ذكريات في عالم المنتديات
استمعت إلى مناظرات كثيرة وقرأت كثير منها وخضت في بعضها ،فأكسبني ذلك صِقلاً حوارياً ليس بالهيّن، ربما أستطيع معه فرز المحاور الجيد على اختلاف أساليبه...لكن ما كان يؤذيني دائماً هي العقليات الطائفية والفوضوية، وقد كان سبباً في معاداتي لتلك العقول ونقدي الدائم لها وكشف أساليبها وتشريح هويتها..لإيماني العميق أن كل ما نعانيه في حياتنا الاجتماعية والسياسية والدينية بسبب قِصَر هذه العقول وعجزها عن إدراك ما يحدث.
في سوريا والعراق وليبيا ومصر واليمن وأي بلد فيها أزمة..تنتشر هذه العقول وتسود حتى الفضائيات والصحف..في كل مشهد يظهرون فيه ترى أعراضاً لهَوَس الظهور وعشق التغيير دون نظام، لا يملكون انسيابية فكرية وغالب توقعاتهم في وادٍ ومقدماتهم في وادٍ آخر، أو توجد فجوة رهيبة بين طرحهم واستنتاجهم يفشلون فيها بالتوقع فشلاً ذريعاً ، ولأنهم يملكون عقليات طائفية وفوضوية ولأنهم فاقدون للسلام الروحي يقومون بتحميل المسئولية للخصوم ، ولا يملكون شجاعة الاعتراف بالخطأ.
تجاربي معهم كثيرة ويمكن القول أنهم من كل الأديان والمذاهب والتيارات، فالسني كما الشيعي والمسلم كما المسيحي، والإباضي كالزيدي...اكتشفت بعدها أنني أتعامل مع إنسان وليس دين، مع عقول متقلبة وشعور متغطرس، لا يحترم أبجديات الفكر ويُكثر من الخُطب والشعارات، اضطررت معها للسير في فلكهم كي لا أتعجل الصدام، ولكن الصدام كان حتمياً.
لا أعفي نفسي من تلك الأمراض بالكلية، فحب الظهور- الذي يُعانون منه- أؤمن أنه يصيب كل نفس بشرية، فكل نفس تعشق الظهور ولكن بطريقتها الخاصة ، وتسعى إليه..فمن يُكثر من رفضه للظهور هو من عشاقه في الحقيقة، لكن كنت ولا زلت أحاول مقايضة ذلك بتعاطي النُخَب، فربما كلمة ألقيتها يتلقفها نابغة ويُقيم عليها مشروعه التنويري الخاص، فلا أشغل نفسي كثيراً بجلد الذات لإيماني أن الحقيقة ليست بعدد المتابعين بل بجودتهم.
أذكر أنني سجلت في منتديات سلفية طائفية كشبكة الدفاع عن السنة وفرسان الحق، وخاطبتهم بإسم مستعار، على أمل التجربة والخروج بعقلية واحدة تؤمن بما أؤمن به، لكن أبهرني أن القوم لا يسمحون أبداً بقول الحقيقة، ولو قلتها حتى ولو من كتبهم يُسارعون في تكفيرك ولعنك وربما شطبك، إنه الخوف الذي يتملكنا من الحقيقة والأمل الذي يروادنا بزيفها، وربما كان سيجموند فرويد محقاً بعد قوله أن الإنسان سيظل مملوكاً لدوافعه وشهواته.
أما النتيجة التي خرجت بها من تلك التجربة هي مستوى السخافة وضحالة الفكر المرتفع جداً في تلك المواقع، يوجد بنسب أخرى في مواقع أخرى، ولكن هذا المكان -وأي مكان يُشبهه-يُخصصون وقتهم فيه في المعارك، كل حياتهم معارك لا رحمة فيها ولا منطق، لا دين فيها ولا سياسة، بل أشبه بمجتمع حيواني قائم على الدونية والعنصرية، والغريب أنهم يُصدرون لأنفسهم صورةً أخرى في توقيعاتهم وملفاتهم الشخصية توحي بالتسامح والرقة..!
خرجت بنتيجة أخرى أن أعضاء وعشاق هذه المواقع هم جسد التطرف والجرائم الدينية التي اجتاحت العرب الآن، داعش والإخوان والقاعدة والسلفية..جميعهم ضحايا للمواقع الطائفية والتكفيرية....لا يوجد منهم من دخل تلك المواقع إلا وتأثر بما قرأه هناك، فسافر إلى سوريا أو العراق أو ليبيا للتضحية بنفسه من أجل الأمير..!
