موقف الإسلام من المرأة في ضوء آيات المواريث
أثار انتباهي تعليقات الأخوة حول موقفي من قضية المساواه في الميراث، وحجتهم أن هناك نص قاطع محكم لا يجوز تعديله، ورغم إني رديت على هذه الحجة بمقال العام الماضي بعنوان "المساواه في الميراث هي عين الشريعة" لكن لا بأس من بعض التوضيحات..
أولا: الفقهاء الذين يرفعون سيف القرآن الآن بحجة الدين والنصوص هم الذين قالوا أنه يُنسَخ بالأحاديث ومقداره لا يساوي ربع الإسلام حسب تصريحات شيخ الأزهر، أي أن الاحتجاج على المساواه في الميراث بدعوى القرآن غير صحيح، هم لا يتبعوه ..بل أضافوا إليه عقائد خطيرة كالغزو والخلافة، كذلك فالقرآن لم يمنع متعة الحج ولا الوصية للوارث ، ولم يقل بالرجم ولا عذاب القبر والدجال والمعراج ونزول المسيح والمهدي المنتظر، ولم يقل بأفضلية دم المسلم ولا بخلافة قريش..فمن أين أتيتم بهذه الأشياء؟!
ثانيا: شريعة القرآن عاملت المرأة باحترام كبير ، ففي وقت كان اليهود يقتلون زوجاتهم الزانيات لمجرد الشبهة..وضع القرآن شرط تعجيزي وهو 4 شهود رأي العين، وألغى القرآن رجم المحصنات اليهودي للجلد حسب تقاليد وأعراف هذا الزمان.. كذلك فالمرأة لم تكن ترث في الجاهلية..القرآن أعطاها نصف ميراث الرجل كمرحلة، وهذا معنى التطور أن ينتقل التشريع من الظلم البين إلى العدل الجزئي وصولا لاجتهادات تحقق العدالة الكلية، وهو المستفاد من قوله تعالى (ولا يظلم ربك أحدا) لاحظ أن بعض المجتمعات الآن عادت لجاهلية العرب بمنع ميراث الأنثى..رغم أنهم مسلمين..!
ثالثا: قضايا الميراث عرفية اجتماعية وليست دينية، التوراه نفسها تعاملت بنفس منطق القرآن ونوّعت ما بين نصف الذكر والمساواه معه، غير إن التوراه لم تعرض لميراث الزوجة زوجها، مما أشاع أحكام يهودية بعدم ميراث الزوجة..هذا ليس في القرآن، الزوجة لها الثمن والربع من ميراث زوجها حسب الحالة..وسبب ضعف هذا النصيب أنها ترث في أبويها..
رابعا: تاريخ المسلمين يشهد بمقدار حب النبي لزوجاته ، وبالأخص خديجة ، والغالبية العظمى من الروايات التاريخية تقول أن النبي كان (يحترم) النساء..الوهابية هي التي كسرت هذا الاحترام ونقلت أعراف العرب في الجاهلية تجاه المرأة على أنها إسلام، منها مثلا مساواتها بالحمار والكلب الأسود..هذا وصف جاهلي للمرأة وضع في صحيح البخاري وصدقوه..!..فالنفس إذن التي صدقت مساواة النبي للنساء بالكلاب والحمير هي نفسها التي عطلت أحكام القرآن لصالح أقوال البشر، وسكتوا تماما عن مقدار حب النبي لزوجاته وأمه وبناته..وكيف يصفهم بهذا الوصف البشع..
خامسا: القرآن أقر بالعدل بين الزوجات..في ظل نفيه لتحقق ذلك وكأنه يقول للمسلمين (لا تعددوا)..أما التعدد فأجازه في حالة واحدة فقط هي (الأرملة المعيلة) لأسباب اقتصادية واجتماعية خاصة بكفالة الضعفاء والفقراء..أما كافة المسلمين الآن فانحرفوا عن ذلك بتدخلات الكهنة وتفاسيرهم المنحرفة والغبية..
