كمال غبريال Ýí 2013-05-03
اختفاء فتاة مع شاب من غير دينها، وحشود إما تبكي وتولول مدعية الاستهداف والاضطهاد، مطالبة بعودة ابنتها القديسة المخطوفة بغرض أسلمتها جبرياً، أو جحافل تحمل الأحجار والسيوف والمولوتوف، تهاجم كنيسة ومتاجر وصيدليات وأبرياء آمنين وهي تهتف الله أكبر. . هو ذات السيناريو العجيب الذي صار متكرراً في مصر إلى حد الملل والضجر. . في أحدث حلقات ذلك المسلسل اللعين نشهد المصريين في مركز الوسطى محافظة بني سويف مسلمين ومسيحيين يأكلون من طبيخ الطائفية الذي يتقنه الطرفان، يقوم الطرف القوي بطحن الضعيف، فيما وزارة الداخلية تلعب لعبة "الكلب الحيران" بينهما، وفي الأغلب تلتزم الحياد بين قاذفي الأحجار والمولوتوف، وبين من يختبئون رعباً وهلعاً، لتأتي في نهاية الأحداث لتلقي القبض على أعداد شبه متساوية من الطرفين (القاتل والمقتول)، ليضطرا بعد ذلك لما يسمى صلح (أو إذعان) عرفي، ويتم تجاهل المرحومة "سيادة القانون" والمأسوف عليها "دولة"!!
لكن في هذه الحلقة الأخيرة بالذات من المسلسل ربما يلقن الغوغاء وذئاب التعصب في الوسطى درساً أليماً للأقباط، بأن يكفوا عن لعبة اعتبار الفتاة الهاربة بدواعي العشق مسألة اختطاف لتغيير إجباري للديانة، وهو ما احترفه وأدمنه الأقباط طوال الفترة الماضية، وعموماً سواء استوعب أي أحد أي درس، أم عجز الجميع عن ذلك كما هي عادة المصريين ومن يماثلهم من شعوب لفظها الزمن ونسيته ونسيها، من العدالة أن يشرب الشعب المصري من كأس أو بلاعة الطائفية التي يغرق فيها الجميع حتى هامة الرأس.
في مثل هذه الحوادث التي يكون محورها هروب امرأة مع رجل على دين غير دينها، تتحول قضية شخصية تعني شخص الهاربة وعشيقها فقط، أو بالأكثر تعني عائلة الأنثى، لما تعانيه من جزع على ابنتها، ومن عار تستشعره أمام مجتمع شديد المحافظة، تتحول إلى قضية جماعية طائفية تعني كل أبناء دينها، الذين يصيرون صفاً أو جيشاً واحداً في مواجهة كل المنتمين للدين الآخر، الذين يصيرون في هذه الحالة هم المتهم أو العدو، وليس فقط شخوص المشاركين في حدث اختفاء الأنثى، وهذا ما صار يحدث أيضاً إزاء أي مشاجرة عادية بين شخصين أو بين تاجر وأحد زبائنه، إذا ما كان الطرفان ينتميان لديانتين مختلفتين، كما صارت أي جريمة يكون المجني عليه فيها قبطي محل شك في أن يكون قد ارتكبها مسلم بدوافع طائفية، أي تعد جريمة موجهة للأقباط جميعاً قام بها المسلمون على إطلاقهم حتى يثبت العكس. . هذه الروح والثقافة الجماعية التي تتولد عن "روح قطيع" تعجز عن إدراك الفارق بين ما هو بطبيعته محل اهتمام عام لمجموعة ما، إذ تنسحب إيجابياته وسلبياته عليها، وبين ما ينبغي أن يظل أمراً شخصياً يهم صاحبه فقط، ولا يجب أن يتعداه إلا لعدد من الأصدقاء الذين قد يتطوعون لمساندة صديق وإن في أمر يخصه وحده، هذا بالطبع بجانب الاهتمام العام للوطن في تفعيل سيادة القانون بمنأى عن الانتماء الطائفي، والحقيقة أن هذه الحالة من التعصب المتبادل ليست مجرد ظاهرة عارضة وليدة حالة الاحتقان الديني السائدة في مصر منذ سبعينات القرن الماضي فقط، لكنها ترجع بالأساس إلى طبيعة الثقافة المصرية أو الشرقية الجماعية المسماة ثقافة "بطريركية".
"البطريركية" بمعنى "الأبوية" و"الكهانة" ترافقهما "الذكورية" بمعنى سيادة الرجل استعباداً وتهميشاً للمرأة وتحكماً مطلقاً في حياتها ومصيرها، والتي من بين أعراضها اعتبار المرأة مجرد "أنثى" تشكل "شيئاً" أو "ثروة خاصة" معرضة للسلب أو السبي من قبل قبائل عدوة، هذه كلها مفاهيم سادت بدايات المجتمعات الإنسانية الأولى بعد المرحلة الزراعية "الأمومية"، واتصفت بها مسيرة تطور البشرية طوال الجزء الأكبر حتى الآن من التاريخ الإنساني، وفيها احتكر "الحكمة" فرد واحد كان في أحيان هو "الأقوى"، وفي أحيان أخرى وقف مستتراً خلف الأقوى يحركه حسبما تلهمه "حكمته"، ومع انتشار العلم في العصور الأخيرة بين عامة الناس، ما أذن بانتهاء عصر الإقطاع وبزوغ الثورة الصناعية، بدأ الناس يستشعرون أن "الأبوية" وأخوتها أغلال في أقدام الساعين إلى التقدم والتطور، فبدأ في أوروبا مهد الثورة الصناعية انتشار الروح "الفردية"، واستشعار "المسئولية الشخصية" للإنسان عن نفسه وعن مصيره، وأن لا أحداً غير الإنسان ذاته يمكن أن يحدد له أي الخيارات هي الأكثر صواباً، وانتشرت هذه الروح تدريجياً لتدفع الإنسان قفزات وليس فقط خطوات في طريق التقدم والتطور، فيما بقيت شعوب أخرى عاجزة عن استيعاب العلوم الحديثة وخبراتها، وبقيت أساليب الإنتاج ومعها العلاقات الاجتماعية تتطور بصعوبة بالغة عبر ثقافة متحجرة تستعصي على تطور مواز، فكان أن ظلت "الأبوية" و"الكهانة" و"الذكورية" هي العمود الفقري لحياة الناس، الذين ظلوا يرون الحياة ويرون أنفسهم كقطعان تتعلق قلوبها قبل عيونها بإشارات عصا الراعي، الذي تتصور أنها بدونه سوف تضيع في عالم مجهول وقاس، وبالتالي تظل تلك الشعوب تجرجر أقدامها المغلولة بسلاسل حكمة "الكهان" و"البطاركة"، فيما من حولها من شعوب ينطلق محلقاً في سماوات مفتوحة نحو حياة أرقى جديرة بأن تعاش.
ينسحب كلامنا هذا على جميع مكونات المجتمع المصري باختلاف انتماءات أفراده الدينية، والحقيقة أن الراصد للتغيرات الحادثة الآن في ثقافة المسلم المصري يستطيع أن يرى الإمكانيات المستقبلية الكبيرة نسبياً للتطور باتجاه مفارقة الثقافة "الأبوية"، رغم ما نشهده من تنامي التطرف والتعصب الديني الذي يقوده مشايخ أو "رجال دين" يلعبون دور "الكهنة" الإسلاميين، وترجع إمكانية التطور هذه في جزء منها إلى طبيعة الإيمان الإسلامي، الذي لا يعرف كهنة أو كهانة، وأن الكثيرين من "رجال الدين الإسلامي" المستنيرين يقفون الآن في صف دعاة التقدم والحداثة لمحاولة النأي بالخطاب والتدين الإسلامي عن روح الكهانة التي روجها دعاة التطرف ليقيموا من أنفسهم أوصياء على الناس بموجبها.
أما إذا أتينا إلى الشاطئ القبطي، فيبدو أن ما تصوره كثيرون أنه سيكون ربيعاً للتغير في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وذلك بتولي بطريرك جديد قيادة الكنيسة، هو أقرب للأمنيات الهائمة في سماوات الأحلام، إذ لا تستند إلى ما يكفي من عناصر ترجحها في أرض الواقع، أو بالأصح في عالم الكنيسة الذي ظل طوال أربعة عقود مرتعاً للتجريف والفساد بكافة صنوفه، وتعاظمت فيها الهيمنة "البطريركية" بأضعاف حجم هيمنتها عبر تاريخها الطويل، نتيجة لطبيعة شخصية وأداء الأنبا شنودة، ولطبيعة الظروف السياسية في الفترة التي مارس فيها هيمنته.
الأرجح أنه لن تنجح في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أي محاولات للإصلاح، ففيالق الأساقفة المسيطرين عليها من تلاميذ الأنبا شنودة أمامهم سنوات طويلة من العمر قبل أن يخلوا مواقعهم لأجيال جديدة، وشبكة العلاقات الكنسية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قبل الدينية التي ترسخت طوال الفترة الماضية تحتاج لثورة شاملة لتغييرها، إذ لا يفيد فيها التعديل والتطوير، والبطريرك الجديد حتى بافتراض تمتعه بشخصية إدارية قوية وامتلاكه لإرادة ورؤية إصلاحية، وهذا مشكوك فيه بدرجة تفوق احتمال تحققه، لن يستطيع السير بالكنيسة باتجاه الإصلاح، فلن يسمح له بذلك الحرس القديم واسع النفوذ ضخم الثروة متعدد العلاقات، علاوة على أن قادة الكنيسة بوجه عام أصحاب مصلحة شخصية في بقاء الوضع والفكر والتعليم الكنسي على ما هو عليه، تعظيماً لدور الكهنة والكنيسة في حياة الناس، فمن العسير أن تتنازل الكنيسة عن المكاسب التي حققتها (ولو على حساب الشعب)، بأن تكون هي الوطن والملاذ للأقباط، وأن تذهب هي عن طيب خاطر للوطن، أو تقدم للوطن مواطنين صالحين للتفاعل الخلاق مع سائر مكونات وفرقاء الوطن، دون هواجس استشعار الغربة والاستهداف والاضطهاد، حتى تتوقف الكنيسة والأقباط بداخلها أن تكون جزءاً عليلاً يئن من جسد الوطن الموجوعة كل مكوناته.
هكذا يكون التغيير الممكن أو المتوقع هو ما يأتي من الخارج، من الشباب القبطي الذي يتغير مع سائر ما يتغير من أحوال الوطن، والذين بدأت بالفعل طلائعهم تشارك بفاعلية في ثورة الشباب المصري من أجل الحرية والكرامة والحياة الأفضل، لينقل هذا التغيير تلقائياً وتدريجياً إلى الكنيسة، لكن هذا يعنى اضمحلال أمل الكثيرين من النشطاء السياسيين باختلاف انتماءاتهم الدينية، في أن تكون الكنيسة قوة مضافة لصالح المستقبل الليبرالي، فتكون أحد أدوات وقوى التغيير والتطور في مصر، بدلاً من أن تحصر نفسها كما هي الآن في دور المفعول به، بل والمعاند المضاد لمسيرة التطور، وهو الموقف الذي لابد أن ينعكس سلبياً في مستقبل نظنه قريباً على موقع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بل والدين ذاته في نفوس الناس، ويتمثل ذلك فيما نشهد بالفعل من تحول الشباب للكنيسة البروتستانتية الأكثر مرونة وانفتاحاً، وكذا في انتشار موجة إلحاد بدأت تباشيرها في الظهور بالفعل.
الجزء الأكبر من العوامل المادية الموجبة لسيادة الثقافة "البطريركية" قد زال أو كاد في أغلب مكونات المجتمع المصري، لذا يمكننا القول أن اندحار أو أفول الروح والثقافة "البطريركية" في مصر لابد أن يأتي عبر التغيرات السياسية والثقافية في المجتمع المصري، والتي تتأخر بمراحل عن مستوى التطور المادي، وربما يلعب الأزهر إذا لم يهيمن عليه الإخوان والسلفيون دوراً محورياً في هذا، بعدها يمكن أن تتسرب رياح التغيير إلى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، أو لعلها تقفز إليها من فوق أسوارها العالية الحصينة.
kghobrial@yahoo.com
ايلاف
دعوة للتبرع
علم تأويله: قوله جل وعلا : ( هُوَ الَّذ ِي أَنْز َلَ ...
محمد عبد المجيد . : الاست اذ الكبي ر الفاض ل محمد عبد المجي د ...
حلائل ابنائكم : ما معنى قوله تعالى ( وحلائ ل ابناء كم الذين...
العلمانية المؤمنة : - هل في الدول ة العلم انية الموم نة الكل...
more