قال: لماذا لا تكتب؟ قلت له... !
قال: أراك قاومت بصلابة نصف قرن؛ ولم يتملكك اليأس، فهل ستُشْهِر هزيمتَك أخيرًا؟
قلت: عالم التفاهة أقوىَ مني، ونظرة احتقار من ديكتاتور تعادل عصائبَ قلمٍ تهتدي بعصائبٍ، وبصقةٌ طاغيةٍ أشدّ قوةً وبأساً من ثورة صامتة كتمتها دموعُ وصرخات ملايين المظلومين!
قال: لماذا إذَنْ لا تعتزل الكتابة نهائياً وقد تخطيتَ من عُمرك السادسة والسبعين؟
قلت: الكاتبُ الذي يعتزل قبل الموتِ أو العجْز الجسدي كالثائر الذي يُكمِل نضالـَه على شاطيء البحر أو.. في كازينو للقمار!
قال: ولكن تأثير لـَسَعاتِك، وغضبِك، وتحليلاتك الفكرية والسياسية والدينية لم تعُدْ تُحرّك طفلاً من تختتهِ في مدرسة بفصل دراسيٍ للبلداء!
قلت: الدين ومهووسوه، والأمن ومخبروه، والإعلام وقرَدَتُهُ، والتُهم الجاهزة ومستشارو القضاء، ووشاة الأصدقاء والأحباب والمعارف، وعيون النِتّ يجعلون الوطن العربي الواحد ذا الرسالة الخالدة في قبضة اليونيفورم والقصر والمعبد!
قال: أنت تعرف أنَّ آيةً واحدةً، وحكاية ماضوية، وخطبة جوفاء، وموعظةً غيرَ جبلية، وتهديد ذراع أرضية مقطوعة بهراوة سماوية مجهولة تجعلنا جميعا من البحر إلى النهر نرتعش حتى لو كنا في أحضان زوجاتنا!
السلام مع غضبك أخطر علينا من الغضب على من يحكموننا!
لقد تحوّل أعظم اختراع بشري منذ بدء الخليقة إلى ساحة صراع وتهديد ووعيد وأدعية الكترونية لو رآنا كل الأنبياء دفعة واحدة لسقطوا على ظهورهم، ورفضوا رسالات السماء.
قلت: لقد اختفتْ الهموم الوطنية والثقافية وحلتْ محلها حكايات مقدسة تحميها قبضةٌ أمنية تجعل المعبد داخل ثكنة عسكرية، أو الصلاةَ غيرَ مقبولة من الله إنْ لم يكن عليها ختم الحاكم وأنيابه!
قال: لماذا لا تلجأ لرغبة قارئيك؛ أي الصورة والفيديوتيوب والفيلم القصير والحديث المباشر؛ فقد تكتشف أن متابعيك هناك، كُسالىَ في القراءة؛ لكنهم نشطاء في التدفئة مع حزب الكنبة، أي تأتيهم كلماتك عبر الشاشة الصغيرة أو الآيفون وهم يلتهمون الطعام ويرتدون ملابس البيت، ويتم تزغيطهم(!) بتوك شو كما نفعل مع البطّ؟
قلت: ماذا لو تغيرت توجهات الشاشاتيين فأصبحت التفاهات والسخافات والحوارات الجوفاء ولقاءات المعتوهين من ضيوف الفضائيات ومقارنة المجهول من الأديان وعبقرية العباطة الطائفية مستقبل الأمة؟
قال: هذا قدرك؛ فإما أنْ تستمر في زمنك ولو بمتابع واحد، أو بالصورة والفيديوتيوب بعدة متابعين، ولكن سيظل عالم التفاهة والسطحية والغباء الجمعي هو الأقوى والأدهى والأجذب في عالمِك العربي الذي مازلت مؤمنا به.
ثم ختم حديثه قائلا: أنصحك أن لا تقترب من حاكم أو زعيم عربي أو ميليشياوي ديني وعليك بعدم الاشارة الضمنية أو الصريحة للسجون والمعتقلات والتعذيب والمهانة والفساد وسرقة الحاكم ما في جيبك ومكانك كصفر في وطنك وأوهامك أن لك شبراً واحداً تملكه في وطنك، حتى لو اشتريته بعرق جهدك!
ثم ودّعني قائلا: لا تصدّق من يتحدث باسم السماء في كل عقائد وأديان ومذاهب الدنيا، لكن معركتك معهم خاسرة فهم المال والسلطة والجماجم المفرغة من المفيد، والمفرخة لأسباب السقوط.
قلت: كلامك يستحق التقدير في عالمنا العربي، لكنني لو جهرت به في مجتمع متحضر فسيرجمونني بالبيض والطماطم ويعيدونني إليك وإلى الأمة العربية الواحدة، التي أحبها رغم أنفي حتى لو لم يبق لي فيها صديق أو متابع واحد أو .. خيال متابع!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو في 9 مايو 2023
اجمالي القراءات
2145