التجربة السياسية للإسلاميين ليست مقنعة
قال الدكتور أحمد الريسوني، الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح المغربية وعضو مكتبها التنفيذي الحالي، إن التجربة السياسية للإسلاميين ليست مقنعة.
وقال الريسوني، وهو أحد أبرز علماء المغرب في الوقت الحالي، إن العالم الإسلامي يشهد منذ عقود ما يسمى "الصحوة الإسلامية" ويعيش عودة متزايدة للعلماء. وأكد أن "الصحوة نفسها من أسبابها جهود العلماء، وهي تعيد لهم مكانتهم".
وعن دور العلماء في المغرب، قال الريسوني إنهم "ما زالوا موجودين بعدد، وما زالت المؤسسات التي تنتج العلماء قائمة، لكن تم تهميشهم وتقزيم دورهم منذ الاستقلال".
وأضاف أن "هناك سياسة مقصودة أخمدت هذه المؤسسات وشلتها شيئا فشيئا"، وأن "كل صناع السياسة العامة للبلاد منذ الاستقلال شركاء في صنع هذه الوضعية".
الدكتور أحمد الريسوني، نود في البداية أن نسألكم عن مكانة العلماء في العالم العربي والإسلامي بين الأمس واليوم، لماذا نلاحظ تدهور مكانتهم؟
بسم الله الرحمن الرحيم، الوضع الطبيعي والواضح لمكانة العلماء في أي مجتمع إسلامي هو دور الريادة والقيادة والصدارة، هذا شيء طبيعي جدا، لأن هؤلاء العلماء بسبب تخصصهم في الإسلام علوما وفقها وثقافة وحضارة، يمثلون خزان ومستودع المرجعية الإسلامية التي يعول عليها كل مسلم.
فالمسلم العادي حينما يتطلع إلى النهل من دينه وثقافته، ويريد أن يعرف حكم شرعه ومقتضى عقيدته، من الطبيعي أن يلجأ في غالب الأحيان إلى العلماء مباشرة، وحتى إذا ما لجأ إلى الكتب فهو أيضا يلجأ إلى العلماء ما داموا هم الذين كتب الله لهم التخصص في هذا الأمر بأن يكونوا مراجع وهداة ومرشدين ومفسرين لمقتضيات الدين.
فهذا يعطي تلقائيا الدور الريادي للعلماء في المجتمعات الإسلامية كلها، وهذا هو الوضع الذي كان عليه العلماء على مر العصور.
صحيح أنه كثيرا ما كان يحصل تنافس وتعارض بين العلماء والأمراء على قيادة المجتمع، وخاصة عند حصول افتراق بين القرآن والسلطان حسب العبارة المعروفة في الثقافة الإسلامية، وإلا فالوضع الطبيعي أن يكون العلماء أمراء والأمراء علماء، لكن حينما افترق القرآن والسلطان كان هناك نوع من التنافس على قيادة الجماهير وقيادة الأمة.
لكن بصفة عامة سواء مع وجود منافس أو بدون منافس، العلماء دائما يوجدون في الصدارة، إما إلى جانب الأمراء، أو في تنافس وخلاف مع الأمراء، وإما في انسجام وتعاون. وهذا الوضع استمر إلى غاية العصر الحديث.
وقد بدأت هذه الوضعية تتزحزح بفعل عوامل كثيرة يجملها ويختصرها وجود الاستعمار وآثاره الثقافية والتعليمية والسياسية، ومع ذلك ما زالت مكانة العلماء محفوظة، إن لم تكن في الواقع ففي نفوس الناس.
في الواقع المعاصر وعلى طول خارطة العالم الإسلامي بما فيه الجاليات والأقليات المسلمة في الغرب والشرق، هل هناك دور طلائعي ريادي للعلماء الآن؟
ربما في منتصف القرن العشرين وقبله وبعده بقليل كانت وضعية العلماء تعرف أسوأ فتراتها وأحوالها، لأن الوجود الاستعماري كان قد بلغ ذروة تأثيره وهيمنته وتفريخه لأعوانه ومثقفيه وأنصاره، لكننا اليوم بحمد الله نعيش منذ عقود ما يسمى الصحوة الإسلامية، وهي مصحوبة تماما بعودة مماثلة وموازية للعلماء.
فالصحوة نفسها من أسبابها جهود العلماء، وهي تعيد لهم مكانتهم، لأن العقود الأخيرة القريبة شهدت عودة متزايدة للعلماء. ففي إيران على سبيل المثال كان العلماء مضطهدين ومنفيين ومكبوتين في حوزاتهم أو خارج بلدهم، فإذا بهم في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات يسيطرون على كل شيء في البلاد.
فمكانة العلماء تزداد اتساعا وتعود أكثر فأكثر إلى قوتها وحيويتها، سواء في العالم الشيعي كالعراق وإيران إضافة إلى لبنان، أو في العالم السني مثل باكستان وأفغانستان وماليزيا وإندونيسيا إلى الجزائر ونيجيريا والسنغال والصومال، مرورا بكافة الدول العربية والإسلامية كمصر واليمن والسودان والسعودية، فالخط العام في هذه العقود الأخيرة هو العودة المتصاعدة المتنامية للعلماء.
الآن على سبيل المثال في العراق، منذ سقوط نظام صدام حسين، ووجود فسحة أكثر للتحرك، العلماء تصدروا الزعامات السياسية والاجتماعية والثقافية في العراق سواء كانوا سنة أو شيعة. في لبنان، رغم الوضع الخاص له، الآن هناك دور فعال متزايد ومسترسل لم يتوقف حتى هذه اللحظة.
ذكرتم أن العلماء يتصدرون الزعامات الثقافية والسياسية والاجتماعية في عدة بلدان إسلامية، لكن لماذا لا يتصدرون الزعامة في بلدان مثل تونس والمغرب مثلا؟
بطبيعة الحال الأوضاع مختلفة ومتفاوتة. أنا تحدثت عن الوضع والتوجه العام للأوضاع، لكن هذا يختلف. نعم المغرب وتونس من الحالات التي يمكن الحديث عنها بنوع من الخصوصية.
ففي تونس يمكن أن نقول إنه تم القضاء نهائيا على دور العلماء ومؤسستهم، فبعضهم تفرقوا في الأمصار ويعيشون في المنافي بالدول العربية والأوروبية، وبعضهم محصورون يموتون واحدا بعد آخر، وتم تجفيف منابع تكوين وتخريج العلماء خاصة جامعة الزيتونة، بل إن هذه الجامعة تحولت إلى مصنع للعلمانيين والأيديولوجيين الذين يشتغلون مع النظام بتفسير لاديني للدين، هو أقرب ما يكون إلى نفيه ومحاربته. هذا وضع تونس.
"
الوضع الطبيعي أن يكون العلماء أمراء والأمراء علماء، لكن حينما افترق القرآن والسلطان كان هناك نوع من التنافس على قيادة الجماهير والأمة
"
أما في المغرب، فما زال العلماء موجودين بعدد، وما زالت المؤسسات التي تنتج العلماء قائمة، لكن تم تهميشهم وتقزيم دورهم منذ الاستقلال. نحن نعرف أنه قبل الاستقلال في أيام الحركة الوطنية وأيام الجهاد والمقاومة، كان العلماء هم الموجهين والمنظرين والميدانيين أيضا، لكن بمجيء الاستقلال تم تهميشهم شيئا فشيئا. نحن نعرف أن عددا من العلماء تولوا مناصب وزارية، بل مناصب ولاة وعمال، مناصب متعددة في بداية الاستقلال.
لكن عجلة العلمنة والفرنسة والتغريب، التي دارت بقوة بعد الاستقلال أكثر مما دارت قبل الاستقلال، أفضت في النهاية إلى إقصاء هؤلاء العلماء وأصبحوا يعقدون مؤتمراتهم في ظل رابطة علماء المغرب، ويصدرون البيانات والمطالب ويسجلون المواقف، لكن الآن في هذه السنين الأخيرة حتى هذه المؤتمرات لم تعد قائمة، لا مؤتمرات الرابطة ولا مؤتمرات جمعية العلماء خريجي دار الحديث الحسنية، ولا جمعية علماء سوس ولا غيرها.
بمعنى أنه حتى العلماء كجمعيات أو كمثقفين مثل غيرهم من المثقفين لم يعد لهم وجود جماعي. طبعا هناك سياسة مقصودة أخمدت هذه المؤسسات وشلتها شيئا فشيئا، إلى أن انتهينا الآن إلى أن العلماء هم أفراد أكثر منهم شيئا آخر.
تقولون إن هناك سياسة متبعة هي التي تحارب العلماء، من المسؤول عن هذه السياسة في نظركم؟
طبعا، هذه سياسة غير معلنة وغير مصرح بها. لذلك يصعب أن نحدد جهة معينة أو قرارا محددا. غير أنه من المؤكد أن كل صناع السياسة العامة للبلاد منذ الاستقلال شركاء في هذه صنع هذه الوضعية.
شيء طبيعي أن يضيقوا ذرعا بتقريب العلماء وبآرائهم. العلماء مهما يكن من أمرهم وموقفهم السياسي يبقون أصحاب مرجعية إسلامية لها أحكام وتشريعات معروفة وعقيدة وثقافة وأخلاق، مهما لاينوا وسايروا المواقف الرسمية يبقون متميزين بهذه السمات.
بينما التوجه العام للدولة بمكوناتها وقياداتها سارت نحو ما يسمى بالتحديث، وهو تحديث ذو صبغة أوروبية علمانية فرنسية، هو نموذج لا يمكن أن يتواءم كثيرا مع ما عليه العلماء، فكان أن تم استبعادهم شيئا فشيئا بأساليب متعددة، بل بعد تهميشهم وإقصائهم وصلنا إلى مستوى تصفية مؤسساتهم التي كان لها شيء من الاستقلالية الشكلية، وهذه هي المرحلة الجديدة التي نعيشها.
ولكن كما قلت هذا لا ينفي وجود علماء أفراد، وبقاء المؤسسات التعليمية التي تخرج هؤلاء العلماء. فمن حيث الأفراد، العلماء موجودون في المساجد وفي الجامعات وفي نشاطهم الشخصي وبمؤلفاتهم وبمحاضراتهم وبحاجة المجتمع إليهم، والمجتمع يتجه إليهم بصفة عامة.
وهذه الصحوة الإسلامية العامة في العالم أيضا نمت وزادت من حاجة المجتمع إلى العلماء، وبقدر حاجة المجتمع إليهم وبقدر تزايد الطلب يعود العلماء شيئا فشيئا. لكنهم الآن يعودون كأفراد، لا كمؤسسات تتصرف وتجتهد وتنطق باسمهم.
وكيف يمكن للعلماء أن يسترجعوا مكانتهم ودورهم في ظل هذه السياسة التقزيمية المعتمدة رسميا؟ هل إلى خروج من سبيل؟ وكيف تردم الهوة بين العلماء والأمراء؟
من قديم الزمان، ربما حتى منذ عصر الصحابة، هناك خيار يدافع عنه كثير من العلماء ومن السلف ومن الصحابة، خيار يقول إنه إذا أطلت الفتن برأسها واستشرت وتحكمت فابتعد عنها وعن أهلها.
ولذلك وجدنا عبر العصور عددا من العلماء ينصحون، بل يحذرون أشد التحذير من الوقوف على أبواب السلاطين والأمراء، ويعتبرون مجرد العلاقة، أيا كانت درجتها وموضوعها، بين العالم والسلطان شيئا يقدح ويجرح في العالم وعلمه وعدالته ونزاهته ويضعه في قفص الاتهام. هؤلاء فئة غير قليلة انتهجت نهج القطيعة التامة والابتعاد.
وهناك اتجاه آخر أكبر عددا وهو عامة العلماء وجمهور العلماء، كانوا يرون العلاقة مع السلطان يجب أن تبقى قائمة أيا كانت الإشكالات أو الانحرافات أو الشبهات.. وهذا هو الذي عليه جمهور العلماء، وهو في نظري الاختيار الأرشد لمن يستقيم فيه.
هناك فئة أخرى مقابلة، وهي الفئة التي تلتحق بالسلطان بما هو عليه، لحاجتها إليه وحاجة السلطان إليها. هذه أيضا فئة كانت موجودة وما زالت.
طبعا، الفئة الوسطى التي تمثل جمهور العلماء هي المسلك الذي يمكن فعلا أن يعيد العلماء إلى مكانتهم ويعيد مكانتهم إليهم، فرأيي أن العلماء في المغرب وغير المغرب عليهم أن ينخرطوا في الشأن العام. الشأن العام قد يكون أحزابا، قد يكون انتخابات، قد يكون جمعيات أو مؤسسات الدولة أو مؤسسات إعلامية.
العلماء عليهم ألا ينأوا بأنفسهم وألا يبخلوا بعلمهم، فهذا واجبهم وهذا شرفهم وهذا قدرهم، وعليهم أن ينخرطوا في جميع المرافق والميادين العامة للأمة بدون استثناء. حتى في البلدان التي فيها مقاومة على العلماء أن ينخرطوا في المقاومة وفي متطلبات المقاومة.
على العلماء أن يشاركوا في الحكومات والبرلمانات وفي كل شيء، عليهم أن يكونوا موجودين في جميع المداخل وفي جميع الميادين، وهذا سيحصل شيئا فشيئا لأن الأبواب لن تفتح لهم بسهولة.
ما رأيكم في الجدل الدائر حول المشاركة السياسية للإسلاميين؟
بكل صراحة، تجربة الإسلاميين في معظم الحالات ليست مرضية تماما. قد يكون في نظري الآن تجربة الشيعة في إيران وفي لبنان هي أحسن التجارب لمشاركة الإسلاميين في الممارسة السياسية.
في العالم السني، الأمور أكثر تعثرا وأكثر سلبية سواء إذا ذكرنا السودان على سبيل المثال، أو أفغانستان ونموذج حركة طالبان، أو حتى نموذج الجزائر، فصحيح أن هذه التجارب كلها الشيعية والسنية أكثر، تعرضت لحصار وحملات وتشويه بجميع الأشكال.
ولكن مع ذلك أنا أتحدث عن الأداء الإسلامي وأرى أنه كانت فيه جوانب قصور وتعثر واضحة. ربما يكون السبب الرئيسي في تقديري هو عدم الاستعداد لمثل هذا الأمر، الدخول بغير استعداد أو الدخول بنسبة لا تكافئ الاستعداد المحصل. أنا أقول مرارا في عدد من المناسبات إن الحركات الإسلامية أنتجت جمهورا من الأنصار والمناضلين والمجاهدين، ولكنها أنتجت قليلا من العلم والخبرة والكفاءة لممارسة السياسة والحكم.
"
الصحوة الإسلامية أعادت للعلماء دورهم في المجتمع
"
فدخلت بعض الحركات الإسلامية بهذا الجمهور مع قليل من العلم، بما فيه العلم الشرعي، إذ كانت لها إشكالات علمية وفقهية لم تحسمها ولا جواب لديها عنها، بل اعتمدت على الأجوبة القديمة التقليدية التي لا تكاد تسمن أو تغني من جوع.
ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار كون الجانب السلبي في المشاركة الإسلامية لا يرجع إلى النزاهة والتضحية والوفاء والإخلاص، ولكن يرجع إلى جانب العلم والخبرة، وهو أمر قابل للتدارك، بينما الأمور الأخرى غير قابلة للتدارك لأن الحركات أو الأحزاب إذا بدأت خط الانحراف لا ترجع بل تتمادى فيه.
بينما إذا كان الخلل علميا راجعا إلى المهارة والخبرة، فهذا يتدارك في الجولة الثانية أو بعد سنوات، فلذلك سلبيات الحركة الإسلامية قابلة للتدارك مع مرور الوقت. بالإضافة إلى هذا فإن كثيرا من العثرات والتحديات التي واجهتها الحركات الإسلامية في الحكم ترجع إلى عوامل خارجية، ولذلك فلا ملام في هذا.
تم مؤخرا الإعلان عن محاضرة لكم بعنوان "العلماء ورثة الأنبياء" لكنها لم تتم بل تم الإعلان عن إلغائها، كيف جاء هذا الإلغاء؟
هذه المحاضرة التي كان مقررا إلقاؤها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، تدخل ضمن البرنامج السنوي لجمعية خريجي الدراسات الإسلامية، وقد تم الاتفاق عليها منذ عدة شهور. الذي حصل هو أن بعض المدافعين عن التخلف والجمود قاموا بتدخلات وضغوط أدت إلى إلغاء المحاضرة، أو بالأحرى منعها. وهذه أول مرة تتعرض محاضرة لي للمنع، مع أنها محاضرة علمية محضة ومكانها هو الجامعة والكلية التي أنتمي إليها.
اجمالي القراءات
6222