سادسا: النساء كانوا منزوعي الشهادة في الجاهلية..القرآن أعطاهم نصف شهادة الرجل، وكانوا منزوعي طلب الطلاق..القرآن أجاز لهم بالخلع بل والعصمة أيضا، كذلك فاللمرأة حق التملك في الإسلام والمهور ونفقة الطلاق...بل حق التعليم واختيار زوجها بحرية..لاحظ الوهابيين حرموا تعليم الإناث..نفس أفعال الجاهلية رغم أن أحاديث البخاري فيها حض على تعليم النساء والجواري وعتقهن، يعني حتى الجواري لهم حق التعليم والحرية..بل في شريعة القرآن جعل من بعض الكفارات عتق عبيد ليشجع على التخلص من هذه الآفة.
وتلك قاعدة تمثل مدخلا عاما لفهم آيات المواريث عموما باعتبارها شأنا اجتماعيا خاصا بأوضاع مختلفة كالقرابة وأعداد الورثة ومقدار التركة نسبة وتناسب مع حاجة الوارثين تبعا للوصية أو تنازل بعض الأطراف رحمةً وحبا لأقاربهم، أي أن الأصل في توزيع أنصبة المواريث هو الرحمة والود لإنشاء مجتمع قوي متماسك، فإن ظهر فساد توزيع الأنصبة يجري فورا إعادة النظر فيه، ليس كما يحدث الآن من قتل على الميراث وما يتبعه من قطع للأرحام وتفسخ المجتمع.
ففي إحصائية منشورة عام 2017 أن ما بين 140 إلى 220 ألف قضية ميراث سنويا ترفع في المحاكم المصرية، وحوالي 9600 جريمة قتل سنويا بسبب التوزيع، هذه أرقام ضخمة تثبت أن الإشكالية أكبر من مزاعم سوء التطبيق لتطال فهم النص الديني نفسه، وفي خواطر قديمة ذكرت فيها أن توزيع أنصبة المواريث أصله المحبة والرحمة إيمانا بحق الملكية، أي لو مالك المال أوصى بماله لأي جهة فهذا حقه ، وليس للآخرين منعه، وما يحدث هذه المشاكل الضخمة في المواريث هو الظن بحقوق شرعية ثابتة لا تتبدل مع أي ظرف حتى لو كان عقوق والدين، علاوة على نزع الفقهاء حق الوصية من الميت واقتطاع ثروته بنصيب معلوم وثابت تبعا لنص اجتماعي متغير كما أوضحنا.
سابعا: الإسلام قضى على ما عرف (بوأد البنات) وهي ظاهرة بدوية رأت في النساء عار اجتماعي، لكن كل هذه التشريعات..نعم كلها..شأن اجتماعي..أي رسالة القرآن عقدت إصلاحات اجتماعية ليست دينا في ذاتها، فالدين أشمل من الاهتمام بأحوال متغيرة، وهذه النقطة التي لا يود فهمها البعض أو تستعصي عليه (معضلة الثابت والمتغير)..كيف أن القرآن يناقش شيئا غير ديني؟!..رغم أنه حدث في قضايا الرق، نعم ..ففقضايا العبودية والرق ناقشها القرآن بتوسع..ليست لأنها دين بل ظرف اجتماعي، جاء الأغبياء وجعلوها دين بإحياء عصر العبودية والنخاسة في عصر حقوق الإنسان.
ثامنا: المساواه في الميراث الآن فرض قد لا يجوز في السابق، أما الآن فقد أصبح فضيلة بعد التغير الهائل في المجتمع وعمل النساء والاختلاط وكفالة النساء لأسرهن، أكثر من 80% من نساء مصر يعملن و يعلن أسرهن أو يشاركن في الإعالة..هؤلاء من الظلم الفادح بخس حقهن المالي لصالح ذكر (عواطلي) بتاع برشام أو نسوانجي أو سفيه يبذر الميراث في غير مكانه المستحق، وحتى لو كان الذكر مستقيما فالمساواه في ظل عمل المرأة هو (عدالة في الفرص)..غير معقول أن تجتهد امرأة في العمل ثم لا تجد فرصة لها أن تظهر وتبدع بأموال قليلة.
