الليل و النهار فى الاعجاز العلمى للقرآن
بسم الله الرحمن الرحيم
د . أحمد صبحى منصور
أول رمضان عام 1428 الموافق 13 سبتمبر 2007 .
الليل و النهار فى الاعجاز العلمى للقرآن
مقدمة
فى موقعنا ( أهل القرآن) http://www.ahl-alquran.com/arabic/main.php
طرح الاستاذ ابراهيم دادى فى مقال له دعوة للمناقشة حول قوله تعالى ( ثم أتموا الصيام الى الليل ) متسائلا حول تحديد قرآنى لموعد بدء الافطار فى رمضان ، أو موعد الليل المقصود فى الآية الكريمة. وكنت على وشك التعليق على مقاله لاثبات أن موعد الافطار فى رمضان هو مع بداية الليل أى مع غروب الشمس ، ولكن حين بدأت الكتابة دخلت فى تحليل (يولج الليل فى النهار ) فتشعب الموضوع الى بعض وجوه الاعجاز العلمى فى القرآن الكريم ثم تفرع الى مناقشة تخلف المسلمين عما جاء به القرآن الكريم من إعجاز علمى والسبب فى ذلك تاريخيا ، وفى النهاية أصبح لزاما أن يتحول الموضوع الى عدة حلقات تحت عنوان (الليل و النهار فى الاعجاز العلمى للقرآن ).
وهذه هى الحلقة الأولى :
المنهج القرآنى للفكر الإسلامى:
نقطة البداية لأى فكر إنسانى تتمثل فى المنهج الذى يقوم عليه ذلك الفكر، فالمنهج هو الأساس الذى يقرر منذ البداية مدى صلاح ذلك الفكر ومدى استمراريته. وغالباً ما ينبثق المنهج الفكرى لأى حضارة من عقيدة دينية، فالإنسان حيوان متدين بغض النظر عن نوعية الدين الذى يدين به، حقاً كان أم باطلاً توحيداً أو شركاً.
والمنهج الفكرى للحضارة الإسلامية أتى به القرآن الكريم الذى جاء تبياناً لكل شىء وما فرط الله فيه من شىء، والمنهج الفكرى القرآنى للحضارة الإسلامية انبثق من عقيدة التوحيد الإسلامية التى تقصر الألوهية والتقديس على الله تعالى وحده فلا مجال لتقديس بشر أو حجر أو كوكب أو شجر، فالله وحده هو الإله القيوم على كل شىء وما من شىء إلا هو آخذ بناصيته مسيطر عليه، و﴿ليس كمثله شىء﴾ من مخلوقاته ﴿وهو السميع البصير﴾ و﴿لاّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ أما باقى الخلق فهم عبيد قدرته وتحكمه كائناً من كانوا، ملائكة أم رسلاً أم بشراً أم حيوانات أم جمادات.
فالانفصال قائم بين وحدة الخالق المهيمن المسيطر الذى ليس كمثله شىء وبين وحدة المخلوقات التى صنعها الخالق ولا يمكن أن تشبه الخالق بأى حال من الأحوال وللخالق عليها حق العبودية والخضوع والاستسلام طوعاً أو كرها ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ (آل عمران 83) فكل ما خلق الله أسلم وخضع له وسجد لعظمته، سبح بحمده كل المخلوقات، كل الأشياء من أحياء وجمادات لا خالق لها إلا الله ولا يستحق التقديس والعبادة إلا هو تعالى ولا واسطة بين الخالق والمخلوق. ومن هذه العقيدة التوحيدية انبثق المنهج القرآنى للفكر والعلم والتربية، وقد صاغ ذلك المنهج رب العزة تعالى وهو الأعلم بخلقه ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾.
ويعتمد ذلك المنهج القرآنى للفكر الإسلامى على أساس من الحكمة فى خلق الإنسان والكون. فالله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة فى الأرض يطبق فيها منهج الله القائم على الحق والخير وعدم الفساد. ولأن الإنسان مخلوق ليكون خليفة فى الأرض فإن الله تعالى سخر له كل ما فى الأرض وما فى السماوات ﴿وَسَخّرَ لَكُمْ مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ﴾ (الجاثية 13) وسخر بمعنى ذلل وأخضع، أى أن كل ما فى السماوات والأرض من جماد وحيوان ونبات وأشعة وطاقة سخره الله للإنسان كى ينتفع بها كيفما يشاء ﴿هُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النّشُورُ﴾ (الملك 15). ومن هنا فإن البحث فى الأشياء المادية التى يمكن أن تقع عليها حواس الإنسان رهين بسعى الإنسان وكفاحه كى يتمكن من الاستفادة مما سخره الله له على أتم وجه.
من هنا أيضاً أمر الله تعالى الإنسان أن يسير فى الأرض ويبحث فيها ليرى عظمة الخالق فى خلقه ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ اللّهُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ. قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمّ اللّهُ يُنشِىءُ النّشْأَةَ الاَخِرَةَ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (العنكبوت 19: 20).
فالبحث العلمى فى مخلوقات الله التى سخرها للإنسان فريضة إسلامية لها وسائل ولها أهداف. فوسائلها السعى والسير والنظر بالعقل والعين واللمس والتحقق والتفكر، ويستخدم الإنسان فى سعيه كل حواسه من يد وعين وأذن وقدم وعقل ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنّذُرُ عَن قَوْمٍ لاّ يُؤْمِنُونَ﴾ (يونس 101) ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِيَ أَنفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُ الْحَقّ﴾ (فصلت 53) ﴿وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ. وَفِيَ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ (الذاريات 20: 21) ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوَاْ إِلَى السّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ. وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. تَبْصِرَةً وَذِكْرَىَ لِكُلّ عَبْدٍ مّنِيبٍ﴾ (ق 6: 8).
والآيات السابقة التى دعت للبحث العلمى فى الكون تحوى إعجازاً علمياً أثبته العصر الحديث بعد أن اتبع المنهج العلمى القرآنى فى البحث والتجربة والسعى والسير..
ويكفى أن الله تعالى جعل من صفات المتقين أولى الألباب والعقول أنهم يذكرون الله ويتفكرون فى خلقه (آل عمران 190: 191) بينما جعل من صفات المشركين الإعراض عن آيات الله فى الكون ﴿وَكَأَيّن مّن آيَةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ (يوسف 105).
باختصار فالإسلام يدعو المسلمين إلى البحث العلمى التجريبى فى الكون المادى الذى سخره الله تعالى للإنسان، وغاية ذلك البحث التجريبى أن يصل الإنسان إلى عظمة الخالق تعالى وإبداعه، وأنه يستحيل على من خلق وأبدع أن يكون له شريك أو معه ولى أو معين، وحينئذ يزداد العالم خشية لله تعالى وخضوعاً له.
ويعزز ذلك أن القرآن الكريم دعا للعلم واستعمال العقل والنظر، وتكررت فيه عبارات ﴿أفلا تعقلون﴾ ﴿أفلا تبصرون﴾ بل وارتبط فيه لفظ العلم بالتقوى والخشية ﴿أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النّاسِ وَالدّوَآبّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر 27: 28) أى أن التفكر والبحث العلمى فى بديع الخلق من إنزال المطر واختلاف الشجر والبشر والحجر من صفات العالم الحقيقى المؤمن الذى يدعو له الإسلام، يقول تعالى ﴿أَمّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الاَخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنّمَا يَتَذَكّرُ أُوْلُو الألْبَابِ﴾ (الزمر 9).
ويلاحظ أن الحضارة الغربية الحديثة اتفقت مع الإسلام فى وسائل البحث العلمى التجريبى، فهى تسعى فى الكون وتسير فى الأرض فتمكنت من اكتشاف آلاء الله فى الكون، وكان المسلمون أحق بهذا الاكتشاف لو اتبعوا منهج القرآن الكريم، ولكنهم هجروا القرآن الكريم وانشغلوا بصناعة أحاديث نسبوها زورا وبهتانا لخاتم النبياء عليهم السلام ، وتشاجروا فى إسنادها و الحكم على رواتها ، بل وجعلوا من تلك الأحاديث وعاء يمتلىء بخرافاتهم وجهلهم فأصبح الجهل والخرافة جزءا من تلك الأديان الأرضية لا يصح الاعتراض عليه أو نقده فقد تحصنت ضد النقد باسنادها ونسبتها الى النبى محمد عليه السلام .
