عبدالوهاب سنان النواري Ýí 2014-11-22
* مدخل:
كانت هذه الحملة الموجهة إلى بيت المقدس, عجيبة في كل ما يحيط بها من ظروف وملابسات, فقد كانت حملة صغيرة لا يتجاوز عدد رجالها الستمائة فارس فقط, والأعجب أنها جاءت استجابة لرغبة السلطان محمد الكامل الأيوبي نفسه, وباتفاق وتفاهم بينه وبين فريدريك الثاني, إمبراطور المانيا (الإمبراطورية الرومانية المقدسة) ومملكة الصقليتين (صقلية ونابولي).([1])
والطريف أن هذه الحملة لم تشهد قتالا أو إراقة دماء من الجانبين, ولكنها حققت هدفا صليبيا كبيرا, هو استعادة بيت المقدس تحت السيطرة الصليبية. والطريف أيضا أن قائد الحملة كان تحت عقوبة الحرمان البابوي, لقد كان مشهدا غريبا أن تأتي حملة صليبية لتحرير بيت المقدس من العرب, وقائدها رجل اشتهر بعداوته للبابوية التي أسبغت عليه أشنع أوصاف الهرطقة, كما دعت إلى شن حملة صليبية للهجوم على إمبراطوريته, فقد كان الإمبراطور فريدريك وأولاده الذين تولوا من بعده, ممقوتين عند البابوية؛ لميلهم إلى المسلمين.([2])
لم يحاول الصليبيون أبدا الاستجابة لسياسة المهادنة التي سار عليها السلطان الكامل الأيوبي, ولم يكن ذلك ممكنا في ضوء فهمهم لحقائق الصراع بين الأديان, والذي لا ينتهي إلا بالقضاء على أحد الطرفين. وهكذا فقد تجمعت حشود صليبية جديدة, تريد أن تنتقم للمهانة التي جرت على الصليبيين, في الحملة الخامسة سنة 1221م/618ه. أما الإمبراطور فريدريك الثاني, فقد أبدى استعدادا واضحا للإفادة من هذه الروح السلمية البادية في موقف السلطان محمد الكامل الأيوبي.([3])
لقد حقق الإمبراطور فريدريك الثاني, الذي استحق لقب " أعجوبة الدنيا " عن جدارة, ما لم تستطع الحملات الصليبية الكبرى تحقيقه - منذ انتصار المسلمين في معركة حطين (583ه/1187م) - ثم عاد إلى أوربا دون خسارة في العتاد أو الرجال. لقد حققت هذه الحملة, رغم طابعها السلمي, من النجاح ما يعادل ما منيت به الحملة الصليبية الخامسة من فشل رغم طابعها العسكري العدواني, إنها حقا أغرب الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي.([4])
* أحوال أوربا قبيل الحملة:
كانت أوربا الغربية تشهد أدق وأصعب مراحل الصراع بين البابوية وزعماء الإمبراطورية الرومانية المقدسة, والمعروف أن تلك الحقبة التي استمرت من سنة 1057م حتى سنة 1250م, تقريبا, تعرف في التاريخ الأوربي باسم (عصر البابوية والإمبراطورية) نظرا لما شهدته من احتدام الصراع واشتداد الخلاف بين السلطة الدينية وعلى رأسها البابا, والسلطة العلمانية وعلى رأسها الإمبراطور, حول سيادة العالم الغربي, فإيهما أسمى؟ البابا أم الإمبراطور؟ وإيهما يجب أن تكون له الكلمة الأولى, السلطة الكنسية أم السلطة الزمنية؟ هذه هي المشكلة الحقيقية التي ألقت بغرب أوربا في صراع مرير.([5])
كان الإمبراطور فريدريك الثاني, بطل الدور الثالث, من أدوار النزاع بين البابوية والإمبراطورية, وقد دعمت البابوية حق هذا الإمبراطور في العرش, والقضاء على خصمه أوتو الرابع سنة 1214م, دون أن تدري البابوية أن الإمبراطور الجديد, الذي جمع في قبضته بين عرش المانيا والصقليتين, سيكون أخطر خصم لها في القريب العاجل, ذلك أنه لم يكد يفرغ من مشاكله الداخلية, حتى اتخذ إيطاليا وصقلية مسرحا لجهوده, مما أثار مخاوف البابوية, وهي الحريصة عندئذ على كبت كل سلطان سياسي يهدد حقوقها في إيطاليا, وازدادت مخاوف البابوية عندما اتضح لها, أن فريدريك الثاني غير قانع بصقلية وجنوب إيطاليا, وإنما أخذ يعمل على توطيد نفوذه في شمالها, أي في لمبارديا.([6])
والمعروف أن فريدريك الثاني, قد توج إمبراطورا في يوم 25/7/1215م, وذلك في مدينة آخنالالمانية, وكان عمره آنذاك اثنان وعشرون عاما, وفي حفل التتويج تعهد فريدريك الثاني, بحماية المسيحية وتحقيق أهداف الكنيسة, الى جانب تعهدات أخرى, قطعها على نفسه للبابا إنوسنت الثالث (1198-1216), ولكن تصرفات وإجراءات الإمبراطور اللاحقة لهذه التعهدات, والسالفة الذكر.([7]) جعلت البابا ينظر الى سياسة فريدريك الثاني, بعين ملؤها الشك والخوف مما سيتمخض عنه المستقبل, وكان الإمبراطور فريدريك الثاني, قد وعد البابا إنوسنت الثالث, في عام 1215م, بالقيام بحملة صليبية, كما وعده بفصل حكم صقلية عن تاج الإمبراطور, ولكنه عاد وماطل في الوفاء بوعوده.([8])
وما أن تولى كرسي البابوية البابا هونوريوس الثالث (1216-1227م) إلا وبدأ يطالب فريدريك الثاني بتنفيذ تعهداته, سواء فيما يتعلق بإيطاليا, أو بالتوجه في حملته التي وعد أن يتوجه بها الى الشرق, لإعادة السيطرة الصليبية على بيت المقدس.([9]) وفي سنة 1220م, اعيد تتويج فريدريك الثاني إمبراطورا في كنيسة القديس بطرس بروما, بعد أن جدد العهد للبابا بإرسال وقيادة حملة الى الشرق.([10]) بل أن فريدريك الثاني حدد في هذه المرة موعدا لانطلاق حملته, حيث أعلن أن ذلك سيتم في شهر اغسطس 1221م. وبطبيعة الحال لم يف الإمبراطور بهذا التعهد.([11])
ويبدوا أن فريدريك الثاني, لم يكن جادا في تحمسه للمشروع الصليبي, في الوقت الذي كانت فيه البابوية تتوق الى ارسال حملة صليبية على وجه السرعة؛ لإصلاح الموقف الذي نجم في المشرق, عند فشل الحملة الصليبية الخامسة على مصر. وهنا يصح أن نشير الى أن (حنا دي برين) ملك مملكة بيت المقدس, ذهب بنفسه إلى إيطاليا في خريف سنة 1222م, ليشرح للبابا والإمبراطور سوء موقف الصليبيين في الشام, مستحثا الغرب على ارسال النجدات والمساعدات العاجلة, كما زار العديد من البلدان الأوربية؛ ليطلب من ملوكها النجدة السريعة.([12])
وقد عاد الإمبراطور فريدريك الثاني, وجدد وعده بحملة تكون في سنة 1223م, ولكنه كالعادة اخلف وعده, ولم تكن اعذاره مقبولة من قبل البابا هونوريوس الثالث, الذي وجه لفريدريك الثاني نقدا شديدا. ولكن البابا ولكي يقدم اغراءات جديدة لخصمه الإمبراطور, اقترح بأن يتزوج الإمبراطور فريدريك الثاني, من وريثة عرش مملكة بيت المقدس, وهي (يولاند) ابنة حنا دي برين. والمهم في هذا الزواج, الذي تم في 9/11/1225م, أن أصبح فريدريك الثاني حاكما لمملكة بيت المقدس, وكان عليه وفقا لقوانين هذه المملكة, أن يتواجد فيها في مدة لا تتجاوز, سنة ويوم, من تاريخ الزواج, فكان على فريدريك الثاني أن يُتم رحلته الى الشرق, قبل العاشر من نوفمبر 1226م. وكالعادة لم يُتم الإمبراطور وعده.([13])
ورغم أن الإمبراطور تعهد للبابا بأن ينفذ مشروعه الصليبي في اغسطس سنة 1227م, ورغم أنه تعهد بإيداع كفالة مالية قدرها, مائة ألف أوقية من الذهب, في خزانة البابوية بروما, لا ترد الى الإمبراطور إلا إذا وفى بوعده؛ إلا أن فريدريك الثاني لم يخط خطوة واحدة في سبيل تنفيذ وعده الصليبي هذا. بل أنه عقد مؤتمرا في سنة 1226م, أعلن فيه تمسكه بحقوقه الإمبراطورية كاملة, لاسيما فيما يتعلق بالسيادة على لمبارديا. وقد فزعت المدن الإيطالية في لمبارديا - وهي الحريصة على استقلالها وسيادتها - فجددت حلفها مع البابا ضد الإمبراطور.([14])