تاسعا: حصر أموال البشر في أيدي الرجال يعني تسلطهم وتوحشهم، وهذا يحدث في كل مجتمع ضاعت فيه حقوق الأنثى، حيث يتحول الذكر من إنسان طبيعي لحيوان لا يرى في أنثاه سوى جسد للنكاح.. وفي سؤال لأحدهم: أن الذكر يأخذ ضعف ميراث الأنثى لينفق عليها، قلت : أن الأسهل المساواه بينهم ثم ينفقون أموالهم بحريتهم..إعط الأنثى مالها وهي كفيلة بإنفاقه واستغلاله أفضل من الذكر أحيانا ، وهذا التبرير ناتج من عوامل كتسلط الذكور والوصاية والشك في عقلية المرأة.. فالزعم بنقصان عقل النساء هو نفس الزعم بنقصان ميراثها وشهادتها..الفارق أن القرآن نقل ميراث الأنثى وشهاداتها من العدم إلى النصف ليس كحكم ديني.. إنما كعلاج اجتماعي لبدو لا يؤمنون بالمرأة أصلا ويدفنوها حية في الرمال..
نعم..هناك فارقا بين الحكم الاجتماعي والديني.. الأول خاضع للفهم والتغيير حسب المصالح..أما الثاني فهو ثابت لا يتبدل.. والتاريخ يشهد أن بعض صحابة الرسول فهموا ذلك كعمر بن الخطاب الذي أوقف وأسقط أحكاما قرآنية لعلمه أنها ليست دينا بل ذكرت مقيدة بظروف اجتماعية وسياسية خاصة..وكل من ينتفض الآن على قرار تونس بالمساواه بين الذكر والأنثى في الميراث بحجة أنه ضد القرآن سكت عن مساواتهم في الشهادة، رغم أن كلام الحُكمين ذكرا نصا في كتاب الله، ورغم ذلك فالدولة ساوت بين شهادتي الرجل والمرأة في حين لم تصل بعد للثقافة ولا للجرأة والاستنارة أن تساوي في ميراثهم..
عاشرا: توجد قراءات أخرى للنص القرآني منها قراءة د.محمد شحرور الذي قسم آية "للذكر مثل حظ الأنثيين" لثابت ومتغير، فالأصل هي الأنثى والمتغير هو الذكر، وضرب مثلا.."رجل وله أختين، كل أخت لها 100 دولار، يأتي من يريد مساواة الرجل بأختيه ويقول (لك مثل أختينك) فيعطيه 100 دولار فهل هذا يعني أنه أخذ ضعفهن أم مثل نصيبهن؟!"..وقراءة أخرى أكثر ظاهرية وحرفية بتقييد النصاب بظاهر اللفظ، أي للذكر مثل حظ الأنثيين فقط عندما يكون هناك ذكر وأنثيين، فإن وجد ذكر وأنثى فقط فالمساواه واجبة، وهذا ينقل النص الديني لجهة أخرى تماما وهي (الغائية) ما الغاية من تعيين المواريث قرآنيا بهذا الشكل، وأظن أنني أجبت عليه بأنها شأن اجتماعي خاص يمكن تعديله حسب ظروف ومصالح المجتمع، فالدين لو تعارض مع المصلحة فليس دينا تبعا لمقاصد الشرع الخمسة والمدرجة ضمن فقه المصالح المرسلة.
أخيرا: أنظر حولك ياأخي..النساء يحملن ويلدن ويتألمن من الدماء الشهرية، فإذا كان الرجل يتألم من مشقة العمل والقوامة الاجتماعية فالنساء يتألمن أكثر، وهذا معنى "بما فضل الله بعضهم على بعض" ليست تفضيلا دينيا، ولكنه تمايزا اجتماعيا وفسيولوجيا وبيولوجيا لا ذنب للجميع فيه، ولا يصلح حجة لبخس حق طرف لصالح آخر..والتمايز لا يعني الأفضلية، المرأة ترضع طفلها الرجل لا..لكن لايعني ذلك أن المرأة أفضل..فقط لأنها مخلوق مميز بهذا العمل، الرجل يلتحي المرأة لا..ولا يعني ذلك أن الرجل أفضل بشعره.