كنت عضواً في الملتقى الإخواني لسنوات، وشبكة فلسطين للحوار لسنوات، وكلاهما ناطقين رسميين لجماعة الإخوان وحماس، في ساحات الحوار وجدت نَفَساً حزبياً بغيضا يصل لحد العنصرية، يلقون بقاذوراتهم الطائفية إذا مس الآخرون أحزابهم، يحوي خطابهم أمراضاً بالهلع وسوء النوايا الذي يُشعل الطائفية كعَوَض عن فشلهم في التواصل، وكأنهم يعاقبون الآخرين على عدم قناعتهم بهم..!
كنت أعي تماماً ما يحدث، ولدي تشريحاً كاملاً لهويتهم في ذهني، لم أستعجل الصدام بل تركت الأمور تجري حسب المقادير، لم أهتم إلا ببقائي بينهم أطول فترة ممكنة لعلي أخرج بمكسب واحد أو رجل واحد يُعيد البوصلة إلى نصابها الطبيعي، أو يحمي إخوانه من مستقبل خطير ينتظره بفضل حماقات القوم وقياداتهم.
لكن في غمرة ذلك توقعت أن يقع هؤلاء ضحية للنزعة الطائفية والعقلية الإجرامية السائدة في المنطقة، وجاء التوقع مسرعاً..فامتلأت مواقعهم مدحاً لرموز الطائفية والجريمة الدينية كالقرضاوي والعرعور والعريفي والزعاترة وغيرهم، شرعوا في تكوين مجاميع صغيرة لتجنيد الأعضاء –شعوريا- للجهاد في سوريا، وطرحوا موضوعات على شاكلة.."هل تريد الذهاب للجهاد في سوريا ؟"..وكانت النتيجة أن جمهور الأعضاء مع الدعوة، واعتقادي أن كثيراً منهم لباها بالفعل..
كان تساؤلاً يُحيّرني..فاعتقادي عن الطائفية لم يكن بهذا الشكل من قبل، كنت أرى الطائفية كأزمة فكرية تنتج عن رواسب تاريخية ..إذا وعيها الإنسان كانت له حصناً، ومن قرأ في التاريخ بتجرد وقف على حقيقة الصراع..
أما الشكل الجديد رأيت فيه عقلاءً كانوا في الماضي ضد الطائفية ويفهمون أدواتها ووسائلها..وفجأة تحوّل هؤلاء العقلاء إلى مجانين تعجز على تصديق أنك أمام بشر له فكر وضمير، تحولوا إلى أشخاص غير محترمين لأنفسهم على الأقل، وشاعت على ألسنتهم السخافة والبذاءة حتى شككت في نفسي كونهم أمس كانوا مثلي..!
دفعني ذلك للبحث عن حقيقة ما حدث ووصلت لها بعد عدة أشهر..أن كل اعتقاد ديني يظل مختبئا في نفس العاقل وراء ضميره، حتى لو كان فكراً متطرفاً يخشى صاحبه من إعلانه لأسباب قد تكون اجتماعية ،اعتقاد يفصل بين الهويات ويصنع أخرى مختلطة، ويستدعيه إذا شَعُرَ بقُرب المواجهة القائمة على هذا الاعتقاد الهووي بالأساس..
طرأ في ذهني أن الإشكالية تكمن في هذا الاعتقاد وعلاج أزمة الهوية، وبدأت أبحث عن حقيقته كسبيل لمنع تأثيره السلبي في شخصي على الأقل، وكانت المفاجأة...أن هذا الاعتقاد كان وهماً في وهم، وأن الدين برئُ منه وأنه صناعة بشرية لنفس العوامل التي أثرت على هذا العاقل وحوّلته إلى مجنون، ومن حينها بدأت مرحلتي في الشك ونقد التراث...
وإلى هذا النقد كانت ذكريات..إلى وقت قريب كان يوجد لدي تآلفاً مع تيار التنوير والنقد من اليسار إلى اليمين، ولكن بدا أن ذلك التآلف لم يكن سوى شهر عسل رأيت في نهايته خطورة النظر للتنوير كأنه حزب أو جماعة..بل يجب أن يكون التنوير قضية لا تقف عند مستوى الأشخاص والمواقف..أو حتى الأفكار لأن بعض الأفكار متجددة بتغير الواقع.