توفي البابا هونوريوس الثالث سنة 1227م, ليتولى كرسي البابوية البابا جريجوري التاسع (1227-1241م) هذا البابا الذي كان يعرف عن تصرفات فريدريك الثاني ووعوده التي لم تنفذ, إضافة الى اجراءاته الموجهة ضد البابوية في ايطاليا.([15]) وأمتاز هذا البابا بقوة الإرادة رغم تقدم سنه, فأبى قبول الأعذار التي طالما انتحلها فريدريك الثاني لتأجيل حملته الصليبية, وأصر على ضرورة رحيل الإمبراطور إلى الشرق فورا. وكان أن أبحر الإمبراطور فعلا, قاصدا بلاد الشام, ولكنه عاد بعد أيام مدعيا المرض, مما جعل البابا يعتبر المرض تمارضا, وأصدر قرار الحرمان ضد الإمبراطور, وذلك في 29/9/1227م.([16])
* أحوال المشرق قبيل الحملة:
عمت البشائر بلاد العرب؛ بعد فشل الحملة الصليبية الخامسة سنة 618ه/1221م, واحتفل السلطان الكامل محمد صاحب مصر بهذا الانتصار, واحتفل به كامل البيت الأيوبي, ولكن لم يلبث عقد التحالف الأيوبي أن انفرط, في نهاية سنة 620ه/ 1223م, وأوائل سنة 621ه/ 1224م.([17]) فحين زال الخطر الصليبي, عاد النزاع والتنافس يفرض نفسه, على العلاقات بين السلاطين, من أبناء البيت الأيوبي. فقد بقي الأشرف موسى صاحب بلاد ما بين النهرين على عهده, أما المعظم عيسى الشقيق الثالث صاحب دمشق, فقد شعر بأنه عرضة لتحالف أخويه الكامل والأشرف ضده. وبدأت المتاعب العسكرية والسياسية تنشب من جديد بين الأخوة الأعداء.([18])
بدأ العداء والنزاع بين الأخوة, عندما قام المعظم عيسى, بمهاجمة أملاك أخويه وأقاربه, وكان الملك الأشرف آنذاك في زيارة أخيه الكامل بمصر. كان السلطان الناصر صاحب حماة, قد التزم للمعظم عيسى بمال يحمله إليه إن هو حكم حماه, ولكنه لم يف له بما وعد, فقام المعظم عيسى بمهاجمة حماه, فأغلقت المدينة أبوابها, وأشتبك أهلها مع المعظم عيسى في قتال عنيف, ثم تركها المعظم عيسى واستولى على أعمالها: المعرة وسلمية. فغضب الكامل محمد والأشرف موسى من هذه الأعمال, وأرسل الكامل إلى اخيه المعظم عيسى يطلب منه الرحيل عن حماه وأعمالها. فامتثل للأمر على مضض, وغضب على أخويه الكامل والأشرف؛ عندما أعادا المعرة وسلمية الى الناصر, وزادت الشكوك وتأكدت الوحشة بين الأخوة.([19])
وكان رد المعظم عيسى أن بدأ يكون جبهة معارضة لأخويه الأشرف والكامل, فأرسل إلى اخيه المظفر غازي صاحب خلاط, يحسن له العصيان على أخيه الأشرف موسى. فأجاب المظفر غازي إلى ذلك, وخالف أخاه الأشرف موسى, وطمع فيه. وبعد ذلك أرسل إلى أخيه الكامل محمد, تهديدا صريحا, وقال له فيما قال: وإن قصدتني لا أخذك إلا بعساكرك, فوقع الخوف في نفس الكامل محمد ممن معه, وهم أن يخرج من مصر, فلم يجسر. ثم أخذ المعظم عيسى, في مهاجمة حمص سنة 623ه/1226م, وخرب قراها ومزارعها, ولما فشل في الاستيلاء عليها تركها وعاد ادراجه.([20])
ثما سرعان ما انضم الأشرف موسى إلى أخيه المعظم عيسى ضد اخيهما السلطان الكامل.([21]) فعندما عاد الأشرف موسى من مصر, ووصل إلى دمشق, استقبله المعظم عيسى وأكرم وفادته, وظل به حتى نجح في استمالته اليه واستعداه على أخيه, وكونا حلفا مشتركا ضد السلطان الكامل ومن يؤيده ويناصره.([22]) ولم يكتف المعظم عيسى بذلك, بل تحالف مع السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه, ملك المملكة الخوارزمية, ووثق علاقته به ليستعين به على أخيه, وأرسل إليه يطلب منه النجدة, ووعده بأن يخطب له, ويضرب السكة باسمه, فسير إليه السلطان جلال الدين خلعة لبسها, وشق بها دمشق, وقطع الخطبة للسلطان الكامل.([23])
والجدير بالذكر, أنه في هذا الجو المشحون بالخلافات والفتن بين أفراد البيت الأيوبي, لاح في الأفق خطر جديد – هو خطر الخوارزمية – هدد المنطقة الشرق العربية, وقد ظهر هذا الخطر نتيجة مباشرة لحركة توسع التتار, بعد أن دمر - جنكيز - خان دولة الأتراك الخوارزمية سنة 617-618ه/1220-1221م, وكانت الهزيمة قد حلت بالسلطان علاء الدين محمد بن خوارزم شاه, فاضطر إلى الفرار إلى طبرستان, حيث توفي هناك, وخلفه أبنه جلال الدين متكبرتي, الذي أقاما في غزنة على رأس ستين ألفاً من فلول عسكر أبيه, ولكن جنكيز خان لاحقه, ففر جلال الدين ومعه رجاله إلى الهند في حين دخل التتار غزنة, وقتلوا ونهبوا وسبوا أهلها, ثم أحرقوها. ثم عادوا إلى قراقروم, في حوف قارة آسيا, فرجع السلطان جلال الدين منكرتي إلى فارس حيث التف حوله الأتراك الخوارزمية من جديد, وبذلك أحيا الدولة الخوارزمية مرة أخرى, متخذاً من أصفهان عاصمة له, وقام بمهاجمة الدولة العباسية في العراق, وطارد جيوشها حتى القرب من بغداد, وذلك سنة 622ه/1225م.([24])
وفي المقابل استعان السلطان الكامل محمد, بالإمبراطور فريدريك الثاني صاحب صقلية وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة, وطلب منه الحضور إلى الشرق؛ لمساعدته ضد أخيه المعظم والخوارزمية, ووعده بإعطائه الساحل وبيت المقدس.([25])
* العلاقات الودية والمراسلات بين السلطان الكامل والإمبراطور فريدريك الثاني:
كان فريدريك الثاني, الذي اشتهر بلقب (أعجوبة الدنيا) صقليا تربى على القيم والثقافة العربية, فقد نشأ وترعرع بجزيرة صقلية, وفي شوارعها وأزقتها, عرف حقائق الحياة, فنبذ النظام الأخلاقي الغربي. لم يكن الإسلام في نظره مجرد كتاب مغلق, كما أن المسلمين, في نظره, لم يكونوا مجرد قوم من الكفار يستحقون الفناء. لقد كانت مظاهر الثقافة والحضارة الإسلامية الراقية, آن ذاك, تقتحم ناظريه في كل مكان بالجزيرة. علاوة على ذلك فقد كان يتحدث اللغة العربية بطلاقة, كواحد من العرب.([26])
وكان فريدريك الثاني شغوفا بالعلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية, وكثيرا ما كانت تعترضه فيها مشكلات علمية, لا يجد من العلماء المحيطين به, من يقدم له حلا شافيا لها, فكان يرسلها إلى أصدقائه من ملوك المسلمين, ليعرضوها بدورهم على علماء بلدانهم, للإجابة عليها. من ذلك مثلا المسائل الرياضية والفلسفية التي أرسلها إلى السلطان الكامل, والتي أجاب عليها العالم الرياضي المصري علم الدين, ومن ثم بعث بها السلطان الكامل إلى فريدريك الثاني مع كتاب في علم الفلك, على سبيل الهدية. كذلك أرسل فريدريك الثاني مجموعة من الاسئلة الفلسفية إلى الفيلسوف المتصوف الأندلسي أبن سبعين, وهي مسائل عن الكون والنفس والعلم الإلهي... الخ. وقد أجاب عليها ابن سبعين, وعرفت هذه الاسئلة, بالمسائل الصقلية لأن الإمبراطور كان مقيما في صقلية.([27])
كان الإمبراطور فريدريك الثاني, يرى أن عليه تحقيق الفكرة التي ثارت برأس ريتشارد قلب الأسد ملك انجلترا وصلاح الدين الأيوبي من قبل, وهي فكرة التسوية السلمية بين المسيحيين والمسلمين. ودارت بينه وبين السلطان الكامل من أجل ذلك مباحثات.([28]) وقد انتظمت السفارات بين الجانبين منذ سنة 623ه/1226م, بغية الوصول إلى اتفاق ودي عام بين الجانبين.([29]) وقد الح السلطان الكامل, على فريدريك الثاني, بالحضور إلى الشرق لمساعدته, وأرسل اليه الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ صدر الدين بن حمويه.([30])
وقد رد الإمبراطور فريدريك الثاني, على سفارة السلطان الكامل محمد, بسفارة مماثلة, تحمل هدايا وتحف إلى الكامل, كان فيها عدة خيول, منها فرس السلطان بمركب ذهب مرصع بجواهر فاخرة. فأمر السلطان الكامل أن يرحب بتلك السفارة على طول الطريق, من الإسكندرية إلى القاهرة. بل خرج الكامل بنفسه لاستقبالها عندما اقتربت من القاهرة, وأكرم أعضاء السفارة إكراما زائدا, وأنزلهم في دار الوزير صفي الدين بن شكر, كذلك أرسل الكامل محمد, جمال الدين بن منقذ الشيزري, بهدية عظيمة إلى الإمبراطور فريدريك, تحتوي على تحف من الهند واليمن والعراق والشام ومصر.([31])
* تحرك الإمبراطور وسير الحملة:
في أبريل 1228م/626ه, توفيت (يولاند) زوجة الإمبراطور فريدريك الثاني, ولكن بعد أن أنجبت له ولدا أسمته (كونراد), فكان الإمبراطور بذلك وصيا على عرش ابنه الصغير, صاحب الحق الشرعي في حكم مملكة بيت المقدس.([32]) وإزاء التطورات السالفة الذكر, ولا سيما الصراع الذي وصل حدا عاليا من التوتر بين فريدريك الثاني والبابوية. وإزاء التطورات المشجعة على التحرك في الشرق, قرر فريدريك الثاني أن يقوم بحملته, فتحرك بقوات بحرية تتكون من: 40سفينة, لا يتجاوز عدد رجالها الستمائة فارس.([33])
خرج فريدريك الثاني من بلاده قاصدا الشرق, معتمدا على فكرة واحدة, وهي الحصول على بيت المقدس من السلطان الكامل محمد, مقابل ما يقدمه له من مساعدات. وفي طريقه استولى على جزيرة قبرص, وبعد أن أقام بها 43 يوما واصل تحركه نحو الشام, وقد تشجع المسيحيون في بلاد الشام وأشتد ساعدهم؛ لما سمعوا بمقدم الإمبراطور. فقاموا بتحصين قيسارية ويافا, وغيرها من المدن, واتجهوا نحو صيدا التي كانت أراضيها مناصفة بين المسلمين والمسيحيين, وسورها خراب, فعمروها, وطردوا المسلمين من نصيبهم, وحصنوا جزيرة قلعة البحر عند الطرف الشمالي الشرقي من الميناء, وأعادوا بناء حصن القين إلى الشمال الشرقي من عكا, ثم قاموا بعد ذلك في ربيع سنة626ه/1228م, بإعادة بناء قلعة قيسارية التي كان المعظم عيسى قد هدمها.([34])
في هذه الأثناء, توفي المعظم عيسى بدمشق, في شهر ذي القعدة سنة 624ه/1226م, وتولى ابنه الناصر داؤود, الذي رفض طلب عمه الكامل محمد, بأن يترك له قلعة الشوبك ليجعلها خزانة له, فعزم اليه الكامل, ونزل بغزة مخيما بتل العجول, وبعث ولاته إلى نابلس والقدس والخليل وغيرها من الأعمال. وفي تل العجول تم الاتفاق بين الكامل محمد واخيه الأشرف موسى, على انتزاع دمشق من ابن اخيهما الناصر داؤود, وأن تكون للأشرف وما معها من الأعمال إلى عقبة فيق. ويكون للناصر داؤود عوضا عن دمشق, حران والرقة والرها وسروج ورأس عين وجملين والموزر, وهي ما كانت للأشرف. واتفقوا أيضا على أن تنزع بعلبك من الأمجد بهرام شاه, وتعطى هي وأعمالها لأخيهما العزيز عثمان, وأن تنزع حماة من السلطان الناصر قلج أرسلان بن المنصور, وتعطى للمظفر تقي الدين محمود بن المنصور, وأن تؤخذ من المظفر سلمية, وتضاف إلى السلطان المجاهد صاحب حمص.([35])
وصل فريدريك الثاني, فوجد الأمور قد تغيرت, فخشي أن ينكث الكامل بوعده. في الوقت الذي لم يكن فيه على استعداد للقيام بعمل عسكري كبير ومطول, ولم تكن الظروف في مصلحته, إذ وصلته أخبار تفيد بأن البابا أصدر في حقه قرار الحرمان للمرة الثانية, وأباح لرعاياه الاعتداء على ممتلكاته. بل وأشاعت البابوية بأن الإمبراطور قد مات, ومن ثم أصبح للبابا الحق في الوصاية على الإمبراطورية, فترك ذلك أسوء الأثر في نفس الإمبراطور, وجعله يفكر في العودة, ولكن بعد أن يحقق شيئا يمكنه أن يفخر به أمام الأوربيين, فإن عاد بدون ذلك فإن موقفه سيكون حرجا أمام شعبه.([36])
لم يستطع الكامل أن يجد ما يقوله لفريدريك الثاني, وهو الذي جاء بناء على طلبه, ولم يمكنه دفعه ولا محاربته, فراسله ولاطفه. ذلك أن الكامل تورط معه, وخاف من غائلته.([37]) كان فريدريك الثاني يريد أن يحصل على بيت المقدس بأي ثمن؛ حتى يحقق نجاحا كبيرا, ليس للصليبيين على المسلمين, ولكن لنفسه على البابوية, وكانت البابوية نفسها حريصة على ألا ينال فريدريك الثاني هذا الشرف؛ حتى لا يكسبه ذلك شرفا ونصرا في معركته ضدها, لذلك أخذت البابوية ترسل الرسل والخطابات إلى السلطان الكامل, تحرضه على عدم تسليم بيت المقدس للإمبراطور, ولا عجب فالبابا كان يعلم أنه لو قدر لفريدريك الانتصار في مهمته, فإن ذلك سيكون في نظر المعارضين, بمثابة حكم الله للإمبراطور المحروم, وفي هذا فصل الخطاب بين الإمبراطور والبابوية.([38])
* معاهدة يافا:
على أية حال, جرت مفاوضات وتبادل رسل بين الطرفين, برزت من خلالها شخصية الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ والشريف شمس الدين الأرموي قاضي نابلس, من الطرف الأيوبي. وشخصية توماس الأكوني وباليان صاحب صيدا من الطرف المسيحي.([39]) وقد انتهت هذه المفاوضات بعقد معاهدة يافا, في الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة 626ه/ الثامن عشر من فبراير سنة 1229م, وكان أهم ما ورد فيها:
1- أن تسلم بيت المقدس وبيت لحم والناصرة وتبنين وصيدا بأكملها للإمبراطور, بشرط أن يبقيها على ما هي عليه من الخراب, فلا يحق له أن يجدد أسوارها, وأن تكون سائر القرى المحيطة بالقدس للمسلمين, وتدار من قبل المسلمين عن طريق والي يقيم في منطقة البيرة.
2- أن يحتفظ الجانب الإسلامي بالأماكن المقدسة في القدس, وهي قبة الصخرة والمسجد, على أن يسمح للمسيحيين بالخول إلى هذه المناطق للزيارة فقط.
3- أن يأخذ المسيحيون جميع القرى والمناطق الساحلية والداخلية, الواقعة على الطريق من يافا إلى بيت المقدس, وذلك كنوع من الوصل الجغرافي بين ما يمتلكه المسيحيون بموجب هذه الاتفاقية مع ما كان بأيديهم من قبل.
4- يتعهد فريدريك الثاني بعدم الاشتراك أو المساعدة في حملات قادمة, بل ويتعهد بمحالفة السلطان الكامل ضد جميع أعدائه ولو كانوا مسيحيين.
5- أن يضمن الإمبراطور عرقلة وصول إمدادات إلى الإمارتين المسيحيتين في أنطاكية وطرابلس, وأن يبلغ السلطان بأي عمل عدواني محتمل.
6- أن يستمر العمل بهذه المعاهدة لمدة عشر سنوات.([40])
لقد أتاحت هذه الهدنة فترة سلام استمرت عشر سنوات, تمكن الصليبيون خلالها من تدعيم مراكزهم, وتوطيد وجودهم. من جانب آخر أمن السلطان الكامل من وصول حملات جديدة إلى بلاده, واستطاع أن يوحد صفوف الدولة الأيوبية من جديد.([41])
* استلام بيت المقدس:
بعد أن عقد الاتفاق, بعث السلطان الكامل رسله إلى بيت المقدس, فنادوا بخروج المسلمين منه, وتسليمه للمسيحيين. ثم أرسل اخاه الأشرف ليحاصر دمشق, لانتزاعها من ابن أخيه, الذي انتقد تصرفات الكامل وتسليمه بيت المقدس للمسيحيين. وقد استأذن الإمبراطور فريدريك الثاني, من السلطان الكامل في دخول بيت المقدس, فأجابه إلى طلبه وسير القاضي شمس الدين في خدمته, وليقوم بتسليمه بيت المقدس.([42]) دخل الإمبراطور فريدريك الثاني, مدينة القدس يوم 17/3/1229م/626ه, وتوج نفسه إمبراطورا لمملكة بيت المقدس في كنيسة القيامة. ولم يفت فريدريك الثاني وهو في القدس, أن يبعث برسالة إلى الغرب الأوربي مبينا فيها ما استطاع تحقيقه, وكانت هذه الرسالة موجهة إلى الملك الانجليزي هنري الثالث.([43])
وبعد أن عقد الإمبراطور فريدريك الثاني, مجلسا صغيرا لبحث شئون الدفاع عن بيت المقدس, طاف بالقدس ودخل جميع المزارات.([44]) وبعد ذلك مضى ونزل في الدار التي خصصت لإقامته. ثم رحل إلى عكا ومنها إلى أوربا, وذلك في أواخر جمادي الآخرة سنة 626ه/ أول مايو سنة 1229م. وبذلك انتهت الحملة الصليبية السادسة, والتي تعتبر من أغرب الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي.([45])
* الرأي العام الإسلامي –الصليبي من المعاهدة:
أغضبت هذه المعاهدة المسلمين والصليبيين جميعا, فقال المسلمون: أنها جاءت بالهوان والاستسلام. على حين قال الصليبيون: أن الإمبراطور فريدريك الثاني, نزل إلى حد المفاوضة مع المسلمين, بدلا من محاربتهم لتخليص الأراضي المقدسة من أيديهم.([46]) فالصليبيون لا يريدون مسالمة المسلمين, بل يعتقدون بوجوب محاربتهم.([47])
لقد اعتبر العالم الإسلامي هذه المعاهدة, كارثة حقيقية, وجرم ارتكبه السلطان الكامل بحق المسلمين, وكانت ردة الفعل الشعبية عنيفة ضد الكامل, لقد نعتوه بالخيانة والتقصير, واعتبروا هذا العمل, وصمة عار في جبين المسلمين, وخرج الناس في الشوارع, وأمام القصور ينددون بفعلة السلطان الكامل.([48])
استعظم المسلمون ذلك وأكبروه, ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه.([49]) واشتد بغض الناس وكراهيتهم للكامل, وكثرت الشناعات عليه في سائر الأقطار.([50]) وامتلأت مساجد القاهرة ودمشق وبغداد, وغيرها من المدن الإسلامية, بالخطباء الناقمين على السلطان. وعلى الرغم من أن السلطان بعث سفراءه ورسله في كل مكان لتبرير فعلته, فان الرأي العام الإسلامي لم يغفر له.([51])
هذا ومن الله التوفيق
[1]- حمدي عبدالمنعم, دراسات في تاريخ الأيوبيين والممالك, دار المعرفة الجامعية, مصر, 1998. ص: 113 ؛ أحمد العبادي, في التاريخ الأيوبي والمملوكي, مؤسسة شباب الجامعة, الإسكندرية, 2000. ص: 79
[2]- قاسم عبده قاسم و علي السيد علي, الأيوبيون والمماليك (التاريخ السياسي والعسكري), ط/2, عين, مصر, 1996. ص: 97
[3]- نفس المرجع, ص: 97
[4]- نفس المرجع, ص: 99 ؛ نعمان محمود جبران, مؤسسة حمادي, الأردن, 2000. ص: 180
[5]- رجب محمود إبراهيم, تاريخ الدولة الأيوبية, مكتبة الإيمان - مكتبة جزيرة الورد, المنصورة - القاهرة, 2009. ص: 450
[6]- نفس المرجع, ص: 450
[7]- نعمان محمود جبران, مرجع سابق, ص: 175
[8]- رجب محمود إبراهيم, مرجع سابق, ص: 450
[9]- نعمان محمود جبران, مرجع سابق, ص: 176
[10]- رجب محمود إبراهيم, مرجع سابق, ص: 451
[11]- نعمان محمود جبران, مرجع سابق, ص: 176
[12]- رجب محمود إبراهيم, مرجع سابق, ص: 451
[13]- نعمان محمود جبران, مرجع سابق, ص: 177
[14]- رجب محمود إبراهيم, مرجع سابق, ص: 452
[15]- نعمان محمود جبران, مرجع سابق, ص:177
[16]- رجب محمود إبراهيم, مرجع سابق, ص: 453
[17]-نفس المرجع, ص:447
[18]- قاسم عبده قاسم و علي السيد علي,مرجع سابق, ص: 97
[19]- رجب محمود إبراهيم, مرجع سابق, ص:447
[20]- نفس المرجع, ص: 448
[21]- حمدي عبدالمنعم, مرجع سابق, ص: 114
[22]- رجب محمود إبراهيم, مرجع سابق, ص: 447
[23]- حمدي عبدالمنعم, مرجع سابق, ص: 114
[24]- رجب محمود إبراهيم, مرجع سابق, ص: 449
[25]- نفس المرجع, ص: 449
[26]- قاسم عبده قاسم و علي السيد علي, مرجع سابق, ص:97
[27]- أحمد العبادي, مرجع سابق, ص: 80
[28]- إبراهيم أحمد العدوي, مصر الإسلامية درع العروبة ورباط الإسلام, مطبعة هيئة الآثار المصرية, مصر, د.ت. ص: 286
[29]- قاسم عبده قاسم و علي السيد علي, مرجع سابق, ص: 98
[30]- رجب محمود إبراهيم, مرجع سابق, ص: 452
[31]- حمدي عبدالمنعم, مرجع سابق, ص:114
[32]- رجب محمود إبراهيم, مرجع سابق, ص:453
[33]- نعمان محمود جبران, مرجع سابق, ص:178
[34]- رجب محمود إبراهيم, مرجع سابق, ص:453
[35]- حمدي عبد المنعم, مرجع سابق, ص: 116
[36]- رجب محمود إبراهيم, مرجع سابق, ص: 455
[37]- طارق السويدان, فلسطين التاريخ المصور, ط/6, الإبداع الفكري, الكويت, 2005. ص: 175
[38]- رجب محمود إبراهيم, مرجع سابق, ص: 456
[39]- نعمان محمود جبران, مرجع سابق, ص: 179
[40]- محمد حسين محاسنة وآخرون, تاريخ مدينة القدس, دار حنين, عمان, 2003. ص: 182 ؛ رجب محمود إبراهيم, مرجع سابق, ص: 457 ؛ نعمان محمود جبران, مرجع سابق, ص: 179 ؛ حمدي عبدالمنعم, مرجع سابق, ص: 119
[41]- قاسم عبده قاسم و علي السيد علي, مرجع سابق, ص:99
[42]- رجب محمود إبراهيم, مرجع سابق, ص:459
[43]- نعمان محمود جبران, مرجع سابق, ص:180
[44]- رجب محمود إبراهيم, مرجع سابق, ص:458
[45]- حمدي عبدالمنعم, مرجع سابق, ص:120
[46]- إبراهيم أحمد العدوي,مرجع سابق, ص: 286
[47]- حمدي عبدالمنعم, مرجع سابق, ص: 120
[48]- محمد حسين محاسنة وآخرون,مرجع سابق, ص: 183
[49]- ابن الأثير, الكامل في التاريخ, ج/12, دار صادر – دار بيروت, بيروت, 1966. ص: 483
[50]- رجب محمود إبراهيم, مرجع سابق, ص:457
[51]- قاسم عبده قاسم و علي السيد علي, مرجع سابق, ص: 99
دعوة للتبرع
شكرا لك واهلا بك : إلى الأست اذ العزي ز أحمد صبحي منصور ......
هو صبى فاضل: السلا م عليكم . ظهرت لصبي علاما ت البلو غ, ...
إحتار دليلى .!: انا كنت بعيدة عن البحث الدين ي ومؤخر ا ...
اللواط بالاكراه: هل اللوا ط بالاك راه وعند الضرو رة ذتب...
أب فاسق سكير: والدى سكير يسىء معامل ة والدت ى ، ولا يكف عن...
more