كذلك..ميز الله الرجل بقضيب..لكن لا يعني ذلك أنه أفضل وأن يأخذ ضعف ميراث النساء، فلو كان القضيب فضيلة فالديوك أفضل رغم أن الدجاجة أفضل عنهم بالبيض، كذلك فأنثى البقر أفضل من الثيران باللبن..كيف تنتهك مجتمع البقر وتهب الثيران ضعف ميراث البقرات..!!...هكذا نتدبر الدين والحياه، معك حجة للعدل، لا تخف فالله لن يسألك لماذا لم تأخذ ضعف ميراث الأنثى، ولكن سيسألك لماذا ظلمتها.. فالمسلمون مطالبون بتحقيق العدل كهدف أسمى للوجود.. الشريعة لو لم تكن عادلة فهي ليست دين.. بل مصالح وأهواء بشر
اجمالي القراءات
6605
أرجو أن تقبل تعقيبى من باب التكامل والتواصى فى الحق ... مقال حضرتك يغلب عليه الحس العاطفى أكثر من الإجتهاد فى نصوص آيات المواريث .... وأنا اتفق مع حضرتك فى نقدك للتراث ولما قبل التراث فى العصر الجاهلى من تعاملهما المُشين والمُسيىء للمرأة والمُضيع لحقوقها . ولكن عندما نتحدث عن تشريعات قرآنية حددها رب العالمين بصيغ رقمية محددة ومُفصلة ،وتوعد من يتعداها بعذاب إليم ،فهنا ليس لنا من الأمر شيئا ولا نملك إلا أن نقول سمعنا وأطعنا .. ومع ذلك أستطيع أن أُصنف مناداتك للمساواة بين الذكر والأنثى فى المواريث (وإن كنت لا ادرى هل تقصد حضرتك المساواة فى كل شىء ،مثلا الزوج والزوجة ، والأب والأم والإبن والإبنة ،ام بين الإبن والإبنة فقط ؟؟؟) على أنه مجرد نداء للإحسان وللتنافس فى الخير وعمل الصالحات . فكما تعلم حضرتك هناك القسط (العدل ) ،وهناك (الإحسان وهو ما زاد عن العدل لصالح الطرف الثانى ) . وهناك ايضا فى العبادات أداء الفروض ،وهناك التقرب إلى الله بالنوافل فيها زيادة فى العمل الصالح .... ونعود للمواريث ونقول أن القسط والعدل فيها هو ما حدده رب العالمين فى قيمة أنصبتها لكل وارث ، وهناك الإحسان فيها ، وهو أن يتنازل الأخ لأخته بجزء من نصيبه ،او أن ييقول سأخلط نصيبى مع نصيب أختى وأقسمه بيننا بالتساوى . فهذا إحسان منه ولكنه ليس فرضا ولا يستطيع احد أن يفرضه عليه تحت أى حجة أو أى مُسمى ،وهو بذلك لم يخالف شريعة الله فى توزيع المواريث .......فعلينا أن نُفرق بين مناداتنا بالإحسان والتسابق فى الخير وعمل الصالحات ،وكل إنسان حُر فى أن يستجيب أو لا يستجيب وبين أن نجعل مناداتنا هذه هى شريعة الله التى حددها سبحانه وتعالى وفرضها علينا ،ثم نقول عنها أنها عين الشريعة أو ان هذا هو التدرج الطبيعى للتشريع الإلاهى ( حاشا لله ) . فالمولى جل جلاله حدد وفصل لنا تشريعات المواريث تفصيلا تاما مبينا واضحا جليا لا لبس ولا غموض فيه ........وللتذكرة ولكى لا تتداخل الموضوعات انا هنا كنت اتحدث عن آخر شىء فى توزيع التركة (بعد سداد الديون ،ومنها سداد حقوق كل من ساهم فى تكوين الثروة والممتلكات وفى الحفاظ عليها سواء كانت الزوجة أو الأولاد أو أحد الأولاد أو الأب أو الأم ، وبعد سداد الوصية ، والهبات التى وعد أو كتبها المورث قبل وفاته ) . فكل هذه الحقوق تخرج أولا ،ثم توزع التركة طبقا لما حدده رب العالمين جل جلاله فى آيات المواريث ، ويدخل فيها أو بعدها مناداتنا للأطراف بالإحسان فيما بينهم فإن قبلوا بحريتهم التامة فهذا شىء عظيم ، وإن رفضوا فلا إثم عليهم ولم يُخالفوا بهذا شريعة الرحمن .