سجلت في موقعاً تنويرياً حراً اسمه.."نادي الفكر العربي"..حاورت وناظرت فيه عشرات من الكُتّاب في مسائل مختلفة، وكان منهم كتاب مشهورين في صُحف كبيرة، ولطبيعة الموقع الحرة كان فيه ملحدين خضنا معاً في قضايا الإيمان، وثوريين خُضنا معاً في قضايا الثورات ومعالجتها...اكتسبنا معاً خبرة الحوار وجودة المعلومة ، لكن ظلت هوية الإنسان اللعينة حاجزاً أمامي لا أرى في بعضهم تنويراً رغم ما يرفعونه من تنوير، كل صفات القُبح الأخلاقي والسفاهة للطائفيين تسود نوازع وسلوكيات هؤلاء التنويريين، قياسات منطقية سخيفة وأحكام معلبة ومسبقة ترى في الآخر عدو دائم لا يتبدل حتى لو تبدلت الظروف.
لا توجد دبلوماسية للحوار وفرز للأوليات من الثانويات، حتى إدارة الموقع كانت –رغم تنويرها-إلا أنها كانت تدعم إرهابيي سوريا وجرائمهم وتمنع أي مقال وعضو يحمل عليهم أو ينتقد ثورتهم اللعينة، تعجبت حينها كيف لشخص تنويري أن يدعم شخص طائفي همجي يعيش في القرون الوسطى؟!
قد يكون التنويري يخلط أحياناً بين الدين والدولة ،أو يكن تشابهاً بين مرجعيات القوم رغم اختلاف أديانهم..وهو دافع غريب كيف لملحد أن يؤمن بدين يلخط بينه وبين سياسة أياً كانت..
سألت سؤال محوري ما هو الدين ؟
الجواب كان: ليس الدين ما نزل وحياً من السماء أو ظهر فكراً من حُكماء، بل الدين هو كل فكر وقناعة يحميها صاحبها بدائرة من القدسية تمنعه من التناول أو النقد، وقد جاء في القرآن قوله تعالى .."لكم دينكم ولي دين"..وهو خطاب محكم للجميع أن ما يؤمنون به هو دين أصلاً وإن لم يكن إسلامياً أو مسيحياً..حتى الإلحاد هو في أصله دين، وعدم إيمان الملحد هو في ذاته إيمان وقناعة..
بناءً على ذلك تحاورت معهم وظهر لي صحة هذا التفسير، أن الملحد بعقله قد يكون كالداعشي إذا لم يُدرك الأوليات من الثانويات، فقد اجتمعوا على قضية واحدة وهي إزاحة بشار ..واعتبارها أولى الأولويات والواجب المقدس لهذا العصر..يدافعون عنها حتى بأنفسهم، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير البلد وتشريد أهلها..ولاحظت تشابهاً عجيباً في وسائلهم من الشخصنات والقياسات الفاسدة وإهمال الأوليات، أو أن يملكوا جميعاً حسّاً سياسياً يدفعهم للتنازل.
قلت قد يكون ما دفع الملحد لهذه الجريمة هو بالضبط ما دفع الداعشي لها وهو التقليد، وياللعجب حين رأيت كبار مفكري الملاحدة الشوام.."كبرهان غليون وعزمي بشارة"..ضمن هذه الجوقة الذين يدفعون بشباب التنويريين في آتون معركة خاسرة نتيجة للتقليد الأعمى.
كانت النتيجة هي شطبي من الموقع أكثر من مرة، وحين عدت في المرة الأولى عزمت على تنفنيد ادعاءات هؤلاء جميعاً وأن ما حدث لهم هو ما أسميه.."ضيق في دائرة الانتماء"..فالداعشي وصل لأضيق دائرة تحمله على معادة أي انتماء آخر، وكذلك التنويري سيحدث له ما حدث مع الداعشي إذا ظن أن مؤيدي بشار الأسد لهم انتماء آخر غير انتماءه..خصوصاً لو كانوا أكثرية هذا الشعب..
وركزت على هذه النقطة ..طالبت فيها بتوسيع دائرة الانتماء والاعتراف بمؤيدي بشار الأكثرية وتصديق هواجسهم أو على الأقل مناقشتهم فيها وعدم المصادرة عليها.
كانت النتيجة هي اتهامي في عقيدتي وفي وطنيتي بل وفي إنسانيتي وتم تحميلي كل جرائم الأسد من الإدارة وأكثرية الأعضاء التنويريين الذين كانوا ضمن هذه الجوقة..رغم أنني لم أطلب سوى الاعتراف بإنسان وبحقه في الاختيار أو على الأقل النظر لمستقبل وطن يتهدده التقسيم والتشريد بأفعال هؤلاء الفوضويين ودعاة الفتنة.
اجمالي القراءات
6425