وظل انشغال المسلمين ـ عن القرآن الكريم ـ بأديانهم الأرضية و أحاديثهم الى أن نهض الغرب و اكتشف الكون متبعا طريقة المنهج العلمى التجريبى التى سبق لها القرآن . وفوجىء المسلمون فى عصرنا بأن بعض ما يكتشفه الغرب قد جاءت إشارات له فى القرآن فهللوا وتفاخروا دون أن يحسوا بالخجل ودون أن يتساءلوا اين كان أسلافهم واين كانوا هم حين هجروا القرآن وهو معهم يتكلم بلغتهم يدعوهم الى تدبره ويحذرهم من اتخاذه مهجورا. ومن أسف أن أولئك ( المسلمين ) لا يزالون فى غيهم يعمهون ، ولا يزالون بتلك الخرافات العباسية و المملوكية يتمسكون ، وهم على نسبة تلك الأحاديث الكاذبة لخاتم النبيين عليه السلام يدافعون .وتلك قضية أخرى سنعرض لها فى مقالات قادمة بعونه جل وعلا.
المهم أن الحضارة الغربية اتبعت المنهج العلمى التجريبى ووسائله ولكن اختلف الهدف، فالهدف من البحث التجريبى فى الإسلام هو الوصول إلى عظمة الله وقدرته ليزداد الإنسان خشية لله وعبادة له وينشر الخير ويكون لله خليفة فى الأرض بما وهبه الله تعالى من عقل وفطرة سليمة. أما الهدف من البحث التجريبى فى الحضارة الغربية فكان فى بعض الأحيان استخدام العلم فى خدمة الشيطان باختراع أسلحة الموت والدمار وتوجيه التقدم العلمى لتدمير الحضارة الإنسانية وإشاعة القلق والخوف والفقر والحروب والدماء والآلام..
قلنا أن القرآن دعا المسلم إلى البحث فيما سخره الله له، أى أن الله تعالى جعل تلك الأشياء المادية مسخرة خاضعة لحواس من تلك الإنسان وعقله وفى إمكان طاقته، ويستطيع بالعقل الذى وهبه الله له أن يخترع من تلك الأشياء المسخرة ما يمكن أن يفيده أو يضره، ويتوقف ذلك على الهدف، فإن كان الهدف طاعة الله كانت المخترعات فى صالح الإنسان وسعادته، أما إن كانت الأخرى فهو التدمير والبؤس والفقر.
وتبقى قضية أخرى.
أن الله تعالى سخر الكون للإنسان، ومن هنا كان من حق الإنسان بل من واجبه أن يبحث فيما سخره الله له، ولكن خلق الله تعالى الإنسان لعبادة ربه فيستحيل أن يتمكن الإنسان المخلوق لعبادة الله من أن يتخذ الله تعالى مادة لبحثه..
فالله تعالى هو الذى خلق الإنسان ويستحيل على المخلوق أن يتعرف على كنه الخالق، والله تعالى هو الذى خلق عقل الإنسان وصممه على أساس أن يبحث فقط فى الأشياء التى سخرها الله له، وليس بإمكان ذلك العقل كما خلقه الله أن يسمو للبحث فى ذات الخالق جل وعلا.
ويستحيل على الإنسان أن يبحث فى ذات الله تعالى والله تعالى وصف ذاته بأن ﴿ليس كمثله شىء﴾ ومعنى ذلك أن أى شىء من المخلوقات لا يمكن أن يشبه الله تعالى، وكلمة (شىء) مفعول مطلق من كلمة (شاء) فالله تعالى أراد أو شاء شيئاً فكانت كل المخلوقات أشياء وكل المخلوقات أو الأشياء لا تشبه الله تعالى بأى حال من الأحوال، فلا يستطيع الإنسان أن يتخيل كنه الله تعالى، فعقل الإنسان لا يفهم إلا فى الأشياء المخلوقة مثله، والله تعالى أكبر من كل شىء.. وحواس الإنسان لا تدرك إلا ما سمح به الله تعالى، والله تعالى جل أن تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، بل أن مشيئة الله قضت أن يحجب عن أعين الناس بعض مخلوقاته، والإنسان الحديث آمن بأنه لا يرى كل شىء من الأشعة والموجات وإن أمكنه أن يستغلها فى الراديو والتليفزيون واللاسلكى، والله تعالى يقول للبشر ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ. وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ﴾ (الحاقة 38: 39) والله تعالى أخبر بأن الجن يرون البشر ولا يمكن البشر أن يروهم ﴿إِنّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ﴾ (الأعراف 27).
وإذا كانت بعض الأشياء المخلوقة محجوبة عن عين الإنسان لا يمكن أن يراها فى هذا العالم المادى فكيف يطمح الإنسان إلى رؤية خالق الأشياء ومبدعها سبحانه وتعالى؟ وإذا كان ممنوعاً من الرؤية فكيف يبحث فيما لا يستطيع رؤيته؟
على ذلك فإن العالم له شقان بالنسبة للإنسان، عالم الشهادة، أو المحسوسات المشاهدة من الكون والطبيعة وقد عرفنا منهج الإسلام فيها من حيث الوسائل والهدف، أما عالم الغيب أو السمعيات فهى خارج نطاق المحسوسات، وتخرج عن نطاق بحث الإنسان، ومطلوب من الإنسان ألا يبحث فيها ولكن يؤمن بها، فالإيمان بالغيب من أولى صفات المتقين ﴿الَمَ. ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ. الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة 1: 3).
على أن يكون معروفاً أن ذلك الغيب الذى نؤمن به هو غيب الله تعالى الذى أخبر به فى كتابه الكريم خاصاً بالله تعالى والملأ الأعلى من الملائكة والجنة والنار والآخرة والحساب والحشر ثم الجن والشياطين. وكلها أمور غيبية غير مشاهدة أخبر بها الله تعالى ومطلوب أن نؤمن بها.
على أن الإيمان الإسلامى لا يقبل القسمة على اثنين، فالمؤمن بالله وحده يؤمن بغيب الله وحده ولا مجال لديه للإيمان بخرافات الأولياء وأكاذيب العامة والدهماء. هذا هو الإيمان المطلوب، إيمان بالله وحده وكفر بما عداه ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا﴾ (البقرة 256).
ووضح ما سبق أن القرآن حدد المنهج التجريبى العلمى للبحث فى عالم المشاهدة والكون والمادة المسخر للإنسان، ودعا للإيمان والتسليم والتصديق بعالم الغيب الذى يذكره الله تعالى فى كتابه فقط وما عداه من كلام فى الغيب إنما هو خرافة، حيث أن النبى محمداً نفسه لا يعلم الغيب، ومن هنا تضيق فجوة الإيمان بالغيب على قدر ما جاء فى القرآن فقط، ويتسع المجال أمام العقل كى يخترع ويبتكر فى عالم الشهادة.
ذلك ما ينبغى أن يكون، وذلك ما كان يجدر بالمسلمين اتباعه، ولكن المفروض شىء والواقع شىء آخر، فالذى حدث أن الحضارة (الإسلامية) لم ترتبط بالمنهج القرآنى وإنما سارت على أساس منهج آخر مخالف، هو المنهج اليونانى فكانت الحضارة (الإسلامية) ترديداً فى معظمها للحضارة اليونانية أو ترجمة لها بالعربية.
لقد أثمر الفتح العربى تكوين دولة (إسلامية) مترامية الأطراف شملت أجناساً متباينة من فرس وأنباط ومصريين وبربر، واعتبرهم العرب الفاتحون (موالى ) أى مواطنين من الدرجة الثانية . وأولئك الموالى كانت لهم إسهاماتهم فى الحضارة الإسلامية بل هم الذين سيطروا عليها، وكان من الطبيعى أن يسيروا بالمنهج الفكرى الذى تعودوه قبل الإسلام وهو المنهج اليونانى.
المنهج الفكرى للحضارة اليونانية:
تشابهت عقائد الشرق الهندية والغرب اليونانية ، وأدى غزو الإسكندر الأكبر لامتزاج الحضارتين الشرقية والغربية فيما يعرف بالثقافة الهلينية، ومن الطبيعى حينئذ أن تتطابق عقائد الشرق والغرب. ووحدة الوجود التى هى أساس عقائدهم الوثنية لا ترى فارقاً أساسياً بين الخالق والكون، والحضارة اليونانية كانت تعلى من شأن العقل بقدر ما تحتقر العمل اليدوى، من هنا كان العقل المجرد أساساً للبحث اليونانى فى فترته الأولى.
فالعقل اليونانى كان الأساس فى بحث الطبيعة وما فيها من مواد وأجسام، كما كان نفس العقل أساساً للبحث فيما وراء الطبيعة من سمعيات كالألوهية والقضاء والقدر ومشكلة الشر ونشأة العالم..
ومن الطبيعى أن يفشل العقل فى بحث الأمور الطبيعية التى لابد لها من المنهج التجريبى القائم على السير فى الأرض والنظر والتفكر وإجراء التجارب كما أشار لذلك القرآن الكريم.
ومن الطبيعى أيضاً أن يفلس العقل فى بحث ما هو فوق طاقته من ذات الله تعالى وصفاته وقضائه وقدره وجنته وناره. وأدى إفلاس المنهج العقلى إلى البحث عن منهج آخر، وكان البديل منبثقاً عن نفس عقيدة وحدة الوجود، وتم ذلك الانقلاب الجديد على يد أفلوطين السكندرى الذى نشر مذهب الأفلاطونية الحديثة وقد استوحاها من نظرية الفيض الإلهى التى قال بها أفلاطون.
فأفلاطون قال بإمكانية صعود النفس للعقل الإلهى حيث تخلص إلى عالم البقاء وذلك إذا تخلصت النفس من عجز الجسد والمادة، وقد استوحى أفلوطين السكندرى من تلك المقالة نظريته الجديدة فى المنهج الفكرى فطالما أن بإمكان النفس أن تتحد بالعقل الإلهى فيمكنها حينئذ أن تشرق فيها المعرفة الإلهية وتأخذ العلم من لدن الله.
من هنا بدأت مقولة العلم اللدنى فى الوسط المسيحى وأدت إلى تعزيز سيطرة رجال الكهنوت المسيحى الذين اتخذهم الناس أرباباً من دون الله فأصبح من حقهم وحدهم بالرياضات الروحية والأذكار والطقوس أن يصلوا إلى العلم الإلهى حيث لا مجال للاعتراض أو المناقشة أو الحوار مع علم يزعمون أنه من لدن الله تعالى.
ومن الطبيعى حينئذ أن تتوقف الحياة العلمية العقلية التى أظهرتها مناقشات المنهج العقلى الذى ساد قبلاً، فالعلم اللدنى ينظر أصحابه إلى العلم الآخر (العلم الظاهر) نظرى احتقار لأنه علم بشرى مكتسب، ويشترطون فيما يتصدى للحصول على العلم الإلهى اللدنى أن يكون قلبه فارغاً من العلم البشرى وصالحاً لتقلى العلم الإلهى وذلك بوسائل أبعد ما تكون عن تحصيل العلم (الظاهر) والسعى إليه، ثم إذا وصل صاحبنا بزعمه إلى العلم الإلهى فلا اجتهاد مع وجود نص، ولا مجال لمناقشته أو الاعتراض عليه بل يجب أن يؤمن الناس بما يقوله وأن يسمعوا ويطيعوا.
وهكذا كانت مقولة العلم اللدنى هى القاضية على الحياة العلمية، وحين بدأت الفتوحات العربية (الإسلامية) كانت المدارس اليونانية فى الشام والعراق وآسيا الصغرى تعانى من تسلط الكهنوت المسيحى صاحب العلم اللدنى وخرافاته ومزاعمه.
وبهذا انتهى المنهج اليونانى، إلى لا شىء. وكان لابد أن ينتهى إلى نفس النتيجة كل من يتأسى بالمنهج اليونانى، وذلك ما حدث مع الحضارة العربية (الإسلامية).
المنهج الفكرى للمسلمين:
لم يرتبطوا بمنهج القرآن الذى أوضحناه فى بداية المبحث وإنما التزموا منهج اليونان الذى عايشوه قبل الفتح الإسلامى بقرون.
أثر الموالى:
ويرجع ذلك إلى أن الموالى- أبناء البلاد المفتوحة- هم الذين سيطروا على الحياة العلمية حيث انشغل العرب بالسياسة والحكم والحرب والفتن، والعرب أساساً ليسوا أصحاب حضارة ومنهج فكرى، أما الموالى فهم أصحاب حضارة قديمة ولديهم الفراغ حيث لا انقطاع للسياسة أو الحكم، ولديهم أيضاً الدافع للتفوق والامتياز على العرب فى مجال العلم الذى يجيدونه ويتفوقون فيه، ثم لديهم دافع آخر هو توجيه الحضارة الإسلامية إلى ما ألفوه فى سابق حياتهم، ولدى بعضهم حقد على الإسلام وحرص على حربه، ووسيلته للانتقام هى تحريف عقيدة الإسلام بعقائد الشرك تحت ستار الأحاديث و السنن والتشيع والتصوف والحب والوجد، وليس مستغرباً أن يكون رواد الحديث والتشيع والتصوف من الأعاجم ، بل من أصحاب الحرف أحط طبقات المجتمع وقتها.
نظرتهم للقرآن:
والموالى قادة الحضارة الإسلامية سواء كانوا حسنى النية أو سيئى النية نظروا للقرآن الكريم نظرة قاصرة، اعتبروه معجزاً للعرب فى الفصاحة فقط، فحولوه إلى نص فصيح يستشهدون به فى أمور البلاغة والبيان والإعراب، ولا تزال تلك النظرة الخاطئة سارية حتى الآن، وكانت النتيجة أنهم حرموا أنفسهم والعالم والمسلمين من الاستفادة بالقرآن الكريم فى منهجه وحقائقه التشريعية والعلمية التى كانت فى متناول المسلمين منذ أكثر من عشرة قرون دون أن يستفيدوا منها، لأنهم استغرقوا فى إعراب آيات القرآن الكريم وتبين أوجه البلاغة فيها دون فهم حقيقى لمضمونها ومقصودها.
ثم كانت المصيبة الأخرى التى فرض بها الموالى آراءهم على القرآن الكريم وتسللوا بها لتحريف معانيه وتشريعاته وهى اختراع علم (التفسير) ومعلوم أن لفظ (التفسير) لا يناسب أن يرتبط بالقرآن الكريم، فالقرآن الكريم ليس بحاجة لتفسير، فالتفسير إنما يكون للكلام الغامض المستغلق على الفهم، أما القرآن فهو ﴿كتاب مبين﴾ يسره الله تعالى للذكر ﴿وَلَقَدْ يَسّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ﴾ (القمر 17) ﴿فَإِنّمَا يَسّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ﴾ (مريم 97) ﴿فَإِنّمَا يَسّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ﴾ (الدخان 58).
وحقيقى فإن من إعجاز القرآن هو سهولته واقترابه من مدارك الشخص العادى إذا تدبر وتعقل معناه مع كونه فى أعلى درجات الفصاحة المعجزة، ويكفى أنه أعجز العرب الجاهلين فى فصاحته ولا يزال بيننا ميسراً للذكر، هذا مع أننا لو قرأنا شعراً جاهلياً رقيقاً فى الغزل لعجزنا عن فهمه لجزالة لفظة وغرابة معناه، فاللغة كائن حى يتطور حسب ظروف كل مجتمع، ولكن القرآن الكريم فهمه العرب الجاهليون كما فهمه أبناء القرن العشرين. والقرآن الكريم لا يحتاج إلى تفسير لأنه يفسر بعضها بعضاً، فهو كتاب مثانى يجنح للتكرار المعجز، يقول تعالى ﴿وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً﴾ (الفرقان 33) فآيات القرآن هى أحسن تفسيراً لآيات القرآن، والباحث فى القرآن لا يفسره وإنما يتدبر الآيات فى الموضوع المبحوث بمنهج عقلى غير منحاز، وكذلك يجمع الآيات ويستعين ببعضها على البعض ليتوصل إلى حقائق جديدة وليس ذلك بالتفسير، وإنما هو التعقل والتدبر، وتدبر القرآن فريضة إسلامية.
وإذا جاز التسامح فى إطلاق لفظ التفسير على البحث فى كتاب الله تعالى فإنه لا يمكن التسامح مع استخدام ذلك التفسير لفرض آراء البشر على كلام الله تعالى، فهنا يتحول التفسير إلى تحريف، وذلك مع الأسف هو ما ارتبط بعلم التفسير حيث تسللت الإسرائيليات إليه وأفسدت عقائد المسلمين وأفكارهم، ولازلنا حتى اليوم لا نعترف بالآية القرآنية إلا إذا كانت أقوال المفسرين شفيعاً لها، وذلك منتهى الظلم لله تعالى ولكتابه الكريم، وإلى الموالى يرجع ذلك التردى الذى لا زلنا نعيشه فى نظرتنا للقرآن الكريم وتعاملنا معه.
والموالى قادة الحضارة الإسلامية طالما نظروا للقرآن الكريم هذه النظرة فلا يمكن أن يخضعوا له فى منهجهم العلمى ولابد أن تحدث الفجوة بين منهج القرآن والمنهج الذى سارت عليه الحضارة الإسلامية بفعل قادتها من الموالى.
ومن الموالى جاء أئمة الفقه و الحديث و التفسير وما يعرف بعلم الكلام أو العقائد والفلسفات ..
وقاد الموالى الحركة العلمية فى العصرين الأموى و العباسى ، أى عصر البداية وعصر الازدهار، ثم سار على أثرهم اللاحقون فى عصر التقليد والجمود .
وجاءت الوهابية فأعادت للمسلمين ـ فى العصر الحديث والمعاصر ـ أكثر المذاهب تخلفا وتشددا ، ونجحت فى نشره بقوة البترول ، وبأكذوبة أنه ( سنة نبوية )..
ويكفى ان بعض المسلمين فى عصر ثورة المعلومات والاتصالات لا يزالون يتبعون فى تحديد أول رمضان تلك الأكذوبة القائلة ( صوموا لرؤيته..)ويتطلع بعض الشيوخ العميان الى الفضاء لاستطلاع هلال رمضان ، أو يعتمدون شهادة إعرابى يزعم أنه رأى الهلال بين ساقى ناقته، ويريدون فرض (رؤيتهم ) على كل المسلمين ليصوموا تبعا لهم .
هذا مع أن القرآن العظيم أشار الى الحساب الفلكى وسبق به العلم الحديث..
والتفاصيل ستاتى في الحلقات القادمة عما يخص الاعجاز القرآنى فى ( الليل و النهار ).
والله جل وعلا هو المستعان.
اجمالي القراءات
33308
هذه المقدمة الرائعة لمقالة الليل والنهار والتي شدتني من عنوانها حيث اني قد قمت بالكتابة والتعليق في هذا الموضوع و بالفعل فأنا متشوق جدا للاستماع الى آرائك بخصوص هذا الموضوع الذي اعتبره من المواضيع المهمه وارى في بداية المقالة أنك تحدثت و اشرت الى مقالة استاذي الاستاذ ابراهيم دادي وقلت ( وكنت على وشك التعليق على مقاله لاثبات أن موعد الافطار فى رمضان هو مع بداية الليل أى مع غروب الشمس ) فمن الواضح انك تعتبر ان تمام يوم الصيام مع بداية الليل اي مع غروب الشمس.
فلا اخفي شغفي لقرأة باقي الحلقات القادمة عما يخص الاعجاز القرآنى فى ( الليل و النهار ).
وفقك الله وأعانك لما يحب ويرضى
أبنك يوسف المصري