تدوير أصول مصر مقابل الديون... خطة حكومية للابتعاد عن حافة الإفلاس
في تحرك مفاجئ أعلنت الحكومة المصرية عن خطة لنقل الشركات العامة إلى الصندوق السيادي المصري، تبدأ المرحلة الأولى بنقل 370 شركة رابحة من أصل 709 شركات مملوكة للدولة، بحيازة وزارات قطاع الأعمال والصناعة والتعدين والزراعة والإسكان والاستثمار والنقل. وصف خبراء الخطة بأنها محاولة جديدة لتدوير الأصول العامة، لتجميل الاقتصاد، دون مردود إيجابي على المواطنين، يحدّ من الغلاء ويرفع من معدلات النمو والتشغيل، بينما يعمق من بقاء الدولة على حافة الهاوية الاقتصادية.
يؤكد وزير الاستثمار حسن الخطيب في تصريح صحافي قبل أيام، أن الصندوق السيادي سيتولى مراجعة هياكل ملكية الشركات، واختيار التي تنفرد الدولة بملكيتها واستبعاد المتداخلة في الملكية بين الجهات الحكومية والبنوك والرابحة وفقاً لسجلات العام المالي 2024-2025، الذي ينقضي بنهاية يونيو/حزيران المقبل، لدمجها بالمرحلة الأولى لخطة النقل.
وفقاً للوزير، سيتولى الصندوق تأهيل شركات صناعية وإنتاجية لديها هياكل ملكية بسيطة لتكون قادرة على جذب الاستثمارات في المراحل الأولى للخطة، وتجهيز طرحها للبيع أمام المستثمرين، يتبعها شركات التطوير العقاري، مشيراً إلى استبعاد 138 شركة خاسرة لحين إعادة هيكلة أصولها أو تغيير نشاطها بالكامل.
أكدت الحكومة أن توسع دور صندوق مصر السيادي بنقل بمزيد من الشركات العامة إلى أصوله، لا يعني إلغاء وزارة قطاع الأعمال التي تدير أصولاً هائلة مملوكة لنحو ثماني شركات قابضة و15 شركة تابعة، تعمل في مجالات الصناعات الكيماوية والمعدنية والسينما والفنادق والأدوية والغاز، مبينة مراجعة الصندوق لنحو 60 شركة ووضعها في برنامج الطروحات الحكومية، للبدء في طرحها العام الجاري. وتشير التصريحات إلى زيادة عدد الشركات المطروحة للبيع العام المالي 2025-2026، من 32 شركة إلى 60 شركة دفعة واحدة.
يبرر رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي خطة طرح الأصول العامة للبيع، أثناء اجتماعه الأخير، لمتابعة الموقف التنفيذي لملف برنامج الطروحات العامة، بحضور وزراء الكهرباء وقطاع الأعمال والاستثمار ومسؤولي الوزارات، إلى وجود فرصٍ كبيرة أمام الشركات التابعة لقطاع الأعمال العام للطرح بالبورصة المصرية أو البيع لمستثمر استراتيجي، موضحاً أن المشروع يستهدف توسيع قاعدة الملكية، وتمكين القطاع الخاص من زيادة مساهمته في أنشطة قطاعات الاقتصاد المصري، ويؤكد مدبولي أن خطة الطروحات العامة، تجري وفق خريطة زمنية، مرتبطة بمدى جاهزية الشركات المستهدفة للطرح والتوقيت المناسب، وفقاً للمتغيرات المحلية والدولية.تسعى الحكومة إلى صفقة إنقاذ مالي ضخمة، تبعدها عن حافة الإفلاس المالي، على غرار مشروع بيع مدينة رأس الحكمة على ساحل البحر المتسوط شمال البلاد للصندوق السيادي الإماراتي، دفعتها في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إلى طرح بيع مناطق شاطئية مشابهة أمام المستثمرين العرب والأجانب بمنطقة رأس بناس على ساحل البحر الأحمر (شرق)، ومع تأخر الوصول إلى اتفاق حول الصفقة الكبرى، تحاول الحكومة التخلص من شركات عامة عدّة، لمواجهة زيادة نفقات الموازنة العامة، وتصاعد معدلات الدين الداخلي والخارجي.
تقليل الدين العام الداخلي والخارجي
يؤكد وكيل وزارة التجارة الأسبق والخبير الاقتصادي عبد النبي عبد المطلب، أن إعادة تقييم الأصول، بهدف التنازل عنها لبعض الجهات الحكومة أو طرحها للبيع ليس أمراً جديداً، إذ شرعت به حكومة كمال الجنزوري عام 1997، ومن بعدها حكومات عاطف عبيد وأحمد نظيف 2003-2011، لتحسين الأداء المالي على الورق، واصفاً الخطة الحكومية الجديدة، بأنها "تدوير للأصول لتصبح رصيداً مقابل الديون".
يفسر عبد المطلب توجه الحكومة بأنها تستهدف تقليل الدين العام الداخلي والخارجي، مبيناً أنه مع ارتفاع حجم الديون وحاجة الحكومة للاقتراض، هناك خشية بأن يزيد معدل الدين عن 90% من قيمة إجمالي الناتج القومي، فيلقى الأمر معارضة من صندوق النقد الدولي، الذي يضع سقفاً لحجم الدين عند حدود 90% فقط. ويشير الخبير الاقتصادي إلى رغبة الحكومة في الحصول على قروض جديدة، بإصدار سندات بالعملة الصعبة، تمكنها من مواجهة العجز في الدولار، وتبديل الديون قصيرة الأجل بأخرى متوسطة وطويلة الأجل، بينما يقف معدل الدين المرتفع مانعاً أمام قدرتها على زيادة حجم الدين العام وبخاصة الخارجي، عند التفاوض مع البنوك ومؤسسات التمويل الدولية، وتشترط المؤسسات المالية، خفض معدل الدين العام، وتحسن المؤشرات الاقتصادية، وإلّا تظل عند تصنيف ائتماني ضعيف يجعلها حبيسة القروض قصيرة الأجل، مرتفعة التكلفة والعائد، وتزيد من أزمة الدين العام، خاصة مع حالة الاضطرابات الجيوسياسية.
يذكر عبد المطلب، أن الحكومة تبحث عن "تجميل الوضع الاقتصادي المتأزم"، مؤكداً أن الصندوق السيادي "لن يقدر على حل مشاكل اقتصاد يعاني من مشاكل هيكلية تكبح النمو وتزيد من معدلات التضخم، الذي يُواجَه بمزيد من طباعة النقود وصرف علاوات لا يقابلها إنتاج حقيقي، وإنما تدفع إلى مزيد من غلاء الأسعار، ليظل المواطن مضغوطاً داخل دائرة مغلقة، فلا تنفعه نقل شركة من وزارة إلى جهة سيادية أو بيعها لأجانب مقابل قروض لم توظف عوائدها في بناء مصانع واستثمارات ذات عائد يساهم في زيادة النمو وتوفير السلع وخفض البطالة والسيطرة على التضخم".
يقدر صندوق النقد الدولي نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي ما بين 90% إلى 95% عام 2023، فيما تؤكد الحكومة انخفاضه، إلى 89% خلال العام المالي 2023-2024، وتتعهد بنزوله دون ذلك عام 2024-2025، بينما يتوقع خبراء صعوده من جديد، مدفوعاً بزيادة القروض وخدمات الدين المحلي والخارجي لعام 2025-2026.في مقابلة مع "العربي الجديد" وصف مصدر اقتصادي ومسؤول سابق في وزارة الصناعة، توجه الحكومة لبيع الأصول العامة، بأنه أحد الأوراق التي تتبعها الحكومات المصرية، منذ سبعة عقود، لتفادي انهيار اقتصادي شامل، عبر الحصول على مساعدات أو قروض وتسهيلات أو بيع أصول عامة ضمن اتفاقات سياسية، تمنع انهيار دولة بحجم مصر، لها أهمية استراتيجية كبرى في المنطقة، ويؤكد الخبير الاقتصادي، أن اقتراح تحويل الأصول العامة إلى صندوق استثمار سيادي مموّل من الديون أمر "لا معنى له" في دولة تمول مصروفاتها من مدخرات المواطنين والبنوك والشركات المحلية، وتقترض المال الأجنبي من أسواق السندات الدولية، بما يفوق ضعف الناتج المحلي الإجمالي، مشيراً إلى أن صناديق الثروة الناجحة كما في النرويج تمول من فائض الموازنة العامة، ولا تأتي إدارة الثروة عبر ديون محلية وقروض وبيوع للأصول، يشوبها كثير من المخالفات وملاحقات بالفساد.
بحث الاستغلال الأمثل للأصول العامة وتنميتها
في سياق متصل أجرى وزيرا الإسكان شريف الشربيني وقطاع الأعمال العام محمد شيمي جلسات مطولة، الأيام الماضية، لبحث الاستغلال الأمثل للأصول العامة وتنميتها وتعظيم عوائدها، وفقاً لتصريحات "الشيمي"، الذي أوضح أن هدف المباحثات تعزير التعاون بين شركات الوزارتين، خاصة في قطاع المقاولات للإسراع في تنفيذ مشروعات البنية التحتية التي تستهدفها الدولة في تنمية القطاع العقاري، وتنمية بعض الأصول المملوكة لشركات قطاع الأعمال العام. وتجاهل الوزيران الحديث عن أي مخططات تتعلق بنقل الشركات التابعة لهما، إلى الصندوق السيادي، بما يراه خبراء بأن الوزارات التي اعتادت العمل في جزر منعزلة، لم تحصل بعد على خطة الحكومة بنقل الشركات التابعة لها إلى الصندوق السيادي، مستشهدين بسير وزارات أخرى في اتجاه معاكس، كإنشاء وزارة الدفاع لشركة جديدة باسم "مستقبل مصر" لإدارة "ملف استيراد القمح والسلع الاستراتيجية" لتحلّ محل هيئة السلع التموينية والشركات التابعة لها، المملوكة لوزارة التموين، بعقد الصفقات الدولية لشراء السلع من الخارج وإنشاء صوامع التخزين، بتمويل من قروض أجنبية تتحملها الموازنة العامة للدولة، واتجاه وزارة الطيران إلى خصخصة إدارة المطارات، والشركات التابعة لهيئة الطيران المدني التي تعمل في 11 مطاراً محلياً، بحثاً عن السيولة المالية التي شحت في الوزارة، والتخلص من أعباء الديون المتراكمة على قطاع الطيران منذ سنوات، بالتوازي مع إسناد وزارة الآثار لشركات خاصة، إدارة المواقع الأثرية والسياحية الرئيسية.
يشير الباحث الاقتصادي إلهامي الميرغني إلى أن الحكومة ملزمة وفقاً لتقديرات البنك الدولي، بسداد 43.2 مليار دولار في الفترة من يناير/كانون الثاني إلى سبتمبر/أيلول 2025، من بينها 5.9 مليارات دولار فوائد و37.3 مليار دولار من أصل القروض، مؤكداً أن "سيف القروض المسلط عليها، يضع عليها الكثير من القيود عند اتخاذها أي قرار، في ظل احتياجها لسداد المليارات ورغبتها في سد العجز بين الصادرات والواردات بنحو 40 مليار دولار، والاستمرار في تمويل مشروعات غير ضرورية تعتمد على تنفيذها بالحصول على المزيد من القروض، تأتي عادة بدعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الخليجية، ما يدفعها إلى بيع الأصول العامة أو شراء الشركات مقابل القروض التي تأتي عبر صفقات دعم مالي وسياسي وليست معونات أو مساعدات لوجه الله".يرصد الميرغني سيطرة الإمارات على نحو 85% من الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر، تليها الولايات المتحدة بنسبة 7%، وبريطانيا 6% والسعودية 2%، مؤكداً أن بيع الشركات العامة وخاصة المربحة مالياً كشركة الشرقية للدخان وشركات البتروكيماويات، يثير غضباً لدى العاملين فيها، ويقلق الاقتصاديين الذين يرون البيع لمجرد التخلص من الأصول العامة، قيدٌ على قرار مصر الاقتصادي والسياسي.
إتمام الصفقات بعيداً عن العقبات القانونية
يفسر محللون إسراع الحكومة بنقل أصول الشركات العامة للصندوق السيادي إلى رغبتها بتخطي العقبات القانونية، عند طرح الشركات العامة للبيع للمستثمرين المصريين والأجانب، وإبعاد الأجهزة الرقابية والبرلمان عن ممارسة أي دور في إتمام الصفقات، أو الاعتراض عليها، نظراً لتمتع "الصندوق" بشخصية اعتبارية تمنح مجلس إدارته سلطة مطلقة بإدارة أمواله والأصول المنقولة التي يملكها، بدون حق النقض من الأجهزة الرقابية والقضاء، بما يضمن حصانة العقود المبرمة مع المستثمرين وعدم قدرة أجهزة الدولة الاعتراض عليها في مراحل زمنية مقبلة.يشير المحللون إلى أن سابقة اعتراض القضاء وممثلي العمال على بيع شركات قطاع الأعمال العام، أدى إلى فسخ عدد من عقود البيع لشركات عامة أبرمتها الحكومات السابقة، أعادتها إلى الملكية العامة، بعد سنوات من بيعها لمستثمرين مصريين وأجانب، مع ثبوت فساد مالي وقانوني في صفقات البيع، بما أوقف مشروع خصخصة الشركات العامة، منذ 20 عاماً، إلى أن بدأت الحكومة الحالية في بيع الشركات العامة عبر شراكات محلية وعربية، ستؤدي إلى استحواذ المستثمرين الجدد على الأصول، في مراحل تالية.
يشير محللون إلى رغبة الحكومة في التخلص من أعباء ديون الشركات، التي تواجه صعوبة الاستمرار بالعمل، مع ارتفاع تكاليف الإنتاج، وشح السيولة اللازمة للتشغيل، في ظل ارتفاعات كبيرة في سعر الفائدة بالبنوك، تتراوح ما بين 28% و35% للقطاعات الصناعية والعقارية والإنتاجية، مع طرحها مساهمة القطاع الخاص في إقامة محطات تحلية المياه والطاقة الشمسية والرياح، التي تحتاج إلى استثمارات ضخمة بالعملة الصعبة، يصعب توافرها حالياً.
وفق اتفاق ملزم بين الحكومة وصندوق النقد الدولي، بخفض النفقات العامة عند حدود تريليون جنيه سنوياً، قلصت الحكومة من تدفقات الاستثمارات العامة، بما أوقف إسناد مشروعات جديدة للشركات التابعة لوزارات النقل والإسكان وقطاع الأعمال العام، وعطل التمويل عن العديد من المشروعات الإنتاجية التابعة للوزارات ولشركات تابعة لوزارات الري والزراعة والهيئات الاقتصادية، بما عطل نموها وقدرتها على توفير الرواتب ومصروفات التشغيل.وترفض البنوك إقراض الشركات العامة "على المكشوف" وبدون ضمانات حكومية، بما يدفع بعضها إلى الاقتراض من البنوك بضمان الأصول والمعدات بفائدة مرتفعة، بما يعمق أزماتها المالية، بينما تفضل الشركات الحائزة على مدخرات، استثمار السيولة في إيداعها بالبنوك أو شراء شهادات ادّخار بالعملة الأجنبية، للاستفادة من الفائدة المرتفعة، وعدم المخاطرة في تنفيذ مشروعات حكومية، مشكوك في تحصيل قيمتها أو المنافسة في سوق يعاني من ارتفاع معدلات التضخم وتذبذب أسعار العملة، ويستحوذ قطاع الأعمال على نحو 133 ملياراً و260 مليون جنيه من الودائع لأجَلْ وشهادات الادخار بالعملات الأجنبية حتى نهاية يناير 2025، وفقاً لبيانات البنك المركزي.
تحذيرات من أزمة مالية شاملة
ويتوقع نائب مدير صندوق النقد السابق والخبير الاقتصادي عدنان مزاري، أن تواجه الحكومة عودة خطورة الأزمة المالية الشاملة، مع صعوبة في قدرتها على تلبية احتياجات البلاد التمويلية خلال الفترة المقبلة، في ظل نشوب حروب جمركية عالمية وارتفاع أسعار الفائدة وقيمة الدولار أمام الجنيه، موضحاً أنه في ظل مستويات استياء شعبي مرتفع بسبب ضعف آفاق النمو وارتفاع التضخم وانخفاض الدعم للمواد الغذائية والوقود واستمرار القمع السياسي. ومع وجود مخاطر خارجية كبرى جراء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فإن المساعدات المالية الدولية وخاصة من دول الخليج قد يغلق صنبورها.
يشير مزاري في تحليل نشره مؤخراً، إلى أن الأزمة الاقتصادية لم تنتهِ بعد، لارتباطها بتحديات بنيوية، وأخرى مرتبطة بالسياسات، التي أسفرت عن انخفاض النمو وارتفاع التضخم واختلال سعر الصرف ومستويات مقلقة من البطالة والفقر. ووفقاً للخبير الاقتصادي تبتعد الحكومة عن اتخاذ إجراءات تحقّق "الحوكمة الاقتصادية"، بما يضمن شفافية قرارات بيع وتصفية الأصول العامة، وإبعاد سيطرة المؤسسات العسكرية على الاقتصاد، وتحسين إدارة الشركات العامة.
اجمالي القراءات
73