منكرو الأعجاز العلمى للقرآن وقضية التدرج العلمى
2007 سبتمبر 19 7 من رمضان 1428 هـ الأربعاء
منكرو الأعجاز العلمى للقرآن وقضية التدرج العلمى
أولا
المجال الظاهرى للعلم
1 ـــ قلنا فى الحلقة السابقة أن منكرى الأعجاز العلمى فى القرآن الكريم ينطبق عليهم قوله تعالى "يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ : الروم 7" ، وقوله تعالى "فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون : غافر 83 " .أى أنهم بما لديهم من علم سطحى أصابهم الغرور فنظروا بإستخفاف وإستهزاء إلى قضية الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم.
2 ـ واقترب من موقفهم هذا بعض المؤمنين الذين أزعجهم الاحتراف السلفى فى قضية الاعجاز العلمى فى القرآن ( والسنة )،وبعضهم يقلق أن ينجلى الأمر عن إكتشاف أخطاء فى القرآن الكريم حين عرضة على حقائق العلم ، ونسوا أنه إذا حدث خطأ فهو من الباحث نفسه وليس من القرآن الكريم، ولقد تحمل القرآن الكريم أوزار أئمة ما يعرف بالتفسير وخرافاتهم وأكاذيبهم ، والأنصاف يقتضى تبرئة القرآن من أخطاء " المفسرين " وتبرئته أيضا من أخطاء من يتعرض للتدبر فى القرآن الكريم وتحليل قضايانا العلمية والشرعية والخلافية فى رؤية قرآنية. وكل منا يخطىء ، وما أكتبه بالطبع يحتمل الخطأ قبل الصواب ، وإن أخطأت فهى مسئوليتى ولا شأن للقرآن العظيم بخطئى وخطاياى.
3 ـــ وقلنا فيما سبق أن الأنسان يستخدم الماء والكهرباء والقوى المغناطيسية والجاذبية دون أن يفهم ماهيتها ، ونضيف إى ذلك الإنترنت وما سيأتى من مخترعات فى وسائل الإتصالات والمواصلات ، وقلنا أن الأنسان حتى لا يدرى ماهية النفس- أى ذاته وأقرب الأشياء إليه ولا يدرى حقيقة الحياة من أبسط درجاتها " التفاعل الكيماوى فى الجمادات " إلى أعقدها فى الثدييات والأنسان .
ونضيف هنا أن الله تعالى قد حدد للأنسان المجال الخاص به للسمع والرؤية فلا يستطيع أن يرى أقرب الأشياء إليه ، كما لا يستطيع أن يرى كل ما يحيط من أشعة منظورة وغير منظورة وموجات معروفة وغير معروفة والله تعالى يقول "فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ :الحاقة 39:38 " أى ما تستطيعون رؤيته فى المجال البصرى المتاح لكم ، وما لا تستطيعون رؤيته فى المجال البصرى المتاح وخارج نطاقة. أى يقسم الله تعالى بكل المخلوقات و يقسمها الى نوعين بالنسبة للرؤية البشرية ، ما يمكن رؤيته وما لا يمكن رؤيته حتى لو كان فى مجال القدرة البصرية.
ويحاول الانسان بعقله وبمنهجية علمية تجريبية ـ سبق أن دعا اليها القرآن الكريم ـ أن يستفيد مما سخره الله تعالى له بالاختراع كى يعوض النقص فى حواسه ،وليصل برؤيته وسمعه الى أدق وأقصى ما يستطيع الوصول اليه ، من خلال الميكروسكوب و المناظير الفضائية. ومع ذلك يظل هناك ما يستحيل عليه رؤيته ، وقد تكون أقرب المخلوقات اليه كالملائكة التى تسجل عمله ، والقرين الذى يزين له سوء عمله.
ولا يستطيع الانسان أن يسمع كل الأصوات بدءا من احتكاك الذرات والتفاعل الكيماوى بين العناصروالمواد الى زحزحة القارات وانفجارات النجوم وتحولها الى ثقوب سوداء تبتلع وتلتهم داخلها فى جوفها الأسود بلايين النجوم و الكواكب.
وبعض الحشرات و الحيوانات يتسع مجالها البصرى والسمعى ويتفوق على الانسان ، ومن هنا تتعرف على مقدمات الزلازل وتحس به قبل الانسان ، وبدأ الانسان يستفيد من تفوقها عليه ويتعلم منها.
كل هذا اكتشفه الانسان حديثا ، وأدرك أن هناك عوالم هائله غير مرئية تؤثر فى حياته و تغلف جسده ، ويمكن أن يتجنب شرها و يستفيد منها. وبهذا دخل الانسان فى طفرة التكنولوجيا ، وتلك كانت مرحلة هامة بعد المرحلة الأولى من اتباعه المنهج التجريبى ـ فى القرن التاسع عشرـ التى تطرف فيها العلماء فى انكار كل ما لا يمكن لهم أن تصل اليه ايديهم وحواسهم واخضاعه ماديا للتجربة الطبيعية.
ومع التقدم العلمى الحالى فان نتائجه وتوقعاته المستقبلية قلصت الفوارق بين الحقيقة والخيال، وبعد الانترنت والتليفون المتنقل بالصوتوالصورة والانترنت لم يبق للانسان إلا ان ينتقل بجسده متجاوزا الجاذبية الأرضية وسرعة الضوء، أو أن يتحقق بالعلم ذلك الموروث الشعبى الخيالى ( طاقية الاخفاء ) التى يلبسها الانسان فلا يراه احد.
قد يبدو هذا مضحكا ولكن يتخذه العلماء بجدية ساعين الى تحقيقه ، ولو تحقق فلن يكون مجالا للسخرية.
لو قيل لأجدادنا منذ قرنين من الزمان أنه يمكن نقل الصوت والصورة كما يحدث الان فى الانترنت والفاكس والتليفون والقنوات الفضائية لأتهموا القائل بالجنون وأصبح مثار السخرية.. ولكن أصبح هذا الان شيئا عاديا .. ونتطلع للمزيد.
إذن فلماذا يسخر بعضهم من حديث القرآن الكريم عن حقائق علمية لم نكتشفها بعد ؟
ومنها مثلا المعجزة التى حدثت أمام سليمان عليه السلام ، حين قام الذى عنده علم من الكتاب بنقل عرش ملكة سبأ من اليمن الى فلسطين فى أقل من طرفة عين ، أى بأسرع من الضوء ؟
ثانيا
التدرج العلمى فى تاريخ البشرية
1 ـ ومنهج القرآن الكريم فى إيراد الحقائق العلمية سنتعرض له بالتفصيل فى حلقة قادمة ولكن نضطر للتوقف مع أحدى خصائصها وهى قضية التدرج العلمى فى السياق القرآنى نظرا لأنه أساس فى الأعجاز العلمى فى القرآن الكريم.
التدرج العلمى فى التاريخ البشرى ليس خطا مستمرا يجمع البشرية فى صف واحد يتقدم باضطراد فى مضمار العلم والحضارة ، ولكن هذا التدرج عانى فى التاريخ القديم من انعزال المجموعات البشرية وتقطع الاتصال بينها ، فتقدمت حضارات وسادت ثم بادت بينما ظلت مجموعات اخرة رهينة التخلف ، ثم تقدمت أو تمسكت بتخلفها، الى ان دخل العالم كله فى الاتصال والتعرف على بعضه البعض فأخذ التدرج الحضارى ـ حاليا ـ ينحو بالبشرية الى الامام ، بعد ما كان يعتريه فى الماضى البعيد من انحسار و انكسار .
2 ـ هناك حضارات سابقة بائدة تحدث عنها القرآن الكريم منها الحضارة الفرعونية التى لا تزال آثارها تتحدى الزمن. ، وأدى إهلاك هذه الحضارات الى عدم استفادة اللاحقين بمنجزاتهم العلمية والتكنولوجية . بعض تلك الحضارات نشأ وتطور فى شبه الجزيرة العربية مثل قوم عاد وقوم ثمود ، ولا تزال آثارهم تحت رمال الصحراء ، يستطيع التقدم العلمى المعاصر ان يكشف عنها ، يقول تعالى عن جبروت قوم عاد (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ) (فصلت 15 ) ولقد كان النبى هود عليه السلام يقول لقومه عاد (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ) ( الشعراء 128 ـ ) وهذه الايات وما بعدها تشير الى تقدم هائل فى العمران و الزراعة و الصناعة والقوة الحربية ، ويقاربه ما قاله النبى صالح عليه السلام لقومه ثمود (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) ( الشعراء 146) ويقول تعالى عن قوم عاد وثمود غيرهم من الأمم البائدة(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ) ( الفجر 6 ـ )
وبعد قرون طويلة من اهلاكهم ظلت آثارهم ظاهرة مرئية ـ حتى عصر نزول القرآن فى القرن السابع الميلادى ـ تدل على ما كانوا عليه من تقدم ، ولذلك كان الله تعالى يدعو قريشا الى السير فى الأرض لرؤية تلك الآثار للاتعاظ بما حاق باهلها الذين كانوا أكثر قوة و حضارة من قريش برغم أنهم عاشوا قبل قريش بقرون كثيرة ، يقول تعالى (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ) (غافر 21) (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(الروم 9)
وفى ضوء الانعزال البشرى وانقطاع التواصل بين الأمم فى التاريخ البشرى القديم فلم يوجد اتصال حضارى مستمر ومستقر يسمح للبشرية بانتاج حضارة عالمية تأخذ فى التطور كما يحدث الان ، بل لم يعرف البشر أبعاد الكرة الأرضية ووجود العالم الجديد فى استراليا و الامريكيتين إلا بحركة الكشوف الجغرافية و ما نتج عنها من استعمار و اكتشاف البخار والدخول فى عصر المخترعات التى اسهمت فى تدعيم وسائل الاتصال بين البشر، الى أن وصلنا الى القرية الكونية الواحدة.
3 ـ إن نزول القرآن ـ كمعجزة أو آية للبشر جميعا ـ هو الذى أعلن بداية تلك المرحلة العالمية كآخر مرحلة فى الوجود البشرى على هذا الكوكب قبل قيام الساعة ، ليس فقط فى انه رسالة الله جل وعلا الأخيرة للعالم كله يخاطب فيها الانسان من عصر محمد عليه السلام الى قيام الساعة ، ولكن أيضا لأن القرآن الكريم يحوى إعجازا علميا يلاحق كل عصر الى قيام الساعة.
وبالتالى يظل فى القرآن بعض الإعجاز العلمي الذى لم يصل اليه عصرنا لأنه موجه للمستقبل ،فلا يصح أن يتندر الغافلون السطحيون عن إشارات علمية لم يأت أوان الكشف عنها بعد لأن تدرج البشر المعرفى و الحضارى فى عصرنا لم يصل الى تلك المرحلة.
4 ـ ولأن القرآن الكريم هو كلمة الله جل وعلا النهائية للبشر الى قيام الساعة فقد أورد قصص السابقين ـ وهو غيب ماض لم نكن لنعلمه لولا أنه جاء فى القرآن الكريم ـ وقص أيضا بعض أحوال المستقبل ، ومنه ما سيحدث من علامات للساعة و قبيل قيامها و مظاهر حدوثها عندما ينفجر العالم و يتم تدميره لتأتى سموات أخرى وأرض أخرى.
ومن حديث القرآن الكريم عن ملمح من ملامح البشرية قبيل قيام الساعة نعرف الآن أن تقدم البشرية سيتطور علميا الى درجة يظنون فيها أنهم متحكمون فى الأرض ممسكون بزمامها ، او بتعبير رب العزة ( قادرون عليها ) ، يقول تعالى عن إحدى علامات الساعة (حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( يونس 24).
ولم نصل لهذه المرحلة بعد فلازلنا نغرق فى تسونامى ولا زلنا نصرخ من ثقب الأوزون ولا زلنا عاجزين عن عقد الصلح بين التقدم العلمى و سلامةالبيئة وتوازنها .
إن مرحلة " ان نظن أننا" ( قادرون عليها ) تستلزم الشعور بالثقة فى السيطرة على جموح الطبيعة من الزلازل و البراكين والأعاصير والأوبئة والمجاعات والاستبداد و الفساد، ولن يتحقق هذا إلا قبيل قيام الساعة ، حين ( يظن ) الانسان أنه قادر على التنبؤ بالزلازل فيفاجأ بالزلزال الأكبر الذى يدمر الأرض و العالم (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ) ( الزلزلة 1: 4 ).
وحتى الوصول الى هذه المرحلة يستلزم وفقا للآية الكريمة أن يكون وصولا بالبشر جميعا ـ وعلى قدم المساواة ـ الى هذه الدرجة من التقدم العلمى ـ اى بدون فوارق حضارية ومعرفية بين سكان غابات أفريقيا والقاطنين فى غابات كندا ، أو بتعبير القرآن الكريم (وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ)، أى أهل الأرض جميعا. أى عندها سيتقدم العرب الى مستوى الشعوب الغربية..
أى أنه حين يتقدم العربان ستقوم الساعة..!! يا للهول..!!
5 ـ إذن كان هناك انقطاع فى التطور المعرفى و الحضارى للبشر فى العصور البائدة ، ثم دخلت البشرية فى مجتمع بشرى واحد يتبنى حركة علمية حضارية واحدة أخذت فى التقدم تدريجيا ، وهى فى حركتها الموحدة فى التقدم تكتشف وتخترع المزيد الى ان تأتى الساعة والأرض قد أخذت زخرفها وازينت وظنت البشرية أنها قادرة على التحكم فى الأرض بما فيها من رياح و محيطات و جليد وصحارى و غلاف جوى ..
وطالما لم يصل عصرنا ـ بعد ـ الى تلك المرحلة فستظل هناك إعجازات فى ضمير الغيب ـ و سيظل ما جاء عنها من حقائق أو إشارات علمية فى القرآن موجها الى أحفادنا فى المستقبل ، ومن الخطأ أن ننظر الى تلك الآيات القرآنية باستهزاء لمجرد اننا لا نعرف ولا نعلم.
6 ـ إن الله جل وعلا يقول عن ذاته (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء ) ( البقرة 255) أى إنه جل وعلا يعلم كل ما يحيط بنا ، وكل ما سبقنا وكل ما سيأتى بعدنا فى نفس الوقت الذى لا نعلم شيئا من علمه إلا بالقدر الذى يريده رب العزة ، وطبقا لمشيئته. وعليه فإن الله تعالى يعلم تدرج البشر فى المعرفة ـ وما يتعرض له هذا التدرج من توقف أو نكسات وتأخر و تخلف ـ وفى نفس الوقت فإنه جل وعلا قد حدد المتاح و المقدر للبشر علمه خلال هذا التدرج . وجاء القرآن الكريم باشارات علمية تؤكد هذا التدرج فى ماضى البشر وفى مستقبلهم لأن الذى أنزل الكتاب يعلم الماضى و الحاضر و المستقبل ، وهو الشاهد على من سبق ومن سيأتى ، وهو جل وعلا على كل شىء شهيد.
فإذا أنزل الله جل وعلا إشارات علمية أو حقائق علمية فى كتابه فهى مكرمة الاهية لنا تحفزنا الى العمل ، أولا من أجل تدبرها ، وثانيا لكى نستفيد منها علميا وتكنولوجيا ، فنصبح لائقين لأن نحيط بشىء من علم الله تعالى الذى أنزل بعضه فى القرآن وصاغ على أساسه هذا الكون.
ثالثا
الغيب والتدرج العلمى للبشر
1 ـ نعود إلى قوله تعالى فى تقسيم المخلوقات إلى قسمين : ما نبصره وما لا نبصره "فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ : الحاقة 38- " وهو أقرب للتقسيم القرآنى القائل بعالم الغيب وعالم الشهادة، والله تعالى وحده هو عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ( الرعد :9) .أما بالنسة لنا فالقضية أكثر تعقيدا، فهناك ما لا نبصره ويكون غيبا لكننا نستخدمه لأنه مسخر لنا مثل الكهرباء والمغناطيسية والموجات المختلفة.
2 ـ وهذا يدخل بنا على تحديد ماهية الغيب، وطبقا للقرآن الكريم فهناك نوعان من الغيب :الغيب الجزئى والغيب الكلى .
الغيب الكلى نوعان:
*نوع يستحيل رؤيته مطلقا وهو ما يتعلق بالله عز وجل الذى يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار " لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ : الأنعام 103" *ونوع تستحيل رؤيته فى هذا العالم الدنيوى فقط مثل الجن والملائكة والشياطين " إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ: الأعراف 27 " لا نستطيع رؤيتهم فى الدنيا ولكن نرى الملائكة عند الموت وفى اليوم الأخر "إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ : ق 18:17 ، وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ : 22:21" ، "(أيضا : الزخرف 38:36 و الأنعام 128) .
الغيب الأخر الجزئى هو المتاح رؤيته فى هذا العالم . فأنت مثلا فى القاهرة وأخوك فى روسيا . ما يفعله أخوك غيب بالنسبة لك ، وما تفعله فى القاهرة غيب بالنسبة له . هذا الغيب الجزئى يتقلص مع التقدم العلمى البشرى فى وسائل الإتصالات والمواصلات . فى القرون الوسطى كان ما يحدث فى مكة يعرف فى طنجة فى خلال عدة أشهر يظل خلالها معرفة ذلك الحدث فى إطار الغيب الجزئى المتاح . الآن تلاشى الزمن وأصبح الخبر ينقل بالصوت والصورة فى نفس الدقيقة . ونتحدث هنا عن نقل الخبر عن الحدث وليس الحدث نفسه . لأن نقل الحدث ذاته ماديا وعضويا يستلزم تحييد الجاذبية الأرضية وتلك مرحلة متاحة ولكن لم نصل إليها بعد ، وإن كان القرآن الكريم قد أشار إليها فى قصة عرش سبأ وسليمان .
هذا الغيب الجزئى هومسرح التدرج العلمى للبشر،ولقد تقلص هذاالغيب الجزئى بالإكتشافات العلمية وتطبيقاتها التكنولوجية من إستعمال الدواب إلى السفن الشراعية إلى قوة البخار إلى الكهرباء والموجات فوق الصوتيه وإستخدام الطاقة الشمسية .
(عالم الغيب والشهادة) جل وعلا هو وحده الذى يعلم الماضى والحاضر والمستقبل ، ويعلم مقدما مسيرة الحضارة البشرية . ومدى ما يحققه كل جيل من تقدم أو تأخر . وقد أخبر أن نهاية هذا العالم ستأتى يوم تصل الحضارة البشريه إلى نهاية زخرفها وتقدمها ، ( يونس 24).
ونحن الأن نسير لهذا المصير حيث بدأ الاحساس بالقرية الكونية الواحدة والمجتمع العالمى والحلم فى حكومة عالمية موحدة وتدعم الاهتمام الجماعى بكوكب الأرض ، وعقد مؤتمرات قمة لبحث سلامة الكرة الأرضية. وبدأت الأرض تتزين وتتزخرف، وزحف التقدم على جزء كبير من المعمورة ، وأصبح الأنسان يحلم بالوصول الى مرحلة يظن فيها أنه قادر ومتحكم فى هذا الكوكب..
لم نصل لنهاية المطاف ، ومعناه أن هناك من عناصر التقدم والقوة والمكتشفات العلمية ما لم نصل إليه، وان كنا نحاول ذلك بدليل البحث عن موارد طاقة متجددة من الشمس والماء تكون اكثر سهولة وأكثر صداقة للبيئة .. وأحلام أخرى كثيرة ستمكننا من الوصول الى مرحلة (وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ)، والذى أخبر عن نهاية المطاف فى الأية الكريمة السابقة هو جل وعلا الذى أشار فى القرآن إلى حقائق علمية لم نكتشفها ولا تزال مدخرة لتكون إعجازا للأجيال التالية ، بالضبط كما اصبحت آيات القرآن الكريم عن خلق العالم وغيرها إعجازا لعصرنا بعد أن عرفناها.
رابعا
التدرج العلمى و معجزات الأنبياء
1 ـ بعض الأعجاز العلمى أورده القرآن الكريم فى سياق قصص الأنبياء فى الإعجاز الخاص بهم . ومصطلح الإعجاز بمفهومه المستعمل الأن ليس من مصطلحات القرآن فالمصطلح القرآنى هو كلمة " آية " .
والآيات التى وردت فى قصص الأنبياء تنقسم إلى نوعين :نوع للتحدى مثل القرآن الكريم والآيات المعطاة لموسى ، ونوع للإكرام أو الإنقاذ مثل إنقاذ إبراهيم من النار ، والإسراء بمحمد من المسجد الحرام للمسجد الأقصى ، ومثل الآيات التى أعطاها الله تعالى لداود وسليمان – عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام .
2 ـ بعض هذا الإعجاز أو الأيات الواردة فى قصص الأنبياء يدخل ضمن الغيب الممكن ، أو الحدث الممكن ، أو الشىء الممكن عمله لولا أنه جاء سابقا لزمانه ووقته .
وعلى سبيل المثال لو افترضنا أنك سافرت خلال الزمن إلى الماضى ورجعت إلى عصر النبى إبراهيم عليه السلام ومعك جهاز كومبيوتر أوالتلفاز أو نزلت إليهم من طائرة أو حتى دراجه ... لأصبحت ذلك آية لك ، مع أن تلك الآيات هى منجزات بشرية إلا أنها سبقت عصرها .
نفس الحال مع – بعض – الآيات والمعجزات التى جاءت فى قصص بعض الأنبياء .
فالأسراء أو السفر ليلا أو خلال ليلة واحدة كان آية فى عصر النبى محمد عليه السلام ، لكنه ليس آية فى عصرنا . حيث أن بمقدورنا أن نسير نفس المسافة ونعود فى نفس الليلة .
فى عصرنا الحالى ليس مستبعدا أن يوضع أنسان فى نار تتأجج دون أن تمسه النار ، وأن يخرج منها سليما معافى كما خرج إبراهيم علي السلام "قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ : الأنبياء 69".
فى عصرنا الحالى أصبح من الممكن جدا شفاء الأبرص الذى كان شفاؤه معجزة لعيسى عليه السلام "وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ : آل عمران 49 " .
شفاء الأكمه – أى المولود أعمى- قد لا يكون مستحيلا فى عصرنا ، ولكن أن يخبرهم عيسى بما يأكلونه وما يدخرونه فى بيوتهم فهذا يدخل ضمن الغيب الجزئى وهو ممكن فى عصرنا بإستخدام أجهزة التصنت . واسألوا أجهزة أمن الدولة فى كل دول العالم .
3 ـ المستحيل فى عصرنا وفى كل عصر هو خلق الطير من الطين وإحياء الموتى، فتلك المعجزة أو الآية أعطاها الله تعالى للمسيح عليه السلام لا يمكن لأى تقدم علمى أن يأتى بها أو حتى الإقتراب منها ، مثلها فى ذلك مثل آية موسى فى تحويل الحبال والعصى إلى ثعابين حقيقية وليست سحرية .
4 ـ لنترك جانبا ما يستحيل على البشر تحقيقة فى إنجازاتهم العلمية ومسيرتهم على هذا الكوكب ونتوقف مع ما يمكنهم تحقيقه منها ..
وطبقا للنسق القرآنى فيما يخص معجزات أو آيات الأنبياء نجد تلك الممكنات نوعين : منها ما أنجزه البشر فعلا فى تقدمهم العلمى مثل الأسراء وشفاء الأبرص وتحييد النار ، ومنها ما لم ينجزه البشر بعد وهو متروك لهم لتحقيقة فى المستقبل.
ومن النوع الأخير بعض آيات ومعجزات داوود وسليمان .
وننتظركم فى الحلقة القادمة .
اجمالي القراءات
25786
اسمح لى بالقول أن الاجابة على سؤالك قد تكررت صراحة وضمنا فى كثير من كتاباتى المنشورة على هذا الموقع.
وربما أتذكر منها فتوى عن منهجية بحث التراث ، و لقد تكرر كلامى كثيرا عن الفرق بين حقائق التاريخ النسبية ـ التى هى أخبار لو صحت فليست جزءا من عقيدة الاسلام ولن أكون مسئولا عنها يوم القيامة ، وقلت أيضا أن من علامات الشرك أن يتحول التاريخ البشرى الذى يكتبونه فى سيرة الآنبياء و الأئمة و القديسين الى جزء من دينهم الأرضى.
اسمح لى أيضا أن أقول لك بدلا من تضييع وقتى ووقتك لماذا لا تقرأ أكثر مما تكتب ؟
عفا الله تعالى عنى وعنك ..