) و الملاحظ أن الهاء في منه كانت تعود على الخبز ، و لكن بعد حذف كلمة الخبز أصبحت تعود على الكلمة التي قبلها مباشرة: رأسي. إذن نستنتج من بعد هذا التمحيص أن يوسف عليه السلام قد أبقى على التشابه ما بين كلامه و بين الاية في حين أجرى تغيير في ترتيب بعض الكلمات و ذلك ضمن إعادة تدوير للضمائر.
المثال الرابع في الاية (سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ) و التي أصبح معناها ( تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ «47» ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ «48» ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ «49») لاحظ أيضا أن التشابه مازال قائما ما بين الايتين من ناحية العدد و من ناحية يأكلهن كمعنى تصويري ، و هذا المثال قد شمل ما جاء في الامثلة السابقة لكن على تطبيق أكثر تعقيدا مما سبق. فلقد أول يوسف كلمة بقرات من معناها الظاهر للجميع الى المعنى الباطن (سنين) – تماما كما فعل في المثال الاول ، و أيضا أول السبع العجاف الاخرى من معناها الظاهر الى المعنى الباطن بسبع (سنين) شداد .. و أيضا استفاد من حرف الواو الذي عطف شقي الحديث في ربط السنبلات و البقرات ليؤوّل منهما أن المشهد التصويري يتحدث عن الثروة الحيوانية و النباتية .. و هو هنا قام باستقراء و تمديد المعنى تماما كما فعل في المثال الثاني حيث استقرء من عصر الخمر عملية السقاية فيما بعد. أما هنا فعدة بقرات و سنبلات استقرء منها الثروة الحيوانية و النباتية. لاحظ أن جمله (فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ) جاءت معترضة من قبيل النصيحة من يوسف تجاه الملك و الناس هناك و لا علاقة مباشرة بأحداث الرؤيا. و نقطة أخيرة نلاحظ أن الاية المؤوّلة احتوت على أربع سبعات و لكن في الاية المؤول اليها لا يوجد سوى سبعتين إذ أن يوسف قد ذكر فقظ عام واحد فيه يغاث الناس و فيه يعصرون ، هنا نفترض أن يوسف لم يرد ان يكرر ذكر الدورة كاملة مرة أخرى بل بدايتها ، حيث فصلها في البداية بسبع سنين دأبا (أي عملا منتجا) و سبع شداد (قاسيات) ثم بعد ذلك يغاث الناس (على فرض أنهم يغاثون بسبع سنين دأبا مرة أخرى ..الخ من الدورة السباعية).
كتلخيص لهذا المثال: نلاحظ التشابه قائم ما بين الايتين و نلاحظ أيضا استبدال المعاني الظاهرة بالباطنة .. كما نلاحظ أيضا استقراء تعميمي من منفرد (بقرات+سنبلات = ثروة زراعية كاملة) مقارنة مع المثال الثاني حيث الاستقراء كان تتابعي زمني لأنها كانت أفعال ( عصر – سقى ).
من خلال دراسة الامثلة المطروحة في قصة يوسف بخصوص ربط الايات مع بعضها فإننا نستنتج ما يلي:
1- وجود تشابه واضح و صريح ما بين الايات من السهل تتبعه.
2- استبدال المعاني الظاهرة بالمعاني الباطنة (سيتم توسيع هذا المصطلح لاحقا)
3- استقراء –استنتاج extrapolation إما تتابعي زمني أو تعميمي من مفرد الى مجموع.
4- خلال عملية استنباط المعاني من الممكن تبديل بعض الكلمات من ناحية موقع الكلمات فقط و ضمن الايات المعنيات على أن يبقى المعنى الناتج له صلاحية معنوية و له فائدة صريحة.
بعد دراسة تلك الامثلة القرءانية سنستخدمها من أجل فهم المقصود بالمحكم و المتشابه في القرءان و كيفية تتبع المتشابه بين آيات الله بهدف تأويل و فهم القرءان الكريم إن شاء الله تعالى.
شكرا لك وجزاك الله خيرا و فعلا أخي الكريم المداومة على البحث و لتمحيص يثمر الكثير
دعوة للتبرع
لا بد من شاهدين: أفتى جمال البنا بأن الزوا ج صحيح دون شهود و أن...
البلح الرطب: من الشبه ات التي سمعته اوهي: ول الله في...
الوحى الارشادى: ممكن حضرتك تقولي رأيك في اية في سورة يوسف...
الوشم حلال أم حرام ؟: هل الوشم حرام ؟ علما بأن هناك وشوم جميلة...
التوسل بالنبى: من الأدب المحم ديين البدء بحمد الله...
more
تحية طيبة وبعد
ما قمت به يا أخي هو فكر إجتهادي بإمتياز .
وهى محاولة أتمنى من كل قلبي أن تكتمل ، وأنتظر الكثير من هذه المحاولات .
وأود أن ألفت النظر إلى أن " الإكتشافات لا تأتي إلا لمن يستحقها " فالعالم إن لم يكن يسير في مجال البحث عن شيء محدد وقد لا يدركه ، ولكن قد يدرك شيئا أكثر منه أهمية صدفة " إكتشاف " ، لذا فقد قال العلماء " أن الصدفة لا تأتي إلا لمن يستحقها " لأنه إن لم يكن قد سار في هذا الطريق باحثا فلن تأتيه هذه الصدفة .
لذا أدعوا كل السادة أهل القرآن أن يكونوا دائمي البحث حول مجالات إهتمامهم ، وقد يأتيهم ما هو أكثر أهمية مما كانوا ينتظرونه من نتائج .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .