معتقلون مصريون سابقون... غادروا السجون ولم تغادرهم

اضيف الخبر في يوم الأحد ٠٦ - يوليو - ٢٠٢٥ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: العربى الجديد


معتقلون مصريون سابقون... غادروا السجون ولم تغادرهم

يحمل آلاف من المصريين الذين أُفرج عنهم حياة الزنازين داخلهم، وتطاردهم ذكريات السجن بينما تطحنهم الأزمات، إذ لا تأهيل، ولا رعاية.

حين توقظه زوجته صباحاً، يرتجف أحمد في فراشه، ويفتح عينيه في هلعٍ، ويرتعش صوته المرتبك قائلاً "أفندم". ثم يستغرق لحظات قبل أن يدرك أنه لم يعُد في عنبر التأديب بسجن شبين الكوم شمال العاصمة المصرية القاهرة. وأنه صار حرّاً، لكن مغادرة السجن لم تستطع بعد أن تُحرِّر روحه من خمس سنوات أمضاها معتقلاً، من قسم شرطة قليوب، مروراً بسجن جمصة، وصولاً إلى زنازين سجن شبين الكوم الضيقة.
غادر أحمد السجن وفق عفو رئاسي قبل سنوات، ضمن عشرات السياسيين ومئات الجنائيين، ومنذ خروجه، توقظ كل تفصيلة في حياته الجديدة بداخله ذكريات السجن. ومثله آلاف السجناء السياسيين المفرج عنهم خلال السنوات القليلة الفائتة، والذين تستدعي ذاكرتهم يوميات السجن المرعبة، وتكررها أمام أعينهم كشريط سينمائي.
يقول أحمد بصوت خافت، لـ"العربي الجديد": "حين يدق أحد باب المنزل أشعر بقشعريرة في جسدي. وأحياناً أتخيل الضابط الواقف في الخارج مع عساكره القادمين لاعتقالي، واصطحابي إلى السجن مجدداً. في ليلة القبض علي، جرى اقتحام المنزل بطريقة وحشية، وكالمعتاد مع كل سجين سياسي، أخذوا الهواتف، وأجهزة الكمبيوتر، وثمن بيع سيارتي الذي كان في المنزل. الرعب الذي زرعوه في قلب زوجتي وأطفالي لا يقل قسوة عن الكهرباء التي عذبت بها في مقر الأمن الوطني خلال اختفاء قسري لـ34 يوماً. كل مكان في جسدي به ذكرى، وكل ذكرى توجعني".
وقبيل عيد الأضحى الماضي، أفرجت السلطات المصرية عن عشرات من السجناء ضمن عفو رئاسي يتكرر في المواسم والأعياد، لكنه شمل هذه المرة، على خلاف مرات سابقة، نحو 50 من السياسيين والصحافيين المتهمين على ذمة قضايا سياسية. لم يتسن مقابلة أي من المفرج عنهم حديثاً، لكن الواقع يؤكد أن أوضاعهم لن تختلف عن معاناة من سبقوهم، فما تخلفه السجون في النفوس تتشابه أعراضه.
كان علي يعمل مأمور ضرائب قبل اعتقاله، ورغم الإفراج عنه، إلا أنه يؤكد أنه لم يغادر السجن، بل حمله معه إلى الخارج، إذ لا ينام من دون مهدئات، وصمت الليل أصبح عدوه الأول. يقول لـ"العربي الجديد": "تحول بيتي إلى بيت رعب، خصوصاً في ساعات الليل، حتى أنه حين يناديني ابني بصوت عال، يرتعش قلبي. تعرضت لاقتحام المنزل مرتين، وفي المرتين دُمرت إنسانيتي قبل الأثاث، وأمضيت ست سنوات بين سجنين، وعند دخول (ليمان طرة)، قال لي أحد السجانين اترك آدميتك في الخارج، واعتبر نفسك من الآن حيوانا. حين أشاهد الآن ضباط شرطة في التلفاز، أشعر بنفس الغصة، وكأن القيد لم يغادر معصمي".

المحامي محمد الباقر مع زوجته بعد إطلاق سراحه، 20 يوليو 2023 (محمد الراعي/فرانس برس)
المحامي محمد الباقر مع زوجته بعد إطلاق سراحه، 20 يوليو 2023 (محمد الراعي/فرانس برس)
بدوره، أمضى محمد خمس سنوات بين سجني "العقرب" و"القطا"، ولا يزال يتلقى علاجاً لعينه التي تضررت من "الغُمّاية" الملوّثة التي كانت تُستخدم بالتبادل بين السجناء أثناء التحقيقات، وهي عصابة من القماش الأسود. يقول لـ"العربي الجديد": "لم تنته المأساة بخروجي من السجن، فعيني اليسري متضررة، وأتردد على طبيب متخصص، فالغمامة كان فيها آثار غبار وعَرَق ودماء من عشرات المعتقلين. في مرة طلبت دخول الحمام وأنا مغمّى، واصطدمت بأحد أفراد الأمن، فلطمني قائلا: يا أعمى. يا حيوان. كلما أغلقت عيني، أتذكر الغمامة، وعتمة الزنزانة، وأنتفض رعباً لو اصطدمت عرضاً بأحد المارة في الشارع".
أمضى نادر محكوميته في سجني القناطر وبنها، ولم تقتصر معاناته عليه وحده، بل امتدت إلى زوجته وطفله، وهما يعانيان من صدمة اقتحام الأمن لمنزلهم، واقتياده وسط صرخات الزوجة، ثم معاناة الزيارات العائلية، والتي تمر أمام عينيه ككابوس، خصوصا مشاهد انهيار طفله باكياً. يتذكر يوم جاءت زوجته تحمل أوراقاً وأقلاماً، فما كان من ضابط السجن إلا أن قرر أن يصادرها قسراً، وحين تشبثت زوجته بها، سحلها أمام عيني زوجها وابنها، ثم اقتادها رفقة ابنها الذي تشبث بذيل ثوبها نحو مكتب مدير السجن.
يروي عبد الله لـ"العربي الجديد"، قصة جرت خلال سجنه. يقول: "حاولت في مرة أن أعترض على ما يحصل لنا، فعاقبوني بتركي مقيداً لمدة ثلاثة أيام. لم يكن ذلك عقاباً على مخالفتي النظام، بل حتى يتأكدوا من أن كرامتي ماتت. حالياً، لا أستطيع اصطحاب أسرتي إلى أي مناسبة عامة، فأعصابي لا تتحمل أي حدث طارئ، أو صوت مرتفع".
القاسم المشترك في هذه القصص أن الخارجين من السجون لم يغادروها فعلياً. هم يعيشون خارجها، لكنهم محبوسون في تفاصيلها، وبداخلهم رعب لا يهدأ، أو صوت باب زنزانة يغلق، أو صفعة لم تُنس، أو ندبة لا يراها أحد. كل تفاصيل حياتهم تُعيد إليهم ذكريات التعذيب، أو الاحتقار، أو الانكسار.والمفارقة أن هذه الذكريات والندوب لا يعترف بها أحد، فلا قانون يعوِّض، ولا دولة تعتذر، ولا أحد يُقدِّر أنهم لا يتمتعون بحرية حقيقة، بل يعيشون سجناً جديداً. اسمه الحياة بعد السجن.
يقول عضو مجلس نقابة المحامين المصرية، أشرف عبد الغني، لـ"العربي الجديد": "لا توجد مؤسسات لتأهيل السجناء السياسيين في مصر، ولا توجد علاقة بين مؤسسات الدولة وهؤلاء السجناء السابقين سوى المتابعات الشهرية أو نصف الشهرية في مقارّ الأمن الوطني. السجناء السياسيون السابقون يعيشون أزمات لا حصر لها، على رأسها الأزمات النفسية، إذ خلّفت الظروف القاسية التي واجهوها خلال سجنهم معاناة يومية، وصار السجن جزءًا من حياتهم يصعب عليهم تجاوزه، لا سيّما في غياب أي جهود لمساعدتهم على تخطي هذه المرحلة التي تمثل عائقاً أمام اندماجهم في المجتمع".
يضيف عبد الغني: "يعاني السجناء السياسيون السابقون أيضاً من مشكلات اقتصادية واجتماعية؛ فعدد كبير منهم يعجز عن العمل، وقد جرى فصلهم من وظائفهم، وإغلاق أبواب الرزق أمامهم، ما يؤدي إلى تدمير حياتهم الزوجية أو العائلية، ويفاقم متاعبهم النفسية، ويعرقل عودتهم إلى الحياة، ما يجعلهم فريسة للأمراض".
ويضيف: "هناك مشكلات يعاني منها الآلاف من سجناء الرأي السابقين، نفسية واجتماعية ومالية؛ وهم يشعرون بمرارة تجعل السجن يظل جزءا من حياتهم، ما يستوجب تأهيلهم ورعايتهم، ومساعدتهم في حل مشكلاتهم حتى نقطع الطريق أمام أي محاولات تدفعهم إلى الهامش. يشكل هذا تحدياً يجب أن تتصدى له مؤسسات الدولة مع المجتمع المدني لإنقاذ هؤلاء من أزماتهم، والحيلولة دون تحوّلهم إلى عبء على المجتمع، وإعادة تفاعلهم الإيجابي مع المجتمع، وعودتهم عناصر فاعلين، بدلاً من أن يصبحوا ضحايا للاكتئاب والأزمات النفسية والاجتماعية".
ويختم أبو الحسن بالتأكيد على "ضرورة أن تتعامل مؤسسات الدولة مع السجين السياسي باعتباره معارضاً يحمل طرحاً فكرياً معيناً، بغضّ النظر عن صحته أو خطئه، ما يستوجب إجراء حوار فكري معه، لا التعامل معه خارجا عن القانون، خصوصاً من خاضوا تجربة الاعتقال والسجن في سنٍّ مبكرة".
بدوره، يعرب المحامي أحمد أبو العلا ماضي، عن أسفه لغياب أي نوع من التأهيل النفسي أو الاجتماعي للسجناء السياسيين، سواء الذين أنهوا مدة محكوميتهم، أو الذين حصلوا على قرارات عفو، ويوضح لـ"العربي الجديد"، أن "غياب هذا النوع من الرعاية يدفع هؤلاء إلى الانعزال بعيداً عن المجتمع. مرحلة ما بعد انتهاء العقوبة تختلف من شخص إلى آخر؛ فهناك من يتحوّل السجن إلى جزء من شخصيته، ويعيش في ظلال ما واجهه من متاعب وأزمات خلال فترة حبسه، ولا يستطيع تجاوزها، وهؤلاء يعانون من مشكلات نفسية تعيق اندماجهم، ويحتاجون إلى تأهيل ودعم نفسي يعيد إليهم ثقتهم بأنفسهم، ويُشعرهم بأن المجتمع لا زال يقبلهم. بينما هناك سجناء أعلنوا اعتزال أي نشاط سياسي أو اجتماعي كانوا يباشرونه قبل حبسهم، وصاروا معزولين، لا همّ لهم سوى كسب قوت يومهم، إن توفرت سبل ذلك".
وفي السياق ذاته، يقول أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، طه أبو الحسن، لـ"العربي الجديد"، إنّ "رعاية وتأهيل السجناء السياسيين بعد انتهاء فترة حبسهم واجب مؤسسات الدولة، وهناك نصوص قانونية توضّح أطر هذا الأمر ضمن ما يُعرف بالرعاية اللاحقة، لكن لا علم لي إن كان هذا النظام مفعلاً، سواء بالنسبة للجنائيين أو السياسيين. هؤلاء الأشخاص بحاجة إلى ما نُطلق عليه المسار التعاوني، والذي تلعب مؤسسات الدولة والمجتمع المدني دوراً حيوياً فيه لإعادة دمجهم بالمجتمع بشكل صحي".
اجمالي القراءات 35
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق