آحمد صبحي منصور
:
فى البداية نقرر الآتى :
الدولة الاسلامية الحقيقية تمنع تركز السلطة و الثروة فى يد شخص أو فئة أو أسرة أو عائلة أو طبقة ، لأنها تقوم على الديمقراطية المباشرة وتوازن بين الحرية و العدل وتحافظ على حريات الانسان الأساسية ، وعلى راسها حقه فى الحياة وتضمن حريته المطلقة فى العقيدة و الفكر دون أى نوع من الاكراه فى الدين ، ولقد عرضنا لهذا فى مقالات سابقة منشورة هنا فى الموقع.
وبنفس المنظور فهناك نظام اقتصادى فى القرآن الكريم ـ سننشر مقالا عنه فيما بعد . واساس هذا النظام هو التوازن بين حرية السوق و العدل الاجتماعى وضمان الكرامة و الاعالة للمحتاجين بحفظ (حقوقهم ) فى مال المجتمع ، وفى نفس الوقت منع تركز المال فى فئة من الناس حتى لا يتحول ثراؤها الى ترف فتتسبب فى تدمير المجتمع من الداخل ، هذا كله مع تنقية السوق من الاستغلال و الغش و البخس والتطفيف فى الكيل و الميزان على أساس الارتقاء بالانسان من الداخل خلقيا بممارسة تقوى الله تعالى فى التعامل مع الناس ـ أى بتعبير عصرنا إحياء الضمير لدى الانسان ليخشى الله تعالى بالغيب قبل أن يخشى القانون.
هذه هى البداية الأساس.
بعدها نتوقف مع رؤية قرآنية للمستهلك والبائع فى إطار ما سبق بيانه.
ـ للقرآن الكريم نظرة متوازنة لا يقف مع المستهلك " المشتري " على طول الخط كما لا يقف مع البائع دائما ، وإنما يقف مع العدل والقسط ، فالقرآن حين يتوعد المطففين لا يقصد بهم الباعة فقط ، وإنما يقصد المستهلكين أيضا ، فالمستهلك الذي يريد أن يأخذ من البائع فوق حقه فهو مطفف ، والبائع الذي يتلاعب بالميزان هو أيضا مطفف ، وكلاهما له الويل يوم يقوم الناس لرب العالمين (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) المطففين 1 : 4 " .
ـ لقد كانت " مدين " في العصور القديمة تتوسط الطريق التجاري في الشام ،وكان أهلها ذوي قوة وبأس شديد ، وقد استخدموا موقعهم الجغرافي وقوتهم في احتراف التجارة بمنطق السلب والنهب ، فأرسل الله لهم النبي شعيبا عليه السلام ، وكان محور رسالته يدور حول التوحيد والقسط في البيع والشراء : (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) (هود 84 ـ ) " . كانوا إذا باعوا بخسوا الكيل والميزان ، وكانوا إذا اشتروا بخسوا السلع حقها في السعر ، فاستحقوا مقت الرحمن ، وأبادهم الله تعالى .
على أن المفهوم من قصة النبي شعيب مع قومه ( والتي ترددت في مواضع كثيرة فى القرىن الكريم ) أن القوة أو النفوذ والسلطة هي التي تمكن القوم من تحويل التجارة إلى سلب ونهب ، وهذه حقيقة اقتصادية تنبه إليها العالم العلامة ابن خلدون وأكد عليها في مقدمته المشهورة ، حين حذر من احتراف الحاكم للتجارة وتدخله فيها لأنه بذلك يفسد السوق ويقع في استغلال النفوذ والاحتكار .
وحتى حين تعرض ابن خلدون لموضوع التجارة فإنه أكد تحت عنوان " الجاه مفيد للمال " إن صاحب الجاه يتقرب إليه الناس بالخدمة والعمل فإذا كان صاحب الجاه والنفوذ تاجرا اتسعت تجارته ، وإذا كان معدوم النفوذ كانت ثروته بقدر سعيه ، لذلك ينصح ابن خلدون التاجر الذي لا جاه له بأن يتجنب احتراف التجارة لأنه سيعرض ماله للضياع .
وصحيح أن ابن خلدون لم يتكلم عن المستهلك مباشرة ، ولكن نفهم بين سطوره أن التاجر صاحب النفوذ يستخدم نفوذه في ظلم المستهلك سواء بالاحتكار أو بالغش في الميزان في حماية أولي الأمر وهو آمن من سطوة المحتسب الذي يتحكم فى حركة الأسواق أو يفرض السعر الذي يريده . وفي كل الأحوال فالمستهلك هو الذي يدفع فاتورة النفوذ والقوة لدى التاجر الجشع .
ويكرر ابن خلدون ما سبق تحت عنوان يقول إن خلق التجار " نازلة عن خلق الأشراف "لأنهم يمارسون البيع والشراء على أساس المساومة ، وكثيرا ما يلجأون إلى الغش والحيل والأيمان الكاذبة والخداع ، وكل ذلك بعيد عن الشرف والمروءة وقريب من الذل والخسة ، ولذلك يتحاشى ذوو النفوذ والمروءة والشرف العمل بالتجارة ، ومن الطبيعي حينئذ أن يكون المستهلك في أسوء حال إذا وقع في براثن تجار ذوي نفوذ . وذلك ما حذر منه القرآن العزيز حين نهى عن أكل أموال الناس بالباطل عن طريق الرشوة واستغلال النفوذ: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ )( البقرة 188) .
إن من أشد أنواع الفساد إيلاما أن يعمل ذوو النفوذ بالتجارة أو أن يظاهروا التجار ويؤيدوهم بالجاه والنفوذ ليزدادوا تسلطا على المستهلك العاجز، فإذا كانت وظيفة الدولة هي العدل والقسط وإقرار الأمن فإنه إذا استغل أصحاب السلطة نفوذهم في التجارة فقد أصبحوا قطاع طرق ينهبون الشعوب التي ائتمنتهم على حياتها وأموالها ، ولذلك نفهم الحكمة من ترديد القرآن لقصة أهل مدين والنبي شعيب عليه السلام الذي كرر القرآن مقالته لقومه بإقامة القسط في البيع والشراء .
ويظل مصير أهل مدين عبرة لكل المفسدين ، فإذا عجز البشر عن عقاب المفسدين فإن رب البشر تعالى لا يعجزه شيء ، والعادة أن يتسلط المفسدون بعضهم على بعض لتكون نهايتهم عبرة مثل نهاية قوم شعيب ، وصدق الله العظيم حين يقول : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( يوسف 111 ) .
مقالات متعلقة
بالفتوى
: