مناهج التعليم والمؤسسات الدينية أخفقت في تحصين الشباب المسلم ضد التطرف
قدم أستاذ الدراسات الاسلامية بكلية الحقوق بجامعة قطر عبد الحميد الأنصاري محاضرة قيمة بعنوان "المفاهيم الدينية ومستقبل التسامح الانساني" أكد فيها اخفاق مناهج التعليم والمؤسسات الدينية في تحصين الشباب المسلم ضد التطرف. وأشار الأنصاري إلى ضرورة الاعتراف بالمسؤولية والكف عن لوم الاخرين كسبل لتقوية المناعة الفكرية وتحصين المجتمع.
وقال الأنصاري في المحاضرة التي نظمتها "جمعية المنتدى البحرينية في 25 يناير الماضي "لا يمكن تبرير الارهاب بالصراعات السياسية ولا بالمظالم الغربية والامريكية ولا بالقهر السياسي العربي، ولا نستطيع تعليله بغياب الديمقراطية او بوجود البطالة وان اتخذ كل ذلك ذريعة لكسب التعاطف الشعبي، فالارهاب له تاريخ ممتد الى سبعينيات القرن الماضي في مصر باغتيال "السادات" كما ان للجزائر تاريخا عريقا مع الارهاب، وقد ضرب الارهاب السعودية بدءا من العام 1995".
وفيما يلي نص المحاضرة:
يعاني العالم من الارهاب الذي اصبح ظاهرة عولمية تستنزف الموارد والطاقات وتفرض الاستحكامات الامنية التي تقيد الحريات، غير آلاف البشر الابرياء الذين يسقطون ضحايا الاعمال الارهابية التي تجتاح العالم.
ان الارهاب وليد فكر متشدد ونفسية متوترة كارهة للحياة والاحياء لا تستطيع ان تنسجم مع التحولات المجتمعية المتسارعة بفعل تيار العولمة ولذلك فان الارهاب - في التحليل النهائي - ليس موجها ضد الاخر وان استهدفه، انه موجه ضد الذات، انه انتقام الذات الجريحة من نفسها ومن حاضرها البائس.
لا يمكن تبرير الارهاب بالصراعات السياسية ولا بالمظالم الغربية والامريكية ولا بالقهر السياسي العربي، ولا نستطيع تعليله بغياب الديمقراطية او بوجود البطالة وان اتخذ كل ذلك ذريعة لكسب التعاطف الشعبي، فالارهاب له تاريخ ممتد الى سبعينيات القرن الماضي في مصر باغتيال "السادات" كما ان للجزائر تاريخا عريقا مع الارهاب، وقد ضرب الارهاب السعودية بدءا من العام 1995.
يولد الانسان محبا للحياة، فالحياة نعمة عظيمة من الخالق، لكن عوامل مجتمعية داخلية وخارجية عديدة تجعله شخصية كارهة لمجتمعها وعصرها منها: "الطفولة البائسة" التي عاشها، وعدم كفاية التحصين الثقافي والديني، والمفاهيم الدينية الخاطئة، والفتاوى التحريضية.
لقد اخفقت مناهج التعليم والمؤسسات الدينية في تحصين شبابنا ضد التطرف، وهذا هو الاخفاق الاكبر لمناهج الثقافة والتربية.
- كيف السبيل الى تقوية "المناعة" الفكرية و"التحصين" المجتمعي؟
اولا: علينا الاعتراف بمسؤولياتنا والكف عن لوم الاخرين، وقد اعجبني ما قاله سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في كلمته الختامية في حفل توزيع جائزة الشيخ زايد للكتاب "ان هذا الواقع المؤلم - للقراءة والكتاب - ليس للشرق ولا للغرب علاقة بقدر ما نتحمل نحن مسؤوليته، بعيدا عن نظرية المؤامرة وشماعة الاخر".
ثانيا: علينا تبني الخطاب النقدي التحليلي الذي يقول ما لنا وما علينا، وما للاخر وما عليه، مصداقا لقوله تعالى: "ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
ثالثا: علينا تجفيف "الينابيع" التي تسقي شجرة "التعصب" باعادة النظر في المفاهيم الدينية السائدة وما تبثه المنابر الثقافية والاعلامية وما يصرح به الدعاة عبر تبني استراتيجية للتنمية الثقافية المشتركة، كما فعلت "المانيا" بعد هزيمة "هتلر" اذ عكفت على دراسة الاسباب التي افرزت النازية فاكتشفت ان منابع الثقافة الالمانية باسرها "مسمومة" وكان لابد ان تسفر في النهاية عن ظهور هتلر والفكر النازي، ولذلك ضربوا بمثل هذا التراث عرض الحائط، وكذلك فعلت اليابان بالتراث الامبراطوري.
إن اولادنا الذين اسرعوا الى الموت، فعلوا ذلك لاننا لم نحببهم في الحياة، ملأنا نفوسهم كراهية ونقمة على الحضارة، وصورنا العالم مؤامرة على المسلمين.
إن الارهاب لا ينتعش الا في مناخ ثقافة معادية كارهة لمعطيات الحضارة، تحرم النافع من الثقافات والفنون الراقية والموسيقى والمسرح.
الارهاب فكر لكنه عدواني، وهو مرض لكنه يصيب النفس، ويميت القلب، وبيئة حاضنة لكن تسودها الكآبة والبؤس والاحباط، وصحيح ان هذا الفكر العدواني المنحرف، اساسه التنشئة الاولى وخبرات الطفولة القاسية ثم التعليم الاحادي التلقيني الذي لا ينمي العقلية الناقدة الا ان الخطاب الديني التحريضي وفتاوى التكفير والاشرطة والكتيبات المتعصبة واخيرا المنبر الالكتروني المتطرف والذي اصبح بوابة التنظيمات الارهابية، لها الاثر الاعظم في ترويج الفكر الارهابي.
ثقافة الخليج المتصالحة:
لم تكن مجتمعاتنا بهذا العنف، لقد عاش الاباء والاجداد في مصالحة مع الذات ومع الاخر، وتعاملوا مع جميع شعوب الارض من دون عقد ووساوس مرضية، فما الذي حصل لمجتمعاتنا؟ ولماذا اصبح بعض شبابنا عدوانيا ناقما على الحياة والاحياء؟
- ان ما حصل في الساحة العربية وبخاصة الخليجية خلال العقود الثلاثة الاخيرة من فكر متطرف معادٍ للحياة، اصاب بعض ابنائنا ودفعهم الى الهلاك، انما تم زرعه ورعايته من قبل ثلاثة تيارات سياسية ودينية نجحت في غزو الثقافة المجتمعية المتسامحة، وهي:
1- التيار التكفيري الديني والذي يمثل فكرا اقصائيا قمعيا يشكك في معتقدات الاخرين، ويتهمهم بالبدعة والانحراف والضلالة بحجة ان العقيدة الصحيحة واحدة، اصحابها في الجنة وغيرهم في النار، ويرى هذا التيار ان استخدام العنف وسيلة مشروعة في فرض الرأي السياسي والمفاهيم الدينية الخلافية.
2- تيار الاسلام السياسي، وهو فكر يقوم على ابدية الصراع مع الغرب، باعتباره العدو الدائم المتربص والمتآمر على المسلمين، ولذلك فهو فكر اتهامي مسكون بهواجس التآمر العالمي وهو لا يكتفي باتهام العالم فحسب بل وايضا، يتهم - وهذا هو الاخطر- كل الانظمة العربية الحاكمة بانها طائعة للغرب وتنفذ مخططات الغرب وما مجتمعاتنا الا العوبة بايديهم، ثم انهم يسحبون اتهامهم حتى على المثقفين والمفكرين من دعاة الاصلاح الديني والتعليمي والسياسي، فكلهم عملاء للغرب.
ويقدم هذا التيار نفسه للجماهير، باعتباره الحامي الوحيد لحمى الاسلام، المدافع عن الهوية الاسلامية، والاصالة والمقدسات، وهو تيار متلون استطاع بدهاء ان يخترق البيئة الخليجية ويكسب بعض ابنائها الى صفه، فكونوا مزيجا فكريا ايدلوجيا او توليفة متعصبة شديدة الخطورة.
3- التيار القومي - في جانب كبير منه - ويقوم فكر هذا التيار على اعتقاد جازم بان الغرب هو العدو الذي عوق نهضة العرب برسمه للحدود القطرية ودعمه لاسرائيل، واخطر ما في هذا الفكر انه يحتكر "الوطنية" ويخون الاخر المختلف معه، فاذا كان التياران السابقان "التكفيري والاسلام السياسي" يحتكران "الجنة" فان التيار القومي يحتكر "الوطن".
ثقافة الكراهية هي المحصلة:
ادى التلاقح والتفاعل بين التيارات الثلاثة على امتداد العقود الاخيرة الى افراز ثقافة متعصبة متطرفة هي "ثقافة الكراهية" ضد الاخر المحلي المخالف وضد الاخر الغربي وضد دعاة العقلانية والتحديث والمطالبين بتبني ثقافة المراجعة والنقد.
"ثقافة الكراهية" هي توليفة من عنصرين "التكفير والتخوين" فاذا كان الديني يكفر، فان القومي يخون في ادعاء شمولي يحتكر الدين والوطنية.
وما كان لهذه "التوليفة المتعصبة" ان تكون "توليفة متفجرة" الا بفعل التحريض المستمر من قبل منابر التحريض وبخاصة الفضائيات والمواقع الالكترونية المنتشرة، وكانت المحصلة النهائية تهيئة بيئية مجتمعة متعاطفة مع ثقافة الكراهية، ولا ادل من نجاح دعاة ثقافة الكراهية في اختراق البيئة المجتمعية من 35٪ من الجماهير قالوا في استفتاء "ايلاف" الالكترونية: هل قطع الرؤوس في العراق من اعمال المقاومة؟ قالو: نعم.
وفي استفتاء صحيفة الاتحاد الاماراتية،: هل توافق على فتوى قتل المدنيين المتعاونين مع الاحتلال في العراق؟
- فتوى الشيخ القرضاوي في نقابة المحامين بمصر وعبر الجزيرة - قال 55٪ نعم. وفي ظل هذه البيئة المتعاطفة مع فكر الكراهية امكن تصور "الزرقاوي" شهيدا!! واصبح "بن لادن "مجاهدا اسلاميا!! وصار "صدام" بطلا قوميا!!
ان التحريض الذي ساعد على انتشاره التقدم التقني في مجال الاعلام هو »الوقود« الذي ضمن استمرار ثقافة الكراهية.
العمل الارهابي نبْت بيئتنا ومجتمعنا، له بناء فكري معروف ومفاهيم دينية واضحة وان كانت مغلوطة، والارهابيون ابناء بررة لخطاب ثقافي مشحون بكراهية عميقة للحضارة الغربية وقيمها ونظمها ومفاهيمها، والارهابيون هم نتاج هذا الخطاب وليسوا حمقى او مرضى او جهلة او مغرر بهم من قبل الموساد، الارهابيون نتاج خطاب استعلائي تعصبي يحتكر الصواب المطلق والدين، وساهم على انتاجه منابر تربوية وتعليمية ودينية واعلامية عبر سنين طويلة، كان الهدف الرئيسي لهذا الخطاب المشحون، الحط من حضارة الغرب والترويج لعدوانيتها وماديتها واباحتها بهدف تنفير شبابنا منها وتحصينهم ثقافيا ودينيا ضدها، في مقابل تصوير ماضي المسلمين مجيدا زاهرا قويا عبر التركيز على اللحظات المضيئة في تاريخنا وتجاهل الف سنة من الظلام والحروب والدماء والفتن والجهالة والتخلف ظنا ان ازدراء الاخرين في مقابل استعلاء الذات فيه الحصانة لشبابنا، وثبت ان كل ذلك وهم كبير ندفع ثمنه الان.
- كيف اختطف الإرهاب بعض شبابنا؟
- لطالما تساءلت مندهشا: كيف امكن للارهاب ان يختطف شابا في عمر الزهور فيحزم نفسه بحزام ناسف، ويدخل مطعما مليئا بالعمال، فيفجر نفسه فيهم؟ لماذا يعتقد هؤلاء ان هذا العمل هو الطريق الى الجنة؟ ما هي العقيدة التي تدفع شابا يافعا الى الخلاص من الحياة؟
- لاشك ان هناك خبرات طفولية قاسية وراء معظم هؤلاء الذين فضلوا الموت على الحياة، كما ان الفتاوى التحريضية من جانب والفضائيات الجهادية من جانب اخر والمواقع الالكترونية المتطرفة من جانب ثالث لها دورها البارز في توجيه هؤلاء الى ثقافة الموت، كما يجب علينا التنبه الى خطورة دور الاعلام التحريضي على الشباب، ضعيفي المناعة، وناقصي التحصين، فانه بمثابة "الوقود" الذي يضمن اشتعال الفكر المتطرف واستمراره، بالاضافة الى ترويجه لمفاهيم دينية مغلوطة عن "الجهاد" و"الولاء والبراء" و"الامر بالمعروف والنهي عن المنكر" و"الحاكمية" و"الجاهلية".. الخ.
المفاهيم الدينية:
هناك جملة من المفاهيم الدينية التي أُسيء فهمها ولحقها التشويه بسبب التوظيف السياسي والايديولوجي في الصراعات السياسية بين الجماعات الجهادية والانظمة العربية الحاكمة.
اولا: المفاهيم التراثية:
مثل: الجهاد، الولاء والبراء، التكفير، الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
1- الجهاد: يحسن قبل الحديث عن الجهاد، الحديث عن موقف الاسلام من حق الاختلاف، اذ يرى الاسلام ان حق الاختلاف، حق اساسي للانسان سواء في المعتقد الديني او الثقافي، لان ارادة الله قضت بالتعددية الدينية والقومية، فلا يمكن فرض عقيدة واحدة او دين واحد على البشرية جمعاء، فذلك ضد ارادة الله، ومن هنا كان الجهاد وسيلة لحماية هذه التعددية. يقول الله "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم".
حقيقة الجهاد:
الجهاد لغة بذل اقصى ما بالوسع والطاقة، لكن المدلول الفقهي للجهاد يخصصه بالعمل الحربي وذلك مخالف للمدلول القرآني والنبوي، اذ انه مدلول عام يشمل جميع انواع الجهد في سبيل نصرة الدين او اعلاء قيم الحق و العدل او مجاهدة النفس او التنمية او الاصلاح المجتمعي، ولقد سمّى الرسول جهاد النفس، بالجهاد الاكبر.
شرع الجهاد لهدفين:
أ- رفع الظلم ودفع العدوان كما في قوله تعالى "أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وأن الله على نصرهم لقدير".
ب- تحرير الشعوب المضطهدة والمستعبدة من قبل الانظمة الاستبدادية مثل شعوب فارس والشام ومصر والساحل الافريقي، مصداقا للاية "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً".
تشويه مفهوم الجهاد قديماً:
تم تشويه مفهوم الجهاد حين قسم الفقهاء في القرن الثاني الهجري الجهاد، الى جهاد الدفاع وجهاد الطلب، وقالوا بمشروعية جهاد "الطلب" بناء على ان "آية السيف" نسخت ايات السلام، وقسموا العالم الى دار حرب ودار سلام.
تشويه مفهوم الجهاد حديثاً:
لقد امتد مفهوم الجهاد الى عصرنا على ايدي "الخوارج الجدد" الذين قاموا بسلسلة من العمليات الارهابية على امتداد ثلاثة عقود بدءا بالجزائر ومصر ومرورا بالسعودية والكويت وقطر.، والأردن والمغرب والشيشان وباكستان وماليزيا واندونيسيا ونيويورك ومدريد ولندن، وهذه الجماعات الجهادية تجمعها خمسة عناصر هي:
أ- ايدلوجية التكفير ب- استهداف المدنيين ج- بث اكبر قدر من الفزع والرعب د- الحرص على البروز الاعلامي في الفضائيات هـ - مراجعها الاساسية عن الجهاد مصدرها كتب الاستاذين سيد قطب، المودودي.
تحليل أفكار قطب والمودودي عن الجهاد:
يرى الاستاذان، ان المسلمين اوصياء على البشرية، وهم يحملون تكليفا إليها بتحريرها من طواغيت الارض، وما الاسلام إلا فكر انقلابي هدفه قلب نظم الحكم لاقامة حكومة اسلامية تحكم الجنس البشري على امتداد المعمورة، والجهاد هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الهدف، ولذلك فهو فرض عين على كل مسلم.
ويلاحظ ان افكار الاستاذين عن الجهاد، تنطلق في فراغ، فكأنهما لا يعيشان في دولتين مرتبطتين باتفاقيات سلام وتعاون مع دول العالم، وهما عضوان في منظمة الامم المتحدة، مع ان المقرر شرعا وفقها، ان حق اعلان الجهاد، هو حق من حقوق السيادة للدولة ووظيفة من وظائفها التي لا يجوز لفرد او جماعة ان تعلنه او تنادي به في تجاهل للدولة.
2- الولاء والبراء:
هذا المفهوم من المفاهيم التي اسيء فهمها من قبل الجماعات الجهادية، ويتحمل بعض خطباء المساجد وبعض الفضائيات والانترنت مسؤولية ذلك، فهؤلاء عندما يستشهدون بالآية (لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء) او الآية الاخرى (لا يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء) لا يفسرونهما التفسير المناسب، والمتفق مع المصلحة العامة، فيتسببون في بلبلة افكار الشباب، وبخاصة المتشدد منهم، الذي يسارع الى تحريم كل اوجه التعاون بين المسلمين وغيرهم، بحجة ان ذلك من الموالاة المحرمة، وهذا فهم سقيم في عصر تقارب فيه الشعوب واختلطت فيه المصالح واصبح الاعتماد المتبادل هو أساس العلاقات الدولية، فما هي الموالاة المحرمة؟
الاولياء جمع ولي وهو الناصر والمعين وموضوع السر والثقة، فالآيتان في النهي عن اتخاذ العدو وليا على حساب مصلحة المسلمين وكل الآيات الاخرى في نفس المعنى، ولا علاقة لها بما هو حاصل الآن من تعاون بين المسلمين مع غيرها من دول العال، فهذه العلاقات ضرورة لتنظميتها وتطوير اقتصادها وتحسين اوضاعها، ولو لم نتعاون مع الدول المتقدمة لعانت شعوبنا وتخلفت اوضاعنا.
3- التكفير:
التكفير آفة خطيرة يعاني منها المجتمع العربي وهي لا تقتصر على النخب الفكرية بل ان هناك بيئة مجتمعية تتقبل ظاهرة التكفير وهناك مناخ فكري يساعد عليها، وهناك اجواء تزرع ثقافة التكفير، ومنابر تحرض وتضلل وهناك جامعات تمنج الدكتوراه في التكفير مع مرتبة الشرف.
خطورة التكفير تكمن في انها المقدمة الاساسية لاستباحة دماء الآخرين واموالهم. سلاح التكفير المسلط على رأس كل مفكر حر او مثقف ناقد هو السلاح الذي تستخدمه الجماعات الجهادية ضد كل من يخالفها في طروحاتها الظلامية المتشددة، ولا يكاد ينجو احد من سلاح التكفير لا مثقفا ولا فنانا ولا مفكرا.
من مقررات الاسلام انه لا يجوز تكفير المسلم اذا نطق بالشهادتين إلا اذا اخرج نفسه من الاسلام فعلا او اقر صراحة بذلك وجاهر بكفره وثبتت عليه الحجة والقاعدة العامة في الاسلام انه لا يفتى بكفر مسلم متى امكن حمل كلامه على محمل حسن، لكن رياح التكفير التي هبت على الخليج وعلى المنطقة العربية كانت قوية لدرجة انها اصابت وجرحت معتقدات كثيرة، وفي كل التحقيقات التي اجريت مع الذين قبض عليهم من المتطرفين، صرحوا بان المنبع التكفيري هو الاساس العقائدي للارهاب، وان عمليات التفجير هي الثمار المرة لايدلولجية التكفير.
4- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
لا شك ان قواعد ديننا، قاعدة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا معروف اعرف من العدل ولا منكر انكر من الظلم كما قال الامام محمد عبده، والمسلم مطالب ان يكون ايجابيا في اصلاح مجتمعه وتطويره وتنميته وتقدمه عن طريق ممارسة فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكن بالاسلوب السلمي وعبر القنوات الشرعية وفي ظل الهامش الديمقراطي الذي قد يضيق ويتسع حسب التطور السياسي والاجتماعي للمجتمع، فليس من حق الافراد اللجوء الى العنف وإلا انقلب امر المجتمع الى فوضى ودمار وفساد، والدولة هي المؤسسة الوحيدة التي تحتكر حق العنف، وتمارسها لحماية المجتمع ضد العدوان الخارجي والداخلي.
ثانيا: المفاهيم المعاصرة:
وهي تشمل (الحاكمية) و(الجاهلية) والعمليات الاستشهادية (الانتحارية)
1- الحاكمية:
ان اول من صك هذا المفهوم، هو الاستاذ ابو الاعلى المودوي - امير الجماعة الاسلامية في باكستان - في محاضرة بمدينة لاهور، اكتوبر 1939 للرد على القائلين بان الاسلام نظام ديمقراطي وليؤكد ان النظرية السياسية الاسلامية تقوم على (الحاكمية) مستدلا بالآية (ان الحكم إلا لله) و(ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون) ورتب على ذلك:
أ- ليس لفرد او اسرة نصيب من الحاكمية فان الحاكم الحقيقي هو الله والسلطة الحقيقية مختصة به.
ب- ليس لاحد من الامر التشريعي شيئا.
ج- ان الدولة الاسلامية لا يؤسس بنيانها إلا على ذلك القانون الذي جاء به النبي (ص) من عند ربه مهما تغيرت الظروف والاحوال.
نقد وتحليل:
لا نعرف احدا قال بالحاكمية إلا الخوارج القدامى الذين قالوا للامام علي كرم الله وجهه (لا حكم إلا لله) كشعار سياسي يبررون به خروجهم المسلح، ورد الامام عليهم بقوله (انها كلمة حق اريد بها باطل).
والحقيقة ان رؤية الاستاذ المودودي للحاكمية رؤية ضبابية فهو تارة لا يرى للبشر اي دور في التشريع او الامر السياسي وتارة اخرى يقول ان الاسلام لا ينافي تشريع الانسان وانما يحضره في حدود من القانون الالهي الاعلى. كما في محاضرته في 8/1/1958 لكن اكثر من نظر لهذا المفهوم - ايدلوجيا - هو الاستاذ سيد قطب في كتابه (معالم في الطريق) فقال (ان العالم يعيش اليوم كله في جاهلية تقوم على اساس الاعتداء على سلطان الله في الارض وعلى اخص خصائص الالوهية، نوهي الحاكمية، انها تسند الحاكمية الى البشر)، والحق ان شعار لا حكم إلا لله منذ رفعه الخوارج الى يومنا هذا كان مبعث فتنه وفوضى ومدخل تفرقة بين المسلمين) انه لا حاجة لنا الى هذا المفهوم فقد ساعد على استشراء العنف، والاسلام إذ الزمنا بشريعته إلا انه اعطانا حق صياغة مجتمعاتنا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بما يتناسب مع مصالحنا، وقد فتح باب الاجتهاد واسعا، وقال الرسول (ص): (انتم اعلم بامور دنياكم) والقرآن الكريم يجعل (العرف) حاكما للتشريع في كثير من احكام الاسرة.
2- الجاهلية:
هذا المفهوم صكه الاستاذ سيد قطب في كتابه (معالم في الطريق) حيث قال (ووجود الامة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة) ويضيف (نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الاسلام او اظلم، وكل ما حولنا جاهلية).
نقد وتحليل:
لقد اسرف الاستاذ سيد قطب على نفسه حين حكم على مجتمعاتنا بالجاهلية مع اننا مجتمعات تنطق بالشهادتين وتؤدي الفرائض والاركان فلا حجة لسيد قطب ومن رأى رأيه في تكفير مجتمعاتنا.
واضح ان منطلق الاستاذ سيد قطب في حكمه على المجتمعات الاسلامية بالجاهلية كما جاء في كتابه (معالم في الطريق) هو (ثقافة الكراهية) والنقمة والمرارة، ولا منطق عقليا او شرعيا او انسانيا، وراء كل الطرح الفكري البليغ والحماسي الذي تضمنه كتابه، ولكن خطورة هذا الطرح الفكري انها ضللت كثيرا من الشباب ودفعتهم الى مهاوي الهلاك، وهذا ما ينتجه تضخيم مفهوم الحاكمية.
3- العمليات الاستشهادية (الانتخارية):
من اخطر الظواهر التي أبتليت بها المجتمعات الاسلامية (العمليات الانتحارية) او (القنابل البشرية) لقد وقع آلاف الشباب في براثن الارهاب واصبحوا قنابل بشرية ضد مجتمعاتهم بسبب الفتاوى الدينية المحرضة، وظاهرة ان يفجر الانسان نفسه في آخرين ابرياء، ظاهرة لم تعرفها البشرية من قبل، مثل هذه الظاهرة الوحشية لم تعرفها امة غير العرب والمسلمين.
ما الذي جعل الإرهاب بهذه الوحشية؟
- انها الفتاوى التحريضية من قبل منظمي الجماعات الجهادية و"ايضا" فتاوى مشايخ الاسلام السياسي وعلى رأسهم الشيخ القرضاوي، الذي اعتبر العمليات الانتحارية ضد الاسرائيليين - لا فرق بين عسكري او مدني - (اسمى انواع الجهاد) بحجة انهم جميعا مغتصبون، وكذلك افتى في نقابة المحامين بمصر بان من تعاون مع المحتل في العراق يقتل - لا فرق بين مدني او عسكري.
نقد وتحليل:
ان هذه الفتاوى التي تبيح العمليات الانتحارية ضد المدنيين، فتحت ثغرة خطيرة في الاسلام لا سابقه لها، فالانتحار محرم في الاسلام، قولا واحدا، ولا اعلم فقيها اباح قتل النفس حتى في العدو قبل فتوى الشيخ القرضاوي، ولكن ما دافع الشيخ القرضاوي في هذه الفقوى؟ يريد الشيخ القرضاوي بفتواه هذه خدمة البرنامج السياسي لحماس باعتبار - حماس - جزءا من تنظيم الاخوان المسلمين، ولذلك رفض جميع ائمة السلفية هذه الفتوى ووقفوا صفا واحدا ضدها.
الخاتمة:
التسامح: وهل له مستقبل في مجتمعاتنا؟
- التسامح، كلمة محببة الى نفوسنا، ونحن نعيد ونكرر ان الاسلام دين التسامح، ينبذ العنف والكراهية ويدعو الى التعاون والسلام والتعامل بالبر حتى مع المخالفين لنا في الدين، والبشرية في نظر الاسلام اسرة انسانية واحدة، وقد وصف الله المسلمين بانهم امة تدعو الى الخير والتسامح والمحبة. وكلنا نعرف ان رسولنا عليه الصلاة والسلام ضرب اروع الامثلة في التسامح حتى مع اشد اعدائه عندما قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، كما يحفظ التاريخ مواقف مجيدة لتسامح المسلمين مع اصحاب الاديان الاخرى ولكن السؤال المقلق والمحير لنا وللعالم المعاصر حولنا: اذا كانت تلك القيم السامية والمواقف الانسانية هي من طبيعة ثقافة المسلمين وحضارتهم فلماذا لم تجد طريقها الى سلوكيات عملية تجسد تلك المبادئ والقيم سواء بين المسلمين انفسهم او في علاقاتهم بالآخرين؟!
لماذا تستمر الأوضاع في المجتمعات العربية سيئة رغم تلك المبادئ والقيم؟!
- وهو تساؤل طرحه منذ مدة المفكر البحريني د. محمد جابر الانصاري في مقالة بعنوان: (أسوأ الاوضاع واسمى المبادئ) (1) وقال فيها (ان ما ينبغي تأكيده، ان التسامح ليس فطرة يولد بها الانسان بحيث نجد انسانا او شعبا متسامحا، وانسانا او شعبا غير متسامح بفطرتهما، ان التسامح ممارسة عملية من الدرجه الاولى وحصيلة لاسباب موضوعية قبل ان يصبح قيمة مجردة، وقد نجد فردا وشعبا متسامحا في لحظة من حياته واقل تسامحا في لحظة اخرى).
ويضيف الانصاري (وعلى اهمية التبليغ والاقناع بل على اهمية التربية، فانه ما لم تكن البنية المجتمعية الشاملة، والبيئة الاجتماعية - الحضارية - العامة تسمح بالتسامح وتشجع عليه وتعتبره وظيفة من وظائفها الاساسية، وتقليدا متعارفا عليه من تقاليدها الراسخة في التعامل وادارة العلاقات بين الافراد والجماعات،فانه لا يمكن ان يتحول الى واقع والى تطبيق بالممارسة، وسيبقى مثلا اعلى معلقا في السماء، يحث عليه المفكرون والافراد المثاليون، ولكن دون جدوى).
ولقد دعى مجلس الوزراء السعودي الى محاربة فكر الكراهية على مستوى الاسرة والكلمة والموعظة والفتوى، ومن قبل ذلك تعهد زعماء العرب بمحاربة الارهاب مهن جذوره، واهم جذور الارهاب (فكر الكراهية).
وفي (قمة مكة) (2) التي تبنت وثيقتي (بلاغ مكة) و(خطة العمل العشرية لمواجهة تحديات القرن 21) اكد زعماء العالم الاسلامي عزمهم على مواجهة الفكر المتطرف - المتستر بالدين والمذهب - رافضين كل المبررات والمسوغات المروجة له.
ولكن يبقى السؤال الاهم: كيف تستطيع مجتمعاتنا تجاوز ثقافة الكراهية، وتكريس ثقافة التسامح عبر خطوات عملية ملموسة؟
ان نقطة البداية الموضوعية لمعالجة اي قضية، وهي الاعتراف بها - اولا - ثم اعلان قطعية معرفية مع كل موروث ثقافي يتنافى والمبادئ العليا مما هو اجتهاد بشري عمل به الاسلاف مهما كانت نظرتنا التبجيلية لهم ومهما علت مكانته القائلين به، وهذا - ثانيا - ثم - ثالثا - علينا دعم وتشجيع كل ثقافة تحتضن الانسان لانه انسان بغض النظر عن كونه مسلما او غير مسلم، سنيا او شيعيا او متصوفا او اشعريا.
ورابعا: علينا اعادة النظر في المفاصل الاساسية الحاكمة لثقافة المجتمع ومنها:
1- المفصل التربوي: واتصور ان التربية هي البداية الحقيقية في تعزيز قيم التسامح، في البيت، في الاسرة الصغيرة، في تسامح الابوين، في تسامج افراد الاسرة مع بعضهم ومع الخدم ومع الجيران.
2- المفصل التعليمي: للبيئة التعليمية الشاملة للمنهج والنشاط والمعلم دور بارز في تكريس ثقافة التسامح، والمعلم له الدور الاعظم في المنظومة التعليمية باعتباره نموذجا هاديا للتسامح بين طلابه، كما يجب مراجعة المناهج الدراسية السائدة لضمان خلوها من بذور التعصب بكافة اشكاله، والتمييز بكافة صوره، والتعليم - عامة - رافد عظيم لثقافة وقيم التسامح.
3- المفصل الديني: لا يمكن للخطاب الديني بكافة مظاهره - درسا دينيا او كتابا او فتوى او خطبه منبرية - ان يستمر في تغذية نوازع التعصب والكراهية ضد المخالفين لنا في مذهب، أ، دين او رأي سياسي او فقهي او اجتماعي، فان في ذلك اضرارا لمجتمعاتنا وهلاكا لابنائنا واساءة لاسلامنا وهدرا لمبادئنا الانسانية وتشويها لصورتنا امام العالم، كيف يمكن تصور خطابا دينيا من على منابر بيوت الله، يدعو للمجاهدين؟! من هم المجاهدون؟ أليسوا هم هؤلاء الارهابيون الذين يروعون الآمنين ويفسدون في الارض وقد ملأوا مجتمعاتنا كراهية؟! هذا العبث يجب وقفه وعلى الخطاب الديني ان يتجدد وينفتح على ثقافة العصر ويتخلص من عقده وأوهامه ووساوسه المتمثلة في ان العالم لا شغل له إلا التآمر على المسلمين!!
ترى ما هي تلك القوة التي عند المسلمين حتى يرهبنا العالم فيتآمر علينا؟! نحن الذين في اشد الحاجة اليهم في كل مقومات حياتنا بأكثر من احتياجهم لنا.
على الخطيب الديني ان يكون عذورا للناس متسامحا ومعينا على غرس ثقاقة التسامح، على الخطيب الديني ان يتبني مسؤوليته تجاه الشباب فلا يحرضهم على الهلاك ولا يكرههم في الحياة وفي المجتمع، وبيوت الله، منابر للهداية لا يجوز توظيفها للاجندة السياسية كما يفعل زعماء ورموز الاسلام السياسي وبخاصة جماعة الاخوان المسلمين التي تغرر بالشباب وتدفعهم للمهالك باسم الجهاد والاستشهاد، كما لا يجوز للخطيب - ومهما كانت المبررات - توزيع الاتهامات على المخالفين له في الرأي السياسي او الديني بحجة انهم (علمانيون) او (تغريبيون). هل شق عن صدورهم؟! على الخطيب ان يكون داعية للخير والتسامح، باعثا على الامل والمستقبل الافضل.
4- المفصل الاعلامي: على الاعلام ان يكون متوازنا، يركز على القواسم الانسانية والايجابية المشتركة بين الاديان والمذاهب والشعوب، لا يكون هدفه السياسي الاثارة عبر تصعيد اخطاء الآخرين، عليه ترسيخ ثقافة التسامح الديني والسياسي بين طوائف المجتمع والتركيز على مفهوم المواطنة، على الخطاب الاعلامي إضاءة اوجه الشراكة النافعة بين الشعوب وتبني المنهج النقدي، والانفتاح على معارف العصر ونبذ التعصبات والطائفية وثقافة الكراهية.
5- المفصل التشريعي: لا يمكن للتشريعات ان تكون معينة على ثقافة التسامح والمحبة اذا كانت مبنية على التمييز في الجنسية وهضم حقوق الاقليات، يجب مراجعة قوانين الجنسية العربية واحكام الاسرة من اجل انصاف المرأة وغيرها ممن يعانون انتقاصا في حقوقهم وحرياتهم الاساسية لا يمكن لثقافة التسامح ان تترسخ في النفوس والبنية المجمعية اذا كان قطاع من المجتمع يعاني تمييزا وظلما على ارض الواقع ولا يجد انصافا بانه من اقلية مخالفة للاغلبية، دينا او مذهبا او قومية.
هذه هي المفاصل الرئيسية التي يمكن تفعيلها بعد اعادة النظر فيها بما يضمن احياء النزعة الانسانية الشاملة في مضامينها الاساسية في التعليم وفي التنشئة وفي الاعلام والخطاب الديني والتشريعي، يجب علينا ان نحتضن الانسان لكونه انسانا كرمه الخالق مسلما او غير مسلم، ذكرا ام انثى، سنيا او شيعيا، سلفيا او متصوفا ويجب علينا تعزيز قيم المواطنة والانتماء، واعلاء حقوق الانسان واحترام التعددية، وعلينا اعادة الاعتبار لمفهوم الجهاد الاسلامي بعد ان شوهه دعاة الكراهية، وذلك بتبني مفهوم اسلامي رحب للجهاد، فالجهاد الاكبر في تصوري هو ان نحيا ونعمر وننتج ونتقدم وننشر الخير وندافع عن الحق ونساعد المظلومين في سبيل الله لا ان نموت في سبيل الله فحسب.
يجب علينا اعادة تثقيف الائمة والخطباء وتطوير المناهج الدينية وتخصيبها بافكار المجددين وتبني المنهج النقدي الذي يعصم شبابنا من الانزلاق الى التطرف والانحراف، ان غياب المنهج النقدي في مدارسنا ومساجدنا ومنازلنا هو المسبب الاول لضعف التحصين الداخلي للشباب، وضعف مناعة المجتمع العربي في مواجهة امراض الاستبداد والتطرف والتعصب، ومن هذا المنطلق علينا تدريس التاريخ الاسلامي لطلابنا بحسناته وسيآته، بايجابياته وسلبياته، مالنا وما علينا ولا يجوز تدريس التاريخ وفق منهج انتقائي ختزالي يركز على اللحظات المضيئة ويتغافل عامدا المساحة السوداء من المجازر والعنف والخلافات والاساءات بحق انفسنا وبحق الاخرين، هذا النوع من التدريس يخلق عقلية ماضوية ترى ان مستقبلها ماضيها المجيد، تخدع ذاتها وتنشغل عن مستقبلها، يجب علينا التمييز بين تاريخ المسلمين والاسلامي كدين وعدم الخلط بين ما هو دعوي وما هو سياسي وبين ما هو فقهي وما هو شرعي.
يجب تفكيك تحالف السلطة الدينية مع السلطة السياسية التي توظف الخطاب الديني لاهداف السياسة، وذلك بداية تفكيك ثقافة الاستبداد والكراهية.
على مر التاريخ الاسلامي كانت ثقافة الإقصاء والتهميش هي السائدة، وهي السياسية المستمرة من قبل كل طائفة مسيطرة وحاكمة ضد الطوائف الاخرى، وحينما تكونت الدولة الوطنية الحديثة ونصت دساتيرها على مبدأ "المواطنة" معيارا للحقوق والحريات، بثت نصا مجردا معطلا بعيدا عن حقائق الواقع المجتمعي والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين الافراد، وكانت النتيجة تعميق الازدواج في الشخصية الفردية والجماعية العربية وفي ضعف الولاء للوطن وفي زيادة تعصب المواطن لقبيلته وطائفته ومن المزيد من التوتر الطائفي، ومن هنا علينا اعادة الاعتبار لمفهوم المواطنة عبر المفاصل الرئيسية الخمسة وتفعيلها على ارض الواقع.
نعم: التعددية نعمة لكنها تتحول الى نقمة في غيبة الانتماء الوطني وحضور الانتماء الادنى.
يجب علينا ضبط الفتاوى المكفرة والتصريحات المخونة ومحاكمة اصحابها وتجريم استخدام بيوت الله في غير اهدافها والحد من نفوذ السلطة الدينية التي تضخم دورها على حساب منظمات المجتمع المدني وحقوق الانسان.
الاستبداد مرض خطير لكنه مزمن في الارض العربية، هو احد افرازات ثقافة الكراهية ولن تستطيع الحد منه او معالجته الا بتفكيك ثقافة الكراهية، وذلك لا يكون الا بإعلان القطيعة المعرفية مع الينابيع المسمومة والروافد التي تغذي تلك الثقافة.
يجب ان نتعلم كيف نختلف دون ان نتخاصم او يجرح بعضنا بعضا وان يتحلى كل طرف بشجاعة الاعتراف باخطائه تجاه الآخر، ومن ثم يسعى مخلصا لتصحيحها عبر النقد الذاتي وآلية المحاسبة والمراجعة المستمرة، ومن ثم ايضا تكون عنده الشجاعة للاعتذار، فذلك هو الذي يرسخ ثقافة المحبة بدلا من ثقافة الكراهية.
اجمالي القراءات
3942