اضطهاد الأقباط فى مصر بعد الفتح الإسلامى
قصة هذا البحث
1-فيما بين 1977-1980 كنت فى صراع مع شيوخ الأزهر، كانوا يصممون على تغيير ما كتبت فى رسالتى للدكتوراة لأنها تنشر حقائق لا يريدون اظهارها،وأنا مصمم على مناقشة كل المسكوت عنه طلبا لأصلاحه. كان من بين ما أثار حفيظتهم فصل فى الرسالة عن التعصب الدينى ضد الأقباط فى مصر المملوكية بتأثير شيوخ التصوف. أخيرا وصلنا الى حل وسط فى صيف 1980 وبمقتضاه حذفت ثلثى الرسالة، وهما بابان كبيران عن أثر التصوف الدينى والأخلاقى. واكتفيت ببحث آثاره السيئة فى النواحى السياسية والاجتماعية والعلمية والعمرانية..الخ. بمقتضى الاتفاق كنت ملزما بحذف فصل التعصب الدينى لأنه يقع فى الباب الدينى، لكننى احتلت على ابقائه بأن أعدت ترتيب الباب السياسى وأضفت اليه الفصل الخاص باضطهاد الأقباط كأحدى ثمار العلاقة السياسية بين الشيوخ والمماليك. ونجحت فى فرض رأيى على الشيوخ الذين لا يقرأون واذا قرأوا لا يفهمون .
2- فى أول كتاب لى " السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة" سنة 1982نشرت بعض أجزاء رسالتى التى نوقشت ومنها مؤامرة الشيوخ الأحمدية واحراقهم الكنائس المصرية فى وقت واحد. وكنت أول من أماط اللثام على هذه الفاجعة وحققها تاريخيا وأنا الوحيد الذى عرف شخصية المدبر لهذه الحادثة والذى عجزت السلطة المملوكية عن الوصول اليه، اذ كان الرئيس السرى لتنظيم شيعى فشل من قبل زعيمه- السيد البدوى –الولى المشهور حتى الآن - فى قلب نظام الحكم المملوكى فانتقم الاتباع فيما بعد باحراق الكنائس ليوقع الخلل فى الدولة المصرية ليسقطها من الداخل وكاد أن ينجح.
3- فى سنة 1984 قررت على الطلبة فى الجامعة عدة كتب من تأليفى كان منها كتابى " شخصية مصر بعد الفتح الاسلامى" وعقدت فيه فصلا عن اضطهاد الأقباط بعد الفتح الاسلامى ، كان أول وآخر كتاب مقرر فى جامعة الأزهر يقدم للطلبة هذه الحقائق وينبه على مخالفتها للاسلام.
4- كل هذا ولم أكن قد قابلت فى حياتى مصريا قبطيا ولم أكن قد تعاملت مع أى منهم بحكم بيئتى الأزهرية. وظللت هكذا بعيدا عن الأقباط أدافع عنهم دون معرفة حتى بعد تركى الأزهر الى أن تعرفت بصديقى طيب الذكر الدكتور فرج فودة ، فتعرفت من خلاله على كثير من الأقباط ،منهم من أفخر بمعرفته حتى الآن ومنهم من أعتذر عنه لنفسى امام نفسى معللا تعصبهم بقسوة الاضطهاد الذى تحملوه.
5- حين انطلق شيطان التطرف يقتل الأقباط فى الصعيد وغيرها فى أوائل التسعينيات كونت مع مجموعة من المصريين النبلاء ( الجبهة الشعبية لمواجهة الارهاب ) وكنت مقررها الفكرى ومستشارها الدينى، وكان لها نفوذ تبرعت به الدولة وقت ضعفها أمام سطوة الجماعات الشيطانية فى الصعيد والأحياء الشعبية بالقاهرة فكنا نذهب الى معاقل التطرف نزور الضحايا ونهاجم الجناة ونندد بهم فى لقاءات مفتوحة فى وقت قبع فيه كتبة الحكومة وخدمها داخل مكاتبهم مذعورين وبعضهم أخذ يغازل المتطرفين بين سطور كتاباته يحجز لنفسه مكاتا فى الاتوبيس القادم. بعد أن استعاد الحكم المستبد سيطرته اتبع معنا سياسة " الاستدعاء والاستغناء " أى يستدعينا اذا احتاج ويستغنى عنا اذا لم يعد محتاجا لخدماتنا التطوعية . طالبنا بتفعيل دورنا الفكرى لنقطع دابر التطرف الفكرى بعد كسر حدة الهجمة الارهابية العسكرية ولكن الحكم الاستبدادى كشر لنا عن أنيابه فتوارينا عن الانظار خوف الاعتقال – ومعظمنا ذاق مرارته. الا اننى واصلت الطريق من خلال الجمعية المصرية للتنوير ثم مركز ابن خلدون وندوة ابن خلدون الاسبوعية والمقالات الاسبوعية والشهرية فى الصحف المصرية.
6- جاءتنى فكرة عقد مؤتمراسلامى مصرى خالص يناقش قضية أضطهاد الأقباط من منظور اسلامى فلامى فى مركز ابن خلدون أو المنظمة المصرية لحقوق الانسان. كتبت هذا البحث وعرضت الأمر على صديق قبطى صحفى مشهور فاقتنص الفكرة لنفسه ، وبدلا من دعوة المفكرين المسلمين المستنيرين دعا أثرياء الأقباط للحديث وكانت الورقة الوحيدة هى ورقتى التى قرءوها وتحدثوا فى موضوعات شتى غيرها، وانتهى الأمر بتجاهلهم لطبع ورقتى ونشرها ، وهى أساس المؤتمر الذى لم يسمع به أحد ، والفائز الوحيد هو الصديق القبطى الذى جمع الأموال ممن دعاهم وتحول المؤتمرالاصلاحى الذى كنت اتمناه الى جلسة "مصاطب" للتسلية.
7- رجعت احلل الموقف طيلة ليلة بأكملها.كان أملى هو الاصلاح من داخل الاسلام لان المشكلة فى داخل الفكر السلفى الذى يرفع لواء الاسلام زورا. وورقتى البحثية تثبت ذلك وتعطى اساسا للنقاش بين المفكرين المسلمين الذين تغيب عنهم الكثير من الحقائق، ولو كسبنا بعضهم لكان فى ذلك نصر كبير لمصر والأقباط. وسألت نفسى : لماذا هذا التجاهل ؟ قد أكون الوحيد الذى يدافع عن الأقباط بدون أن يحول دفاعه عنهم الى استرزاق، فقد دافعت عنهم دون أن تكون لى أدنى معرفة بأى منهم ، ودافعت عنهم داخل الأزهر ذاته وكسبت عداءات داخل جامعتى وأصحابى من أجل من لم أعرفهم.
8- فى النهاية عرفت السبب وبطل العجب. اننى دون أن أدرى – أدافع عن دينى أولا وأخيرا. اهاجم المتطرفين لأدافع عن الاسلام وليس الاقباط. ومعظمهم لا يريد ذلك . المتعصبون منهم لا يرانى مختلفا عن بقية الشيوخ طالما أتحدث مثلهم من داخل القرآن وبالتراث. ولأنه يكره الاسلام أصلا فانه يحلو له أن يظل الاسلام متهما بالارهاب أفضل من ان آتى أنا وأضع الحقائق الفاصلة بين الاسلام والمسلمين، بل بين المسلمين المستنيرين والمتطرفين. ولهذا يكره ما أعمل ويتمنى ألا أفعل. هو بذلك يلتقى مع المتطرفين الوهابيين، فتلك طبيعة الأشياء فى تلك الدائرة حيث يتلامس أقصى اليمين المتعصب مع أقصى اليسار المتشدد. الا أن طبيعة الأشياء نفسها تؤكد أن الطرفين المتطرفين – بسكون الياء – ليسا كل الدائرة انما مجرد طرفين متباعدين. الذى يصنع الحقائق على أرض الواقع وفى صفحات التاريخ هم غير المتعصبين . وفى عصرنا لم يعد كثير متسع للتعصب.
فى مقابل التعصب القبطى - الذى اتفهمه وأعذره - هناك رفاق من نبلاء الأقباط تحلو بهم الدنيا مهما اكفهر وجهها. لكثرة اسمائهم لا يتسع المقال لذكرهم . وهم دائما فى القلب . حتى اذا كان القلب .. فى المنفى ..!!
آسف عزيزى القارىء لهذه المقدمة الطويلة لهذا البحث الذى كتبته منذ أكثر من عشرة أعوام ولا يزال صالحا "للاستهلاك الآدمى "..
أحمد صبحى منصور
الاسكندرية - فرجينيا - مايو 2005
اضطهاد الأقباط فى مصر بعد الفتح الإسلامى
"المقدمة"
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُـمْ وَأُفَوّضُ أَمْرِيَ إِلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾
(غافر 44)
وبعد..
هذه ورقة بحثية عن.
وتضم العناصر الاتية:
1- موقف الإسلام من اضطهاد غير المسلمين.
2- بداية اضطهاد الأقباط فى عصر الخلفاء الراشدين.
3- اضطهاد الأمويين للأقباط عنصرياً.
4- الاضطهاد الدينى للأقباط بعد الأمويين.
والواضح أن التركيز ههنا على الاضطهاد الذى لاقاه الأقباط بعد الفتح الإسلامى وجذوره الدينية والتاريخية، والورقة تركز على ذلك لتبرئ الإسلام منه، ولتحذر بعض المنتسبين للإسلام من استعادة بعض مظاهر التعصب التى سادت فى العصور الوسطى والتى تخالف سماحة الإسلام وشريعته.
وأكثر ما فى هذه الورقة جاء تلخيصاً لمؤلفات سابقة بعضها تم نشره مثل (السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة)، (شخصية مصر بعد الفتح الإسلامى).وبعضها لم يحظ بعد بالنشر مثل رسالتى للدكتوراه فى جامعة الأزهر، وأبحاث أخرى مثل "حقوق الأقليات فى الإسلام"، "الحياة اليومية لأجدادنا المصريين منذ خمسمائة عام.."، "الشورى الإسلامية: أصولها، تطبيقها.." بالإضافة إلى عشرات المقالات المنشورة التى ناقشت بعض الموضوعات السابقة، ونشرتها (القاهرة)، (الأهالى)، (الأحرار)، (الأخبار) وإصدارات المنظمة المصرية لحقوق الإنسان..
ونأمل أن تتلو هذه الورقة البحثية دراسات وأبحاث لمثقفين آخرين تتصدى بشجاعة لإنصاف المظلومين وتبرئة الإسلام مما يرتكبه بعض المسلمين..
والله تعالى المستعان..
د. أحمد صبحى منصور
أكتوبر1994
أولاً: موقف الإسلام من اضطهاد غير المسلمين
ليس من المألوف أن نتحدث عن اضطهاد معين دون إثباته أولاً ثم يأتى بعد ذلك توضيح موقف الإسلام منه.إلا أن انتماء المؤلف الإسلامى وحرصه على تبرئة دينه ومعايشته للتاريخ الإسلامى والتراث كل ذلك جعله يبدأ بتوضيح موقف الإسلام وتبرئته من أعمال بعض المسلمين، ثم يسير مع وقائع الاضطهاد والمسئولين عنها.
ويرى المؤلف أن السياق التاريخى يتفق مع وجهة نظره..
فقد ظهر الإسلام بدعوته الإصلاحية التحررية أولاً.. ثم ما لبس أن تحول على يد المسلمين إلى إمبراطورية فاتحة تراعى مقتضيات الحكم والسياسة والسيادة على حساب تعاليم الإسلام نفسه، بل إن أعوانها من علماء الدين كانوا يصوغون لها من الأحاديث المزورة والفتاوى ما يبرر لهم تصرفاتهم التى تخالف القرآن الكريم، ثم يزعمون أن تلك الأحاديث والفتاوى أبطلت أحكام القرآن الكريم تحت مصطلح النسخ.
ثم إننا نشهد الآن بعثاً للاضطهاد الذى كان سمة العصور الوسطى، وذلك الاضطهاد يقوم على رعايته والدعاية له تيار التطرف الذى يرفع لواء الإسلام.. لذا كان لابد من توضيح موقف الإسلام منذ البداية.
ولن نكرر الكلام المعتاد المعروف عن سماحة الإسلام الذى يكرره نجوم التيار المدنى للتطرف بعد حوادث العنف ضد الأقباط، إذ من المعتاد أن يشحنوا النفوس بالبغضاء والتعصب، فإذا وقعت حوادث العنف وسالت دماء أسرعوا يتوضأون بدماء القتلى ثم يتحدثون عن سماحة الإسلام ويستنكرون ويشجبون. ومع أن حديثهم عن سماحة الإسلام صحيح لأنه مستمد من نصوص قرآنية، ولكن كان يلزمهم لإبراء الذمة أن يوضحوا عبث وتزوير الأحاديث المنسوبة كذباً للنبى (عليه الصلاة والسلام) والتى يقوم عليها أسس التطرف والإرهاب ويعلنوا تبرئة الرسول والإسلام منها ومن إساءة الاستخدام للتفسير القرآنى الذى وضعه علماء الدين فى العصور الوسطى، عصور التعصب والظلام.
والمهم أننا وفى توضيحنا لموقف الإسلام سنعتمد منهجاً جديداً.. يجيب على أسئلة محددة وبحقائق قرآنية مؤكدة وحقائق تاريخية متواترة..
من الحقائق التاريخية المتواترة أن الشعب المصرى- والأقباط بالذات- شعب مسالم يكره العنف ويستريح للصبر على ظلم الحاكم وقلما يثور عليه وهذا الشعب المسالم المأمون الجانب ما هو التوصيف القرآنى له؟. والإجابة من نص القرآن الكريم تؤكد أنه شعب مسلم مؤمن، لأن الإسلام فى معناه الظاهرى فى التعامل مع البشر هو السلام والسلم، ولأن الإيمان فى معناه الظاهرى هو الأمن والأمان.
ونأتى إلى حقائق القرآن الكريم:
إن كلمة الإيمان فى معناها اللغوى والقرآن لها استعمالان: (آمن ب..)، (آمن ل..)
1- "آمن ب" أى اعتقد، مثل قوله تعالى ﴿آمَنَ الرّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رّسُلِهِ﴾ (البقرة 285).
و"آمن ب" بمعنى اعتقد تعنى الإيمان القلبى الباطنى، أو التعامل مع الله تعالى. والبشر فى ذلك يختلفون حتى فى خلال الدين الواحد والمذهب الواحد. والقرآن الكريم يؤكد على تأجيل الحكم على الناس فى اختلافاتهم العقيدية إلى يوم القيامة. "البقرة 113، آل عمران 55، يونس 93، النحل 124، المائدة 48، الزمر 3، 46".
2- الاستعمال الآخر هو "آمن ل" أى وثق واطمأن وأصبح مأمون الجانب مأموناً من الناس وتكرر هذا المعنى فى القرآن الكريم خصوصاً فى القصص القرآنى، ففى قصة نوح قال له المستكبرون ﴿قَالُوَاْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتّبَعَكَ الأرْذَلُونَ﴾ (الشعراء 111) أى كيف نثق فيك ونطمئن إليك وقد اتبعك الرعاع.. وتكرر ذلك المعنى عن "آمن ل" فى قصة إبراهيم (العنكبوت 26) وقصة يوسف (يوسف 17) وقصة موسى (الدخان 21، المؤمنون 47) وفى حديث القرآن عن أحوال النبى الخاتم فى المدينة (آل عمران 73، البقرة 75) ومواضع أخرى كثيرة.
والإيمان بمعنى الأمن والأمان هو بالطبع حسب التعامل الظاهرى، فكل من تأمنه ويكون مأمون الجانب هو إنسان مؤمن، أما عقيدته فهذا شأن خاص بعلاقته بالله، والله تعالى يحكم عليه وعليك يوم القيامة.
وقد جاء الاستعمالان معاً لكلمة الإيمان فى قوله تعالى عن النبى محمد "صلى الله عليه وسلم" ﴿يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة 61) أى أنه (يؤمن بالله) أى يعتقد فيه وحده إلهاً و(يؤمن للمؤمنين) أى يثق فيهم ويطمئن لهم.
وبتطبيق هذه الحقائق القرآنية على الشعب المصرى فهو شعب مؤمن لأنه شعب ينحاز دائماً للأمن والأمان، بل إنه قد يصبر على ظلم الحاكم إيثاراً منه للدعة والسكون. أما العقائد فمرجعها لله تعالى يوم القيامة وليس لنا، والتطبيق لنا حسب الظاهر فى التعامل، والظاهر هو إيثار الأمن والأمان، والله تعالى لم يعط أحداً الحق فى أن يتحدث بإسمه أو أن يقيم يوماً للحساب قبل يوم الحساب، ومن يفعل ذلك فقد تقمص دور الله وأصبح مدعياً للألوهية ومنبوذاً من الانتماء لتعاليم القرآن الكريم.
وبتطبيق هذه الحقائق القرآنية عن معنى الإيمان الظاهرى- على الأقباط بالذات- نراهم من خلال تاريخهم الطويل أكثر الناس تعرضاً للاضطهاد والصبر عليه، منذ اضطهاد الرومان فى حكم دقلديانوس وكراكلا، إلى الاضطهاد فى فترات مختلفة فى العصور الأموية والعباسية والمملوكية، ولا نقول العصور الإسلامية لأن الإسلام يرفض الظلم. كان الأقباط- ولا يزالون- يتحملون الاضطهاد ما استطاعوا، وورثوا حتى الآن صبراً على المكاره يدفعهم إلى المزيد من السلبية والسكون والمغالاة فى الحذر وتوقع الخطر وطلب الأمن والأمان بأى وسيلة. وذلك يجعلهم أكثر من غيرهم من المسلمين المصريين استحقاقاً لمعنى الإيمان الظاهرى، أى الأمن والأمان، وبالتالى فإن المعتدى عليهم يكون بنفس القدر أبعد الناس عن الإيمان بمعناه الظاهرى ومعناه الاعتقادى أيضاً حيث يخالف تعاليم القرآن الكريم التى سنتعرض لها فى حينها..
هذا فيما يخص معنى الإيمان..
فما هو نصيب الأقباط من معنى الإسلام؟
الإسلام كالإيمان له معنى ظاهرى، ومعنى باطنى قلبى اعتقادى، معناه الباطنى الاعتقادى الخاص بعلاقة الإنسان بربه هو الانقياد لله وحده. أى أن يسلم الإنسان نفسه طاعة لله وحده، والإسلام بهذا المعنى نزل فى جميع رسالات السماء على جميع الأنبياء وبكل اللغات، إلى أن نزل باللغة العربية وصار ينطق بكلام "الإسلام" التى تعنى فى الاعتقاد إسلام الوجه والقلب والجوارح لله تعالى، أو كقوله تعالى لخاتم الأنبياء ﴿قُلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مّلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُلْ إِنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأنعام 161: 163) أى أن الله تعالى يأمر النبى بأن يقول أن الله هداه إلى دين إبراهيم الصراط المستقيم وهو أن تكون لله وحده صلاته ونسكه وحياته ومماته، وبذلك يكون أول المسلمين عند الله..
وهذا هو معنى الإسلام الاعتقادى القلبى الذى سيحكم الله تعالى عليه يوم القيامة، والله تعالى لن يقبل يوم القيامة ديناً آخر غير الخضوع أو الاستسلام له وطاعته وحده، وذلك معنى قوله تعالى ﴿إِنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾، ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (آل عمران 19،85)، فالإسلام هو الخضوع لله تعالى بكل اللغات وفى كل زمان ومكان وفى كل الرسالات، إلا أنه عندنا مع الأسف قد تحول إلى مجرد وصف وإسم فى خانة البطاقة والهوية مهما كان صاحبه ظالماً أو فاسقاً.
والله تعالى لا يأبه لما يطلقه البشر على أنفسهم من ألقاب وتقسيمات مثل الذين آمنوا والذين هادوا- اليهود- والنصارى والصابئين (أى الخارجين على دين أقوامهم) والقرآن الكريم يؤكد فى آيتين أن الذين يؤمنون إيماناً باطنياً وظاهرياً- (بالأمن والأمان مع البشر والاعتقاد فى الله وحده) ويعملون الصالحات ويؤمنون باليوم الآخر ويعملون له، فهم من أولياء الله تعالى سواء كانوا من المؤمنين (أتباع القرآن الكريم) أو من اليهود أو من النصارى أو من الصابئين، يقول تعالى ﴿إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَىَ وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة 62). ويقول تعالى ﴿إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئُونَ وَالنّصَارَىَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (المائدة 69). أى أن من يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحاً فهو عند الله تعالى قد ارتضى الإسلام ديناً، أى استسلم لله طاعة وخضع له تعالى انقياداً. سواء كان من المسلمين أو اليهود أو النصارى أو الصابئين، وذلك بغض النظر عن الطوائف والمسميات. وذلك ما سنعرفه يوم الفصل أو يوم القيامة أو يوم الدين، وليس لأحد من البشر أن يحكم على إنسان بشأنه وإلا كان مدعياً للألوهية.
وهذا هو معنى الإسلام الباطنى القلبى الاعتقادى عند الله تعالى. استسلام لله تعالى وحده بلغة القلوب، وهى لغة عالمية يتفق فيها البشر جميعاً مهما اختلف الزمان والمكان واللسان..
أما الإسلام فى التعامل الظاهرى فهو السلام والسلم فى التعامل بين البشر.
يقول تعالى ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً﴾ (البقرة 208) أى أمر لهم بإيثار السلم. وتحية الإسلام هى السلام.. واسم الله تعالى هو السلام.. وكل ذلك مما يعبر عن تأكيد الإسلام على وجهه السلمى. ويؤكد المعنى السابق للإيمان بمعنى الإيمان والأمان..
والإنسان الذى يحقق الإيمان فى تعامله مع الناس فيكون مأمون الجانب لا يعتدى على أحد.. ويحقق الإيمان الباطنى فى قلبه فلا يؤمن إلا بالله تعالى إلهاً يكون عند الله مستحقاً للأمن فى الآخرة.
والإنسان الذى يحقق الإسلام فى تعامله مع الناس فيكون مسالماً لا يعتدى على أحد، ويحقق الإسلام القلبى فلا يسلم قلبه وجوارحه إلا لله تعالى يكون عند الله تعالى مستحقاً للسلام فى الآخرة.
يقول تعالى ﴿الّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مّهْتَدُونَ﴾ (الأنعام 82). أى أن الذين آمنوا بالله فى عقيدتهم وأمنهم الناس فلم يظلموا أحداً لهم الأمن فى الآخرة، لأن الجزاء من نفس العمل.
ويقول الله تعالى عنهم وهم آمنون فى الجنة ﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ (سبأ 37).
ويقول تعالى عن الذين سلم الناس من أذاهم لأنهم كانوا مسالمين، وكانوا فى عقيدتهم مسلمين لله تعالى وحده: ﴿لَهُمْ دَارُ السّلاَمِ عِندَ رَبّهِمْ﴾ (الأنعام 127). أى لهم السلام فى الآخرة.. لأنهم أعطوا السلام للبشر.. لذا تقول لهم الملائكة وهم على أبواب الجنة ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ﴾ (الحجر 46) أى سلام وأمن. أى إسلام وإيمان فى الدنيا كان جزاؤه السلام والأمن فى الآخرة، فأصحاب الجنة هم الذين كانوا مسلمين مسالمين مؤمنين آمنين مأمونين.
ولكن ما هى صلة ذلك بوطننا مصر؟
إن مصر هى البلد الوحيد- بعد البيت الحرام- الذى ذكره القرآن مقروناً بالأمن، فالنبى يوسف عليه السلام حين استقبل أباه يعقوب عليه السلام وأخوته قال لهم ﴿ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللّهُ آمِنِينَ﴾ (يوسف 99) ومصر ليست مجرد أرض وجغرافيا طبيعية.إنها قبل ذلك وبعد ذلك بشر يعيشون عليها فى أمن وأمان، أو هكذا تلون تاريخنا المصرى طيلة سبعين قرناً من الزمان استضاف فيها الغرباء والوافدين فتمتعوا بكرم الضيافة والأمن، وكان منهم يوسف الذى مكن الله له فى الأرض بمجرد دخوله مصر (يوسف 21) والمصريون أحق شعب فى شعوب العالم بأن يوصف بأنه شعب مسلم مؤمن حسب طبيعته التى تؤثر السلام.
والأقباط المصريون بالذات أكثر المصريين إيثاراً للسلام والمسالمة والأمن والأمان وهم بذلك أحق البشر جميعاً بوصف الإسلام بمعنى السلام والمسالمة وبوصف الإيمان بمعنى الأمن والأمان. أما عقائدنا- جميعاً- فى الله تعالى فالله تعالى هو وحده صاحب الحكم فيها ولم يعط ذلك الحق لأحد.. وقد جعل للفصل فى ذلك يوماً هو يوم الدين، وبذلك لم يعد لأحدنا الحق فى أن يتصدى بالتسفيه لعقائد الآخرين، بل أنه من أدب الحوار فى الإسلام أن نرتضى تأجيل الحكم إلى الله تعالى يوم القيامة، أما آيات القرآن الكريم التى تتحدث عن عقائد الآخرين فهى الحق الذى يقوله رب العزة فى شأن يخص ذاته ويرد به على ما يقوله البشر عنه، ومع تكرار تلك الآيات القرآنية فإن القرآن الكريم يؤكد للنبى نفسه- بعد توضيح الحق القرآنى فى حقيقة المسيح عليه السلام- أنه إذا جاءه أحد بعد ذلك التوضيح يجادله فى الموضوع فما عليه الا أن يبتهل بأن يجعل لعنة الله على الكاذبين، أى لم يأمره باتهامهم بالكفر أو المروق عن الحق، وإنما مجرد المباهلة لأن تكون لعنة الله على الكاذبين من الفريقين المتخاصمين.. (آل عمران 33: 57، 58: 61) .
وإذا لم يكن من حق النبى محمد (عليه السلام) نفسه أن يتهم من يجادله فى ذلك الموضوع بالكفر فليس من حق أحد بعده أن يتهم غيره من البشر والطوائف بالكفر بل عليه أن يحاور بالحكمة والموعظة الحسنة، فبذلك أمر القرآن الكريم (النحل 125، الإسراء 53، فصلت 34، سبأ 24) بل عليه أن يصفح عن المختلفين معه ويصبر وينتظر الحكم عليه وعليهم يوم القيامة، فذلك ما أمر به الله تعالى فى القرآن الكريم (الحجر 85، الزخرف 88، الجاثية 14).
وإذا كان هذا عاماً فى التعامل مع المشركين الكافرين الذين يمدون أيديهم بالأذى للمؤمنين فإن لأهل الكتاب من النصارى واليهود تعاملاً خاصاً فى الجدال والحوار، وقد أوضح الله تعالى ذلك بالنهى عن الجدال معهم إلا بالتى هى أحسن، لأن أغلبهم يميل إلى السلم والسلام، أما الظالمون منهم فلا جدال معهم بل يكتفى المسلم بأن يقول لهم بأنه يؤمن بما أنزل إليه فى القرآن ما أنزل إليهم فى التوراة والإنجيل والكتب السماوية الأخرى، وأنه يؤمن بالإله الواحد الذى هو إله الجميع من المسلمين وأهل الكتاب، وهو يسلم وجهه لذلك الإله جل وعلا.. وذلك معنى قوله تعالى ﴿وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوَاْ آمَنّا بِالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـَهُنَا وَإِلَـَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (العنكبوت 46). أى يقول ذلك ولا يتعداه اذا جاءه ظالمون من اليهود والنصارى ليجادلوه ويخاصموه.
ولكن نجوم التطرف فى عصرنا يحلو لهم تكفير النصارى ويفتحون الطريق لتكفير المجتمع كله وتكفير بعضهم البعض، ويترتب على التفكير استحلال الدماء والأموال.
وعلى سبيل المثال فإن آيات الموالاة فى القرآن قد تم توظيفها ضد الأبرياء من المصريين الأقباط، ويصرخ خطباء المساجد فى التحريض ضد الأقباط مستشهدين بقوله تعالى ﴿يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنّصَارَىَ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلّهُمْ مّنكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ﴾ (المائدة 51). وهم فى ذلك الاستشهاد الخاطئ ويتناسون تشريعات الموالاة ومعناها، كما يتناسون تشريعات القتال وأنه للدفاع عن النفس وليس للاعتداء على الأبرياء. ان هذه الآية الكريمة لا علاقة لها بالأقباط مطلقا وليست لها علاقة بأى يهود ونصارى مسالمين أو بيننا وبينهم عهد وميثاق. تنطبق الآية فقط حين يقع اعتداء اجنبى حينئذ تحرم موالاة ذلك العدو الغازى ضد ابناء الوطن والأهل والعشيرة.
وحتى نفهم الخلفية التاريخية فى تشريعات الموالاة والقتال علينا أن نسترجع تاريخ المسلمين فى مكة وتعرضهم للاضطهاد والأذى فيها لمجرد أنهم اتبعوا ديناً جديداً مخالفاً لدين الأغلبية. ثم وصل بهم الاضطهاد إلى إرغامهم على ترك الوطن والأهل، وكان من أولئك الأهل من تطرف فى إيذائهم ومنهم من اعتدل، ومنهم من سكت عن الظلم. ولكنهم جميعاً لم يتركوا المسلمين فى حالهم بعد أن استولوا على ديارهم وأموالهم فى الإيلاف أو رحلة قريش التجارية فى الشتاء والصيف. فواصل المشركون اعتداءاتهم وقتالهم للمسلمين وتحمل المسلمون ذلك حيث لم ينزل لهم الإذن بالقتال. فنزل الإذن بالقتال للرد على قتال قائم يعتدى به المشركون على المسلمين فعلاً. وهذا معنى قوله تعالى ﴿أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنّ اللّهَ عَلَىَ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ أى أن المؤمنين كانوا يواجهون قتالاً واعتداءاً ظالماً فجاءهم الإذن برد ذلك الاعتداء الظالم بمثله، ثم تقول الآية التالية توضح خلفية أخرى لذلك الاضطهاد الذى واجهه المؤمنون فى مكة قبل أن يقاتلهم المشركون فى المدينة ﴿الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاّ أَن يَقُولُواْ رَبّنَا اللّهُ﴾ (الحج 39،40) ثم توالت بعدها تشريعات القتال تربط الأوامر بالقواعد بالمقاصد، ونزلت تشريعات الموالاة فى إطار ذلك الصراح الحربى، ومنها نفهم أن الموالاة أن تكون (مع) فريق (ضد) فريق آخر فى إطار الحرب مع/ضد، أى تعنى التحالف مع طرف ضد آخر. وبالتالى فإنه من المحرم والممنوع أن يتحالف بعض المؤمنين أى أن يوالوا المشركين المعتدين على قومهم المسلمين، وبهذا نزلت تفصيلات سورة الممتحنة.
وفيها الآية الثامنة- وهى آية محكمة فى تشريع الموالاة- تؤكد أن الله تعالى لا ينهى عن البر والقسط مع المخالفين فى الدين – ولم يصفهم الله تعالى بالمشركين لأنهم حسب التعامل الظاهرى مسلمون مسالمون لم يقاتلوا المسلمين بسبب دينهم ولم يخرجوهم من ديارهم- فقال تعالى عنهم ﴿لاّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوَاْ إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ﴾ والآية التاسعة تحصر النهى عن الموالاة فى أولئك الذين قاتلوا المسلمين بسبب دينهم وأخرجوهم من ديارهم أو ساعدوا على إخراجهم من ديارهم، والنهى هنا عن موالاتهم والتحالف معهم ضد المؤمنين طبعاً ﴿إِنّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدّينِ وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَىَ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلّهُمْ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾.
أولئك المتاجرون بالإسلام هم أحوج الناس لفهم تشريعات القرآن وحرصها على حقن الدماء، خصوصاً دماء المؤمنين الآمنين المسلمين المسالمين – ومنهم الأقباط المصريون حسب التوصيف القرآنى - وهم الذين لا يعتدون على أحد ولا يمكن أن يكون أحدهم قاتلاً إلا فى حالة واحدة هى القتل الخطأ.. وفى ذلك يقول تعالى ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَئاً﴾ (النساء 92)، أى ما كان يصح ولا يمكن أن يتصور أن يقتل مؤمن مؤمناً إلا على سبيل الخطأ وعدم التعمد.
المؤمن الآمن المسلم المسالم قد يقتل مجرماً إذا حاول الاعتداء عليه لأن له حق الدفاع عن نفسه، وإذا قتل المعتدى فهو لم يرتكب جريمة قتل مؤمن مسالم وإنما قتل مجرماً معتدياً، فالمجرم المعتدى على الأبرياء المسالمين لا يمكن أن يكون مسلما مهما زعم.
ولكن المؤمن المسالم قد يقع فى الخطأ فيقتل إنساناً بريئاً مسلماً مأمون الجانب مؤمناً دون قصد، وحينئذ فعليه أن يدفع الدية كما فصلته الآية (92) من سورة النساء.
ولكن ذلك المؤمن الآمن المأمون الجانب المسلم المسالم إذا قتله مجرمً عمداً فما جزاء ذلك القاتل عند الله تعالى؟
تقول الآية التالية ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ (النساء 93) وهى الآية الوحيدة فى القرآن التى حلفت بكل أنواع العذاب والغضب واللعنات.. وذلك يدلنا على فداحة قتل الإنسان المسالم البرىء..
وتقول الآية التالية تحدد لنا معنى المؤمن الذى يحرص القرآن الكريم على سلامته وحقن دمه ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىَ إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً﴾ (النساء 94) فالآية تتحدث عن الاشتباك الحربى بين المسلمين وأعدائهم المعتدين، اذ لا يجوز للمسلمين أن يحاربوا الا فى حالة واحدة هى الفاع عن النفس ضد المعتدين فقط. لذا تحذرهم الآية من قتل المسالمين حتى اثناء تلك الحرب الدفاعية، وتؤكد على ضرورة أن يتبينوا عدوهم عند الاشتباك، فكل من ألقى إليهم السلام أو ألقى عليهم تحية الإسلام فهو مؤمن.. أى أن تحديد الإيمان أو المؤمن ليس بما فى القلب ولكن فيما يخص تعاملنا الظاهرى، فالإيمان هو مجرد إلقاء تحية الإسلام وعدم الاعتداء، ومن ألقى السلام فقد أصبح مؤمناً مسلماً بغض النظر عن دينه وملته وعقيدته ، وحتى لو كان موجودا فى صف الأعداء عند الاشتباك الحربى ولكن رفع صوته بالسلام يكون بذلك مؤمنا لا بد من حمايته، ومن يقع فى جريمة قتله يكون مستحقاً للعذاب الخالد واللعنة والغضب ونار جهنم.
لقد نزلت الآيات الكريمة- أول ما نزلت- على مجتمع عربى وبدوى أسرع ما يكونون إلى الحرب، وقد وصف القرآن البدو الأعراب الذين كانوا يحاصرون دولة النبى محمد عليه السلام بأنهم أشد الناس كفراً ونفاقاً، ومع ذلك فإن الله تعالى أوصى بحقن دمائهم بمجرد أن يلقى أحدهم السلام أو يبدى رغبة فى السلام واعتبره مؤمناً حسب الظاهر أو بمعنى الأمن والأمان. بل أنه فى حالة الاشتباك الحربى فإن العدو المقاتل إذا كف يده وأعلن رغبته فى السلم من الواجب حقن دمه وتوصيله إلى بيته آمناً سالماً بعد أن يسمع القرآن الكريم حتى يعلم الحق ويكون ذلك حجة عليه يوم القيامة ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّىَ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْلَمُونَ﴾ (التوبة 6).
هذه تشريعات فى حقن دماء المحاربين ساعة الاشتباك.. وصيانة حياة المدنيين فى الحرب حتى لو كانوا مشتبهاً فى اشتراكهم فى الاعتداء كالأعراب الذين هم أشد الناس كفراً ونفاقاً والذين كانوا يتربصون بالمسلمين وينافقونهم ويكيدون لهم .
فما هو حكم الأقباط المسلمين الذين لم يعرفوا منذ عشرين قرناً إلا الصبر على الأذى والاضطهاد؟ ثم هل يجوز أن يتعرضوا لاضطهاد أولئك الذين يزعمون أنهم يؤمنون بالقرآن ويتمسكون بالإسلام؟ ثم ما هو حكم الإسلام فى أولئك الذين يتمسحون باسمه ويرتكبون تحت شعاره أفظع الجرائم؟! نرجو من كل من يهمه الأمر بأن يقرأ بقلب مفتوح وبتمعن الآيات الثلاث (92، 93، 94) من سورة النساء، ويتدبر حرص القرآن الكريم على حرمة النفس المسالمة حتى لو كانت من الأعراب المشهور عنهم السلب والنهب والكفر والنفاق والغدر والاعتداء على المسافرين والمسالمين.. ولكن القرآن يعطى الواحد منهم حصانة ضد القتل أثناء الاشتباك الحربى بمجرد أن يلقى بلسانه كلمة السلام. فما بالنا بالذين عاشوا فى أرضهم عشرات القرون فى سلم وسلام وإكرام للضيف ورعاية للغريب؟ الذين عاشوا مؤمنين آمنين مسلمين مسالمين يجد الغريب عندهم الأمن والسلام. أليس من يعتدى عليهم يكون مستحقاً لما جاء فى قوله تعالى ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾.
ونخلص مما سبق إلى أن أقباط مصر بالمفهوم القرآنى للإسلام والإيمان (الظاهرى) مؤمنون مسلمون، أى مأمونون مسالمون، والذى يقتل واحداً منهم يستحق اللعنة والغضب الإلهى والخلود فى جهنم مع عذاب عظيم، وتزداد جريمته حين يعتقد أنه بذلك يقوم بجهاد فى سبيل الله.. ويشاركه فى جريمته أولئك الذين يغررون به أو يتقاعسون عن تطهير الدعوة الإسلامية من الأحاديث المفتراه والفتاوى السامة التى تجعل دين الإسلام والسلام متهماً بالإرهاب والتطرف..
ثانياً: الاضطهاد للأقباط فى عصر الخلفاء الراشدين
الأعراب الذين هم أشد الناس كفراً ونفاقاً ما لبث أن أعلنوا الردة بعد وفاة الرسول عليه السلام وهاجم بعضهم المدينة، فقامت حروب الردة فى خلافة أبى بكر، وبعد إخمادها رأى أبو بكر أن يشغل الأعراب وأن يمتص طاقتهم الحربية فى الفتوحات خارج الجزيرة العربية، فأصبح المرتدون السابقون عماد الجيش الفاتح الذى قضى على الإمبراطورية الفارسية والذى قهر الإمبراطورية البيزنطية، وأصبحت مستعمرات الدولتين العظميين ضمن ولايات الإمبراطورية العربية الناهضة، وكانت مصر ضمن هذه الولايات، وقد دخل شعبها تحت ولاية العرب المسلمين أو فى ذمتهم ورعايتهم بتعبيرات القرون الوسطى.
وقد قاسى الأقباط من ظلم الدولة الأموية المشهورة بقسوتها وتعصبها للعرب ضد الشعوب الأخرى مثل موالى العراق وإيران وأقباط مصر. إلا أن الحقيقة المؤسفة التى يعزف عن بحثها الكثيرون ان اضطهاد الأقباط بدأ فى عصر الخلفاء الراشدين وأثناء ولاية عمرو بن العاص فاتح مصر والذى يشهد الكثيرون من الأقباط ومؤرخيهم بإنصافه وحبه للأقباط..
ويمكن أن نركز ملامح اضطهاد الأقباط فى تلك الفترة فى جانبين أساسيين هما فرض الجزية ومصطلح أهل الذمة..
فرض الجزية:
الآية القرآنية الوحيدة التى تحدثت عن الجزية تقول ﴿قَاتِلُواْ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلاَ يُحَرّمُونَ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتّىَ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التوبة 29).
وتشريعات القرآن لها درجات ثلاث، أوامر تشريعية تحكمها قواعد تشريعية تهدف إلى مقاصد تشريعية، فالأوامر التشريعية مثل (قاتلوا) أو (انفروا) تحكمها القواعد التشريعية التى تجعل أوامر القتال لا تكون إلا فى إطار الدفاع عن النفس ورد الاعتداء بمثله دون زيادة أو نقصان (البقرة 190، 194). ثم يكون الهدف النهائى للقتال فى الإسلام أو فى سبيل الله هو منع الفتنة فى الدين، والفتنة هى الاضطهاد الدينى أو إكراه الناس على تغيير عقائدهم، فالمقصد التشريعى من القتال فى سبيل الله أن تختفى الفتنة والإكراه وأن يكون الناس أحراراً فى اعتناق ما يريدون حسبما شاء الله تعالى حين خلفهم أحراراً، وجعل مرجعهم إليهم يوم القيامة ليحاسبهم على ما اختاروه بمحض إرادتهم وذلك معنى قوله تعالى فى الأمر بقتال المشركين العرب الذين يضطهدون مخالفيهم فى الدين ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ﴾ (البقرة 193). واقرأ أيضاً آية 39 فى سورة الأنفال.
إذن لابد أن نفهم تشريعات القرآن الكريم فى الأوامر والقواعد والمقاصد حتى نعرف أن المقصودين بالقتال فى آية ﴿قَاتِلُواْ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ﴾ هم أولئك المعتدون من أهل الكتاب و لا يمكن أن تمتد الى غيرهم من المسالمين الذين لم يعتدوا على دولة المسلمين ، لأنه لا مجال فى الإسلام لاعتداء على أحد وإنما لرد الاعتداء بمثله فقط..
والآية تتحدث عن دولة أو مجتمع عدوانى انعدم فيه الإيمان بمعنى الأمن وبمعنى الاعتقاد السليم، وهو يتجاوز حدوده إلى حدود المسلمين ليعتدى عليهم وحينئذ فلابد من القتال لرد الاعتداء بمثله، وبعد تحقيق النصر وطرده إلى دياره يجب إرغامه على دفع الجزية- وليس على دخول الإسلام- وهى غرامة حربية كالشأن فى عقوبة المعتدى، والذى يأخذ به المجتمع البشرى حتى الآن فى المعاهدات التى يعقدها المنتصر مع المهزوم خصوصاً إذا كان معتدياً مثل ما حدث مع ألمانيا بعد الحربين العالميتين وما حدث مع العراق بعد غزو الكويت.
وإذا طبقنا الآية الكريمة التى تتحدث عن فرض الجزية وجدناها تنطبق على الروم البيزنطيين، وقد ذكر التاريخ أنهم الذين بدءوا الاعتداء على الدولة الإسلامية فى عصر النبى (صلى الله عليه وسلام) وحرضوا ضدها القبائل العربية النصرانية مما أدى إلى غزوات مؤتة وتبوك...
والتاريخ يذكر أن البيزنطيين كانوا يدفعون الجزية للمسلمين بعد الهزيمة، وأنه كان يحدث العكس فيدفع المسلمون الجزية للبيزنطيين كما حدث مع معاوية حين دفع لهم جزية قدرها مائة ألف دينار سنوياً أثناء انشغاله بالحرب مع (على).. وكان الروم البيزنطيين يدفعون الجزية للمسلمين فى العصر العباسى الأول، فأصبح المسلمون فى العصر العباسى الثانى يدفعون الجزية للبيزنطيين.. وهكذا تبادل الفريقان المواقع كل حسب قوته.
وكان من المنتظر أن يدفع البيزنطيون الجزية لعمرو بن العاص بعد أن هزمهم وأجلاهم عن مصر.. ولكن حدث العكس. إذ دفعها المصريون الذين تحالفوا مع عمرو ضد البيزنطيين. ولذلك قصة نعرفها من المقريزى فى كتابه المشهور "الخطط".
فالمقريزى يشير بين السطور إلى مساعدة الأقباط المصريين للعرب الفاتحين ضد الروم. ومنذ أن دخل عمرو بجيشه إلى سيناء متوجهاً إلى مصر أرسل أسقف الأقباط فى الإسكندرية أمراً إلى الأقباط بأن يعاونوا العرب ويتنبأ بزوال دولة الروم، واستجاب الأقباط لتلك الأوامر. وحين نزل عمرو على أسوار مدينة الفرما كان الأقباط أعواناً له يمدونه بالمعلومات والمؤن. والأقباط هم الذين ساعدوا عمرو فى فتح الإسكندرية بعد حصارها الشديد. وظلوا شهرين يمدون العرب بالأطعمة والمؤن ويجمعون لهم الأخبار، والأقباط هم الذين استمالوا القائم على حراسة أبواب الإسكندرية- وكان قبطياً- ففتح أبوابها للعرب فاقتحموها، والمنتظر بعد هذا أن يحفظ عمرو الجميل للأقباط الذين ساعدوا جيشه الضئيل على فتح بلدهم كراهية منهم فى الروم البيزنطيين.
ولكن الذى حدث أن المقوقس- الوالى الرومى- هو الذى أقنع عمرو بأن يدفع الأقباط الجزية بدلاً من الروم المهزومين . وقد كان الأقباط يدفعون الجزية للروم حسب المعتاد فى العصور الوسطى ، فتعلم العرب المسلمون منهم هذا القانون الجائر وطبقوه على الأقباط الذين ساعدوهم على احتلال بلادهم !! فبعد حصار بابليون الذى استمر سبعة أشهر اقتحم العرب أبواب الحصن فاضطر المقوقس للتفاوض على أن يدفع الأقباط الجزية للعرب دينارين عن كل رجل. لأن الروم لن يقبلوا دفع الجزية ولن يقبل العرب إلا بالجزية أو الإسلام أو الحرب وهكذا نجا المقوقس من غرامة الجزية التى يرفض الروم دفعها، ودفعها الأقباط الذين ساعدوا عمرو فى الفتوح، بل أنه فرض عليهم إلى جانب الجزية القيام بضيافة العرب فى قراهم ثلاث أيام.
وبلغ عدد المصريين الذين دفعوا الجزية يومئذ ستة ملايين.. وشرهت نفس عمرو لهذه الملايين وبعد أن رضى بدفع المصرى دينارين طلب أكثر،والمقريزى يذكر أن والى (إخنا) سأل عمراً عن مقدار الجزية الواجبة على أهل مدينة (إخنا) فقال له عمرو يشير إلى ركن الكنيسة "لو أعطيتنى من الركن إلى السقف ما أخبرتك، إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم".
وكان ذلك سبباً فى خروج ذلك الرجل على الطاعة، فقد هرب إلى الروم وعاد بجيش بيزنطى استعاد الإسكندرية، وأعاد عمرو فتح الإسكندرية وتخليصها من الروم بصعوبة بالغة .
وعمرو بن العاص كان رائداً للدولة الأموية فى شراهتها فى جمع الجزية من الأقباط وغيرهم، وحتى من أسلم من الأقباط كانوا لا يعفونه من دفع الجزية، والاستثناء الوحيد من خلفاء بنى أمية كان الخليفة عمر بن عبد العزيز فى حكمه القصير ، فقد رفع الجزية عمن أسلم فكتب إليه والى مصر حيان بن شريح يخبره بتناقص الجزية بهذا القرار، فكتب إليه عمر ابن عبد العزيز يؤنبه ويقول له: ضع الجزية عمن أسلم قبح الله رأيك فإن الله إنما بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً..!!
وظلت الجزية نقطة سوداء فى تاريخ الولاة الأمويين والعباسيين يدفعها من بقى على دينه من المصريين إلى نهاية العصر المملوكى سنة 921/1517، وجاء الفتح العثمانى ففرض جزية على المصريين جميعاً مسلمين ومسيحيين، وظلت الخزانة المصرية تدفعها لتركيا بصورة عادية حتى تنبه لها عبد الناصر وألغاها..!!
ونعود إلى عمرو بن العاص وما كتبه المقريزى فى الخطط عن فتح مصر..
يقول أن عمراً أعلن لأهل مصر: أن من كتمنى كنزاً عنده فقدرت عليه قتلته!!
وقيل له أن قبطياً من الصعيد اسمه بطرس لديه كنز فرعونى فحبسه عمرو واستجوبه فأصر على الإنكار، وعلم عمرو بذكائه مكان الكنز فاستولى عليه وقتل المصرى وعلق رأسه على باب المسجد، فارتعب الأقباط ومن كان عنده كنز أسرع بتسليمه إلى عمرو..
ويذكر المقريزى أن عمراً اعتقل قبطياً آخر اتهمه بممالاة الروم واستجوبه وحصل منه على أكثر من خمسين أردباً من الذهب..!!
ومن مجموع هذه المصادرات تضخمت ثروة عمروالشخصية وحين حضرته الوفاة استحضر أمواله فكانت (140) أردباً من الذهب، وقال لولديه: من يأخذ هذا المال؟ فأبى ولداه أخذه وقالا له: حتى ترد إلى كل ذى حق حقه..
ومات عمرو واستولى الخليفة معاويةعلى كل تلك الأموال التى خلفها عمرو فى ميراثه وقال: نحن نأخذه بما فيه .. أى بما فيه من ظلم وسحت..!!
ومع ذلك فإن عمرو بن العاص هو أفضل من حكم مصر وأكثرهم رفقاً بالمصريين بالمقارنة بغيره.. والثابت أنه لم يكن مسرفاً فى سفك الدماء كما فعل غيره من الولاة كما أنه كان حسن السياسة فى جباية الخراج والجزية، فلم يرهق المصريين، وكان يجمع الجزية 12 مليون دينار، فأصبح الوالى بعده عبد الله بن أبى سرح يجمعها 14 مليون دينار.
وأدى تطرف الولاة الأمويين فى جمع الأموال من المصريين إلى اضطرار المصريين للقيام بثورات متعاقبة، فأخمد الأمويين ثوراتهم بالحديد والنار.. وتطرفوا فى اضطهادهم والعسف بهم.. وسيأتى تفصيل ذلك..
مصطلح أهل الذمة:
لم يأت لفظ الذمة فى القرآن إلا فى موضعين فى الحديث عن طبيعة مشركى العرب البدوية العدوانية وكيف أنهم لا يراعون عهداً ولا ميثاقاً ولا ذمة إذا انتصروا ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاّ وَلاَ ذِمّةً﴾، ﴿لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاّ وَلاَ ذِمّةً وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾ (التوبة 8،10).
وظهر مصطلح أهل الذمة بعد الفتوحات العربية ضمن مصطلح آخر هو "الموالى" ليضع توصيفاً للشعوب التى دخلت فى حوزة العرب المسلمين.. والمعنى واحد لأهل الذمة والموالى فى أنهم أتباع ورعية العرب الحاكمين، وبالتالى هم مواطنون من الدرجة الثانية أو أقل.. والدليل العملى على ذلك هو ما عاناه الموالى من أبناء العراق وإيران وما عاناه أهل الذمة من الأقباط فى العصر الأموى تحت وطأة الاضطهاد والاستعلاء..
وبينما دخل مصطلح "الموالى" إلى متحف التاريخ بعد أن تمتع أبناء الفرس والعراق بحقوقهم فى الدولة العباسية التى أسهموا فى تأسيسها، فإن مصطلح أهل الذمة بقى مستعملاً ووصمة عار على كل من تمسك بدينه من أبناء الشعوب غير العربية، وكان المسيحيون العرب بمنجاة من هذا المصطلح وآثاره الجانبية لأنهم عرب، أما المسيحيون فى الشام والعراق ومصر فقد حملوا ذلك الوصف على كاهلهم، وقاسوا تحته أوزار الاضطهاد العنصرى فى العصر الأموى، ثم الاضطهاد الدينى بعده..
وتم تقنين تلك النظرة الاستعلائية المخالفة للقرآن الكريم فى كتب الفقه فيما يخص التعامل مع أهل الملل الأخرى غير الإسلامية، وأحدثوا لها كياناً تشريعياً من أحاديث مفتراه نسبوها للنبى عليه السلام تبيح اضطهاد أهل الكتاب والاستعلاء عليهم..
وتناسى أولئك حديث القرآن مع أهل الكتاب وأمره للمسلمين بمجادلتهم بالحسنى وكيف أن رب العزة جل وعلا أجرى حواراً معهم فى القرآن الكريم وكيف قال للنبى الخاتم عليه السلام ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ﴾ (يونس 94). ومعناها واضح يغنى عن الشرح.. وكيف وصف القرآن النصارى بالذات بأنهم أقرب مودة للذين آمنوا لأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (المائدة 82). وكيف أمر القرآن الكريم بمعاملة المخالفين فى الدين بالقسط والبر طالما لم يعتدوا بالقتال ولم يطردوا المسلمين من ديارهم ولم يتحالفوا مع عدوهم المعتدى عليهم (الممتحنة 8، 9).
وكيف أمر القرآن الكريم بمعاملة أهل الكتاب على نفس المستوى مع المسلمين فى الطعام والمصاهرة، طالما يعيشون مع المسلمين فى أمن وأمان وسلم وسلام، (وقد سبق توضيح معنى الإيمان والإسلام) فقال تعالى ﴿الْيَوْمَ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَطَعَامُ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلّ لّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلّ لّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتّخِذِيَ أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (المائدة 5).
والمصاهرة المشتركة والحياة المشتركة على أساس التساوى تعنى علاقات الدم والقرابة والحياة الاجتماعية المشتركة، حيث يتنفس أفراد المجتمع التسامح والتساوى فى الحقوق والواجبات ويصبح كل إنسان حراً فى عقيدته كيف يشاء بعد تدقيق وتحقيق أو بدون تدقيق وتحقيق، وهذا شأنه، وحسابه عند ربه يوم القيامة، والمهم أن يكون مسالماً آمناً مأمون الجانب أو مسلماً مؤمناً فى تعامله مع الناس لا يعتدى على أحد، وقد سلم الناس من لسانه ويده..
ضاع ذلك كله بسبب مصطلح أهل الذمة الذى أوجد التفرقة والاضطهاد..
وفرض الجزية فى عصر الخلفاء الراشدين كان هو التربة التى نبت فيها مصطلح أهل الذمة وما نتج عنه من آثار.
ولو لم يرض عمر بن الخطاب بفرض الجزية عليهم لكانوا على قدم المساواة مع العرب، ولكن أن يفرض عمر ثم عثمان الجزية على رؤوس الأفراد من الأمم الأخرى فالمعنى أنهم عنصر أقل شأناً ومواطنون من الدرجة الثانية، وكانت تلك البداية لمصطلح أهل الذمة واضطهادهم..
ثم سار الأمويين على طريق التصعيد فى الاضطهاد للأقباط فى مصر وللموالى فى العراق.
ثالثاً: اضطهاد الأقباط فى العصر الأموى
الأمويين عارضوا الإسلام وحاربوه حرصاً على مصالحهم التجارية، ثم انضموا إليه وآزروه حرصاً أيضاً على مصالحهم التجارية حيث كانوا قادة قريش فى رحلتى الشتاء والصيف، وعن طريقها وثقوا علاقاتهم بالقبائل العربية النصرانية على طريق الشام التجارى ثم بعد أن دخلوا الإسلام أثمر تعاونهم مع تلك القبائل فى إخضاع الشام فى الفتوحات الإسلامية، ثم ساعدتهم تلك القبائل على توطيد دولتهم الأموية.
لذلك لم يضطهد الأمويون نصارى العرب بل عاملوهم على قاعدة المساواة ، فالوالى فى العراق خالد القسرى أقام كنيسة لأمه النصرانية، والأخطل الشاعر العربى النصرانى كان نديم الخلفاء الأمويين يدخل عليهم وفى عنقه الصليب، والخليفة عمر بن عبد العزيز دفنوه فى دير سمعان بجوار دمشق..
إلا أن الأمويين- خلا عمر بن عبد العزيز- اشتهروا بالتعصب العنصرى ضد الأجناس غير العربية، فاضطهدوا الفرس والعراقيين، وألجأوهم للثورة المتكررة وتأييد كل ثائر شيعى أو علوى على الأمويين.. كما اضطهدوا المصريين لمجرد أنهم مصريون ومواطنون رعايا من الدرجة الثانية أو الثالثة، واعتبروهم بقرة حلوباً تدر لهم الخير، ولا بأس بأن يمتصوا لبنها ودمها إذا أمكن..
وأدى العسف فى جباية الجزية والخراج إلى ثورة المصريين، وهم أقدر شعوب الدنيا على احتمال الصبر، ولكن العسف الأموى كان فوق طاقة المصريون أنفسهم.!!
ونرجع للمقريزى فى الخطط..
يذكر أن الأقباط صاروا عوناً لعمرو على الروم حتى انتصر عليهم، وإن عمراً كتب أماناً لبطرك القبط سنة عشرين من الهجرة فأتى إلى عمرو وجلس على كرسى البطريركية بعد غياب ثلاثة عشر سنة. واحتمل المصريون جشع عمرو بسبب موقفه من البطرك بنيامين الذى كان له النفوذ الأكبر على قلوب المصريين. وتبدل الحال بعد تحكم الأمويين من أولاد مروان بن الحكم، ووصل الاضطهاد إلى البطاركة الأقباط والرهبان أنفسهم..
ففى ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر صودر البطرك مرتين، وأمر عبد العزيز- وهو بالمناسبة والد الخليفة عمر بن عبد العزيز- بإحصاء الرهبان وأخذ منهم الجزية، وهى أول جزية أخذت من الرهبان.
وتولى مصر عبد الله ابن الخليفة عبد الملك بن مروان فاشتد على النصارى، واقتدى به الوالى التالى قرة بن شريك فأنزل بالنصارى شدائد لم يبتلوا بمثلها من قبل على حد قول المقريزى. وأقام الأمويون مذبحة للأقباط سنة 107 هجرية حين ثاروا فى شرق الدلتا بسبب جشع الوالى عبد الله بن الحبحاب..
وفى خلافة يزيد بن عبد الملك تطرف الوالى أسامة بن زيد التنوخى فى اضطهاد الأقباط، فصادر أموالهم ووسم أيدى الرهبان بحلقة من حديد، وكل من وجده منهم بغير وسم قطع يده، وفرض غرامات على الأقباط، وصادر الأموال من الأديرة، ومن وجده من الرهبان فى تلك الأديرة بلا وسم ضرب عنقه أو عذبه، وهدم الكنائس وكسر الصلبان.
وفى خلافة هشام بن عبد الملك تشدد الوالى حنطلة بن صفوان فى زيادة الخراج، وأحصى الأقباط وجعل على كل نصرانى وشماً فيه صورة أسد ومن وجده بلا وشم على يده قطع يده.
وثار العرب المسلمون سنة 117 بسبب قيام الأقباط ببناء كنيسة يوحنا، وكان ذلك فى ولاية الوليد بن رفاعة.
وأدت زيادة المظالم إلى قيام الأقباط بثورة عارمة فى الصعيد سنة 121 هجرية، وانتقلت الثورة إلى سمنود سنة 132 وإلى رشيد فى نفس العام وتولى الأمويون إخمادها بالعنف الشديد، وفى هذا العام انهزم مروان بن محمد آخر خليفة أموى أمام العباسيين فهرب إلى مصر فوجدها ثائرة على مظالم الأمويين، ومع ظروفه السيئة إلا أن الخليفة الأموى الهارب استنفذ ما بقى من قوته وعدته فى القضاء على ثورات الأقباط حتى قضى عليها، ثم واصل هروبه فى مصر أمام الجيش العباسى إلى أن لقى حتفه فى أبو صير، وكان يحتجز عنده البطرك القبطى ومجموعة من كبار الرهبان وزعماء الأقباط فأفرج عنهم الجيش العباسى .
ودخلت مصر فى العصر العباسى.. أو فى الاضطهاد العباسى..
رابعاً: اضطهاد الأقباط بعد العصر الأموى
انتهى العصر الأموى سنة 132 هجرية.
وتوالت على مصر دولة الخلافة العباسية والدول المستقلة فى إطار الخلافة العباسية كالطولونية والأخشيدية، ثم الدولة الفاطمية وبعدها الدولة الأيوبية التى انتهت بسيطرة المماليك، وبعدهم سنة 921 كان الفتح العثمانى والخلافة العثمانية التى سيطرت على مصر فعليا أواسميا حتى سقوطها .أى هى فترة تمتد إلى اثنى عشر قرناً من الزمان، وقد كان اضطهاد الأقباط فيها سمة بارزة تحتاج إلى مجلدات فى رصدها ولكننا نوضح الملامح الأساسية فى الموضوع على النحو التالى:
أولاً: من بداية الخلافة العباسية إلى سنة 235 هجرية فى خلافة المتوكل على الله العباسى:
وفى هذه الفترة واصل الأقباط ثوراتهم على ظلم الولاة العباسيين، وكان الاضطهاد فى أغلبه رسمياً من السلطة الحاكمة التى تريد اعتصار الضرائب بالقسوة، والعنف فلا يجد الأقباط طريقة إلا الثورة التى تنتهى بالهزيمة والمذابح.. ونعطى أمثلة سريعة:
• فى سنة 150 هجرية ثار الأقباط فى سخا وطردوا ولاة الضرائب فأرسل لهم العباسيون جيشاً يقوده يزيد بن حاتم، وهاجم الأقباط الجيش ليلاً وقتلوا بعض أفراده وهزموا بعض فصائله، إلا أن الإمدادات العباسية تلاحقت وحاصرت الأقباط وهزمتهم، وامتد الانتقام إلى حرق الكنائس. واضطر الأقباط إلى دفع غرامة قدرها خمسون ألف دينار للوالى العباسى سليمان بن على كى يكف عن حرق الكنائس إلا أنه أبى..
وتولى بعده الوالى موسى بن عيسى العباسى فاستمع إلى نصيحة الأئمة المستنيرين من الفقهاء المشهورين بمصر مثل الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة، وقد أفتوا له بأن بناء الكنائس من عمارة البلد، فأذن الوالى بإعادة بناء الكنائس، ولكن ظلت المظالم على حالها..
• فى سنة 156 هجرية عاد الأقباط للثورة فى بلهيت، فأرسل لهم الوالى موسى بن عيسى جيشاً فهزمهم وحكم بقتل الرجال وسبى النساء والذرية . وجاء المأمون لزيارة مصر وأنب الولاة واعتبرهم سبب المظالم والثورات، وأمر ببعض الإصلاحات..
• وكانت ثورة 216 هجرية هى آخر ثورات الأقباط الحربية، وبعدها اتبعوا طريق المقاومة السرية، ونحن ننقل معاناة الأقباط عن المقريزى وهو الذى لا يخفى تعصبه ضد النصارى، يقول فى التعليق على ثورة 216 هجرية وآثارها "ومن حينئذ ذلت القبط فى جميع أرض مصر ولم يقدر أحد منهم على الخروج على السلطان، وغلبهم المسلمون على عامة القرى، فرجعوا من المحاربة إلى المكيدة واستعمال المكر والحيلة ومكايدة المسلمين..
ثانياً: وشهد عصر الخليفة المتوكل ظاهرة جديدة هى انتصار الفكر الحنبلى المتشدد وهزيمة الفكر المعتزلى العقلانى، وقد استمال السلفيون من أصحاب ابن حنبل ورواة الأحاديث الخليفة المتوكل إليهم، وبتأثيرهم دخلت الدولة العباسية فى اضطهاد مخالفيها فى المذهب والدين، فحوكم شيوخ التصوف وطورد الشيعة وهدم ضريح الحسين فى كربلاء، وصدرت قرارات لاضطهاد اليهود والنصارى، وانتشرت الروايات والفتاوى التى تضع الإطار التشريعى لتلك الممارسات، ومنها الحديث المشهور "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده..." ذلك الحديث الزائف الذى أثبتنا كذبه فى مقالة بجريدة الأحرار والذى يعتبر الدستور العملى للتطرف حتى الآن..
ويهنا أن هذه الفكرة كان لها ابلغ الأثر فى انتقال الاضطهاد للأقباط من دائرة الحكم والسياسة إلى الشارع والعوام، وساعدت الروايات والفتاوى وجهود الفقهاء والقصاصين وأهل الحديث فى شخن الأفراد العاديين بالكراهية ضد مخالفيهم فى المذهب سواء كانوا صوفية أو شيعة أو كانوا مخالفين لهم فى الدين أى من اليهود أو من النصارى.. وبالتالى تحول الاضطهاد الرسمى العنصرى للأقباط إلى اضطهاد دينى يشارك فيه المصرى المسلم ضد أخيه المصرى القبطى.. وبمرور الزمن تعاظم تأثير تلك الروايات والفتاوى وأصبحت ركائز دينية تفرق بين أبناء الشعب الواحد وتباعد بينهم وبين الدين الحق الذى نزل على خاتم الأنبياء عليهم السلام. والمؤسف أن المسلم اليوم - إذا أراد أن يتدين - يجد أمامه كتابات اولئك الأئمة فيما يعرف الآن بكتب الفقه والسنن وقد احتوت على تلك الروايات والفتاوى فيأخذها عنهم كأنها الدين الحق ويصدق نسبتها الكاذبة للنبى محمد ، مع انها – أى تلك الأحاديث – قد كتبوها ونسبوها للنبى بعد موته بأكثر من قرنين من الزمان عبر اسناد شفهى مضحك. الا أن المسلم اليوم يصدق هذه الأحاديث المفتراة ويعتقد أن النبى محمدا عليه السلام قد قالها فعلا ، وعلى أساسها يعتقد أن كراهية المخالفين فى المذهب والاعتقاد من معالم الدين حتى لو كانوا من المسالمين الصابرين. والدليل على ذلك ما نراه فى عصرنا الراهن من اضطهاد للأقباط مع علو لنفوذ التيار الحنبلى السلفى والذى استعادته الدولة السعودية عبر مذهبها الوهابى وأصبح من علاماته التطرف والتعصب والانغلاق واضطهاد المخالفين والحكم بتكفيرهم وما يترتب على التكفير من سفك للدماء واستحلال للأموال..
أعاد ذلك لعصرنا الراهن ما ساد فى عصر الخليفة المتوكل العباسى من سطوة الفقهاء المتزمتين الذين سموا أنفسهم بأهل السنة واستمرت سطوتهم فى عصر من جاء بعده من الخلفاء حتى أصبحت سياسة متبعة . ثم اعاد التطرف الوهابى والنفوذ السعودى هذا التراث حيا فى عصرنا.وليس غريباً بعدها أن نعرف أن أئمة الحديث المشهورين عاشوا تلك الفترة من ابن حنبل إلى البخارى ومسلم والحاكم وغيرهم ،وقد أصبحوا الآن فى عصرنا آلهة منزهة عن الخطأ ومن يناقشهم - معتبرا اياهم بشرا يخطئون ويصيبون – يكون مصيره الاتهام بالكفروإنكار السنة.!!
ونعود إلى التطور الجديد فى اضطهاد الأقباط فى هذه الفترة.
فى سنة 235 هجرية أصدر الخليفة المتوكل مرسوماً يهدف إلى تحقير (أهل الذمة)فى كل الامبراطورية العباسية، وذلك بإلزامهم بارتداء زى معين ومظهر معين، مع هدم الكنائس الجديدة وتحصيل الضرائب والعشور من منازلهم وأن يجعل على أبواب بيوتهم صوراً للشياطين، ونهى المرسوم عن توظيفهم وتعليمهم عند المسلمين، وتسوية قبورهم بالأرض وألا يحملوا الصليب فى أعيادهم وألا يشعلوا المصابيح فى احتفالاتهم وألا يركبوا الخيول.. وقد طبق الولاة ذلك على أقباط مصر وأصبحت سنة متبعة.
ومفهوم تلك القرارات أن يشارك الناس فى إلزام الأقباط بها، ومن هنا بدأ انغماس العوام فى اضطهاد الأقباط.. وتعلموا أن ذلك يعنى إظهار الإخلاص للإسلام، وانتقل ذلك الفهم الخاطىء لبعض الولاة المتدينين مثل أحمد بن طولون الذى استقل بمصر ذاتياً فى إطار الخلافة العباسية، وكان معروفاً بتدينه وجرأته على سفك الدماء لصالح سلطانه، ولم يكن الأقباط يشكلون خطراً على نفوذه، بل كان يستعين بهم فى دواوينه وأعماله ومع ذلك فقد قام بعمليات اضطهاد ضد الأقباط كأفراد ومنشآت دينية.. ولم تكن له فيها دوافع سياسية، مما يرجح أن دوافعه كانت دينية نتيجة تأثره بالفكر السلفى السنى السائد، وقد كان معروفاً بإخلاصه لذلك الفكر.
والمقريزى يذكر أن أحمد بن طولون ألزم البطرك ميخائيل بدفع غرامة قدرها عشرون ألف دينار واضطره لبيع أوقاف الكنيسة، وفرض ابن طولون ضرائب جديدة على الأقباط..
وحدث سنة 300 هجرية إحراق كنيسة القيامة فى الإسكندرية..
وبعد انتهاء الدولة الطولونية اشتد الوالى ابن الجراح على الأقباط وألزم الرهبان بدفع الجزية فاستغاثوا بالخليفة العباسى المقتدر فأمر برفع الجزية عنهم اكتفاء بما دفعه عامة الأقباط.
وأقام محمد بن طغج دولته الأخشيدية بمصر فأرسل فرقة من جيشه إلى مدينة تنيس على ساحل المتوسط فى سيناء فصادر ما فى الكنيسة الملكية بها.
وقامت الدولة الفاطمية بخلافة شيعية فى مصر تناوئ الخلافة السنية فى بغداد . وفى بداية الفاطميين فى مصر كانوا متسامحين مع الأقباط واليهود، خصوصاً الخليفة المعز لدين الله وابنه الخليفة العزيز بالله إلا أن الخليفة الحاكم ابن الخليفة العزيز بالله الفاطمى كان مشكلة مزمنة لكل المصريين وخصوصاً الأقباط بسبب قراراته الغريبة المتناقضة وجرأته على سفك الدماء..
ففى سنة 393 هجرية أمر الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمى باعتقال البطرك زخريس لمدة ثلاثة شهور. وكان التسامح مع الأقباط فى عهد المعز والعزيز قد مكن لكثير منهم العمل فى الدواوين والحصول على كثير من النفوذ والأموال، وبالتالى تعاظمت الشكاوى منهم من المنافسين والعوام بعد أن تم شحن القلوب بالتعصب الدينى . وأثمرت السعاية بهم فى إغضاب الحاكم بأمر الله - وكان لا يملك نفسه إذا غضب - لذلك أمر بقتل عيسى بن نسطورس وفهد بن إبراهيم وهما من كبار النصارى فى الدواوين . ثم أعاد الخليفة الحاكم العمل بمرسوم الخليفة المتوكل العباسى فيما يخص ارتداء النصارى أزياء معينة للتحقير والتشهير ومنعهم من الاحتفال بأعيادهم، وصادر أوقاف الكنائس وأحرق الصلبان ومنع الأقباط من شراء العبيد والجوارى، وهدم الكنائس فى المقس وخارج القاهرة وأباح للعوام نهبها فساهم فى زيادة التعصب بين أبناء الوطن الواحد والشعب الواحد.
وتطرف الحاكم بأمر الله الفاطمى فى تحقير الأقباط فألزمهم بتعليق صلبان خشبية ثقيلة (5 أرطال) فى أعناقهم ومنعهم ركوب الخيل، ومنع المسلمين من السماح لهم بالركوب على الحمير بالأجرة أو الركوب فى المراكب بأجرة..
ثم تطورت الحالة الجنونية بالخليفة الحاكم الفاطمى فأخذ فى هدم الكنائس كلها وأباح للناس ما فيها نهباً وإقطاعاً، فنهب العوام كل ما فى الكنائس واقتطعوا أرضها واقتسموها وبنوا مساجد مكانها وأقيمت الصلاة الإسلامية فى الكنائس المشهورة التى بقيت على حالها مثل كنيسة شنودة والكنيسة المعلقة.
وانتقلت الحمى للعوام فتكاثروا بالشكاوى على ديوان الخليفة يطالبون بمستحقات وهمية لهم على الكنائس وأمتعتها، وكانت السلطات الفاطمية توافقهم، فامتلأت الأسواق بالمنهوبات من أمتعة الكنائس والنصارى مثل أوانى الذهب والفضة والأيقونات والثياب الفاخرة وغير ذلك.
وانتقل الاضطهاد من القاهرة إلى الأقاليم فكتب الخليفة الحاكم إلى ولاته بتمكين المسلمين من هدم الكنائس والأديرة فعم الهدم فيها منذ سنة 403 هجرية واستمر الهدم حتى وصل طبقاً لإحصاء المقريزى سنة 405 هجرية إلى أكثر من ثلاثين ألف منشأة دينية بين بيعة لليهود ودير وكنيسة للنصارى فى مصر والشام وتم نهب كل مقتنياتها وأوقافها.
ثم اشتدت الحالة العصبية بالخليفة فأصدر قراراً بنفى الأقباط وإخراجهم من مصر إلى بلاد الروم ومعهم اليهود، فاجتمع أعيانهم تحت قصر الخليفة يبكون ويصرخون حتى رحمهم الخليفة ورجع عن قرار النفى .!! واضطر كثيرون للدخول فى الإسلام.. وكان ذلك أفظع تجربة للاضطهاد الطائفى فى تاريخ مصر الوسيط..
وبعدها برزت بعض حركات الاضطهاد فى الدولة الأيوبية وفى بداية الدولة المملوكية.. إلا أن العصر المملوكى (الذى امتدت ملامحه الاجتماعية بعد سقوط الدولة المملوكية لتشكل ملامح العصر العثمانى) شهد ملامح خاصة فى التعامل مع الأقباط..
ثالثاً: فالدولة المملوكية
لم تر بأساً فى الاستعانة بالأقباط فى أعمالها الإدارية والمالية ، وفى نفس الوقت أوسعت للشيوخ نفوذاً فى إدارتها المدنية سواء ما كان خاصاً بالوظائف الديوانية كالوزارة أو كان خاصاً بالوظائف الدينية كالقضاء والحسبة ومشيخة الخوانق والمدارس والجوامع..
وفى هذا العصر- المملوكى- تسيد التصوف الحياة الدينية والعقلية ومن شأن التصوف السكون والتسامح والصبر على المكاره، أى كان منتظراً أن يعيش الأقباط أزهى عصور الوحدة الوطنية والتسامح فى العصر المملوكى .
إلا أن العكس هو الذى حدث.
ويرجع السبب إلى عامل أساسى نتجت عنه آثار جانبية زادت فى تأكيده وسيطرته . وقد أشرنا من قبل إلى خطورة ذلك العامل الأساسى وهو إدخال كراهية "أهل الذمة" فى الروايات والفتاوى الدينية التى أصبحت بالدراسة والتلقين والممارسة من أبرز طقوس التدين فى القرون الوسطى وهى عصر التعصب الدينى والحروب الصليبية والتطرف الشكلى فى التمسك بمظاهر التدين دون فهم حقيقى للدين.. وذلك ما ساد العالم وقتها، حيث تم تقسيم العالم إلى قسمين: موطن الكفار وموطن المؤمنين، وكل معسكر يتهم الآخر بالكفر وينعت نفسه بصحيح الإيمان. ثم لا ننسى الحروب الصليبية وأثرها فى تأزيم العلاقة بين المسلمين والنصارى على مستوى العوام والفقهاء .
جاء العصر المملوكى وقد تشبع المسلمون- من علماء وعوام- بأفكار التعصب التى نشرها الحنابلة والسلفيون منذ خلافة المتوكل وأصبحت كما يقال "من المعلوم من الدين بالضرورة". صحيح أن الحنابلة اضطهدوا الصوفية فى عصر المتوكل ومنذ القرن الثالث الهجرى حيث كان التصوف فى بدايته، وصحيح أن الصوفية منذ القرن السابع الهجرى ردوا التحية بأحسن منها فبدءوا فى اضطهاد ابن تيمية وفقهاء الحنابلة فى القرن الثامن الهجرى.. ولكن الصراع السياسى بين الحنابلة والصوفية فى العصر المملوكى وانتصار الصوفية - المشهورين بتسامحهم- على الفقهاء المتزمتين من تيار ابن تيمية لم ينعكس تسامحا سائدا على صعيد العلاقة بالأقباط ، بل ظل اضطهاد الفقهاء والصوفية للأقباط موجودا فى فترات مختلفةً لأن بعض الصوفية اتفق مع الفقهاء الحنابلة فى اعتبارالسنن المكتوبة فى العصر العباسى الثانى تراثاً دينياً يجب التمسك به . أى يتصارعون فيما بينهم ولكن يجتمعون على كراهية الأقباط.
وهذا التشبع بأفكار التعصب وممارسته ساعد على تسيده عوامل أخرى منها أن التصوف نفسه فى العصر المملوكى تحول من الفكر النظرى الملىء بالتسامح الذى كان يردده الحلاج وابن عربى وابن الفارض- وأحياناً أبو حامد الغزالى- إلى طرق صوفية عملية تسعى للسيطرة على الشارع المصرى وتجتذب لها الأعوان والمريدين وتسترزق بالتجارة بالدين فى الموالد الصوفية وحول الأضرحة.. ومن هنا لم يعد لأولئك الشيوخ الجدد متسع للتنظير أو مناقشة الأفكار السلفية التعصبية لخصومهم الحنابلة، بل أن التصوف فى تأثيره الشديد على الحياة العقلية لغير الصوفية قد هبط بها إلى حضيض الجمود وإغلاق باب الاجتهاد وتعقيم الحياة العقلية النقدية، مما أدى إلى ترسيخ المتوارث من الفكر السلفى وتحصينه ضد النقد والنقاش بل وتقديس أئمة الحديث والفقه وأسفارهم ومؤلفاتهم..
ومن ناحية أخرى فإن أشياخ التصوف فى سعيهم نحو السيطرة على المريدين وقعوا فى التنافس، وامتدت ساحات التنافس لتشمل صراعاً داخلياً بين أشياخ الطريق الصوفى الواحد، وبين أشياخ الطرق الصوفية ذات الأصل الواحد، والطرق الصوفية المختلفة، ثم بين الصوفية ومشاهير الفقهاء أصحاب الصيت والأتباع، ثم امتدت المنافسة لتشمل صراعاً بين الصوفية والرهبان وأصحاب النفوذ الدينى بين الأقباط مع غيرة أصحاب الموالد الصوفية من احتفال أو مولد دينى للأقباط.. وذلك التنافس أدى إلى تعصب فاضطهاد فحوادث مؤسفة.
وقريب من ذلك ما كان يجرى من تنافس سياسى على النفوذ إذ كان الحسد يلاحق بعض كبار الموظفين الأقباط فيلجأ بعض الشيوخ إلى إثارة الجماهير والفقهاء ضدهم وتثور حركات التعصب وتلجأ الدولة لترضية الشيوخ بالسماح باضطهاد الأقباط..
وبعض الأقباط كان يعلن إسلامه لينجو من دائرة الاضطهاد ويدعم مركزه الوظيفى فى الدولة المملوكية التى تقوم إدارتها على الظلم والعسف.. ويستخدم ذلك الذى أسلم نفوذه الجديد فى الانتقام ممن ساموه الذل والهوان وهو قبطى.. وهكذا كانت تدور طاحونة التعصب والاضطهاد فى العصر المملوكى فوق رؤوس الجميع.. وكم أحوجنا لدراسة التاريخ والاستفادة به..
ونعطى أمثلة تاريخية للتحليل السابق نراعى ترتيبها حسب السنين..
1- مأساة الراهب بولس الحبيس سنة 666 هجرية:
وقصته مع الظاهر بيبرس تشبه قصة عمرو بن العاص مع القبطى بطرس صاحب الكنز الذى قتله عمرو بعد أن استولى على كنزه بالحيلة..
كان الراهب بولس كاتباً نصرانياً ثم ترهب، وقد عثر على كنز فرعونى فأخفاه وأخذ يتصدق منه على فقراء المسلمين والأقباط وانتشر خبره فاعتقله السلطان الظاهر بيبرس وطلب منه ذلك الكنز فرفض وقال للسلطان أنه يساعد بذلك الكنز الفقراء والمحتاجين ومعظمهم ممن يصادر السلطان أموالهم أى أن الأموال تصل للسلطان فى نهاية الأمر، وكأن الراهب قد أعطى ضوءاً أخضر للسلطان الظاهر بيبرس فى مصادرة الأقباط بالذات، إذ تكاثر ضحايا السلطان من الذين أوقع بهم المصادرات وفرض عليهم الغرامات وقام ذلك الراهب بدفع الغرامات عنهم وإعانتهم، وانطلق الراهب بولس يسير فى المدن والقرى يعين المحتاجين ويطلق بأمواله سراح المعتقلين والمحبوسين بسبب عجزهم عن دفع الغرامات والإتاوات ويتصدق على المحرومين من النصارى والمسلمين وغيرهم من النصابين محترفى الفقر، ومن النوادر التى تحكى أن بعضهم كان يقوم أمامه بتمثيلية، يقوم اثنان بجر رجل وهو يستغيث وهما يضربانه يمثلان دور رجال الشرطة فيستغيث المضروب بالراهب يقول له "يا أبونا أقضى ما علىّ من الديون، فيسأله الراهب عما عليه من الديون، ويكتب له ورقة بالمبلغ الذى يدعيه، فيأخذونه ويصرفونه من الصيرفى كما هو..
ووصلت للسلطان ستمائة ألف دينار عن طريق ذلك الراهب فيما دفعه عن المحبوسين والمصادرين، ولم يكن ذلك الراهب يأكل من ذلك المال، بل كان طعامه ونفقاته من صدقات النصارى، ثم حدث حريق غامض فى حى الباطنية فى سنة 663 وانتشر فى أحياء أخرى بالقاهرة واتخذها السلطان بيبرس فرصة ليصادر كل أموال الراهب فاتهم اليهود والنصارى بإشعال ذلك الحريق، وأصدر أمراً بإحراق كل اليهود والأقباط، ولكى يتقن هذه التمثيلية فقد جمع كبار اليهود والنصارى تحت القلعة وأحضر الحطب والوقود، وكان عددهم ألوفاً وارتفعت استغاثاتهم بالسلطان، فعفا عنهم السلطان نظير غرامة قدرها خمسمائة ألف دينار.. وكما توقع السلطان بادر الراهب بولس بدفعها على أخرها. فاكتسب شهرة فى كل أنحاء مصر، وصارت تتبعه مظاهرات أينما سار تتبرك به وتطلب منه المساعدات والأموال..
وتكاثرت تلك المظاهرات فى مدينة الإسكندرية وأثارت غيظ العلماء والشيوخ فأرسلوا فتاويهم للسلطان تحتم قتل ذلك الراهب حتى لا يفتن المسلمين فى دينهم، ورآها السلطان فرصة شرعية ليتخلص من الراهب ويستولى على كنزه الخبيئ فاعتقله واستجوبه للمرة الثانية عن الكنز فرفض الراهب الاعتراف، فأمر السلطان بتعذيبه حتى يعترف.. واستمر الراهب تحت التعذيب إلى أن لفظ أنفساه الأخيرة ومات سنة 666 هجرية ومات معه سر الكنز .
2- الشيخ الصوفى خضر العدوى سنة 672 هجرية:
كان هذا الشيخ يتمتع باعتقاد السلطان الظاهر بيبرس.. ومشهوراً بانحلاله الخلقى وشذ1وذه الجنسى وتعصبه ضد النصارى فى الشام ومصر، وأفسح الظاهر بيبرس له المجال فهدم كثيراً من الكنائس فى الشام ومصر، ومن الكنائس التى هدمها بمصر كنيسة الروم بالإسكندرية التى يشاع أن فيها رأس النبى يحيى عليه السلام (يوحنا)، وقد تحولت على يد الشيخ خضر العدوى إلى مسجد وسماه (المدرسة الخضراء) وأنفق فى تعمير هذه المدرسة الأموال الكثيرة من بيت المال.
3- واقعة النصارى سنة 682 هجرية:
بسبب الحروب الصليبية كان النصارى مقهورين فى سلطنة الظاهر بيبرس والسلطان المنصور قلاوون وانتهى ذلك بتولى السلطان الأشرف خليل بن قلاوون الذى أنهى الوجود الصليبى فى الشام. الأشرف خليل بن قلاوون أتاح للأقباط النفوذ وعين منهم كبار الموظفين الأقباط الذين تولوا الكتابة فى الدواوين، فأتيح لهم التنفيس عما فى صدروهم من مشاعر الانتقام، فتسلطوا على أرباب الحوائج من المسلمين يذلونهم.. وأدى ذلك فى النهاية إلى ما يعرف بواقعة النصارى سنة 682 هجرية.
وبدأت الواقعة بالكاتب القبطى المعروف باسم "عين الغزال" وقد اتهم سمساراً مسلماً بتأخير ما عليه من أموال للأمير المملوكى الذى يعمل عنده الكاتب القبطى عين الغزال.
ورأى الناس فى الشارع السمسار المسلم يعتذر للكاتب القبطى ويقبل قدمه وهو راكب حصانه والكاتب لا يزداد إلا تجبراً وهو يصمم على اعتقال السمسار وأخذه إلى بيت الأمير المملوكى، وتدخل الناس فى الشوارع وتجمهروا يحاولون تخليص السمسار من الكاتب وهو يرفض، فما كان من الناس إلا أن تكاثروا على الكتاب وألقوه من على دابته وخلصوا السمسار من يده. فذهب الكاتب إلى الأمير وأحضر عدة من الجنود وشرعوا فى القبض على الناس.. وثارت العوام وصاروا فى مظاهرة غاضبة إلى القلعة يهتفون "الله أكبر" فخاف السلطان من ثورة العوام حين عرف بما حدث ، فأمر باعتقال الكاتب القبطى عين الغزال وأصدر مرسوماً بعزل الكتبة الأقباط إن لم يدخلوا فى الإسلام ومن رفض منهم الدخول فى الإسلام ضربت عنقه. فاختفى الأقباط من الشوارع.. ووقع النهب فى بيوتهم.. والسبى فى بعض نسائهم، وأصبح الشارع مشحوناً بالمزيد من التعطش للعنف وأصبح المماليك أسرى للشعور الشعبى المتعصب ، فأمر السلطان بحفر حفرة كبيرة فى سوق الخيل لإحراق الكتبة النصارى، وحضر السلطان والأمراء، وتشفع الأمير بيدرا فى الأقباط.. وفى النهاية ارتضى الكتبة الدخول فى الإسلام، وكتبوا إقراراً بذلك.
ويقول المقريزى يعلق على تلك الحادثة "فصار الذليل منهم بإظهار الإسلام عزيزاً، يبدى من إذلال المسلمين والتسلط عليهم بالظلم ما كان تمنعه نصرانيته من إظهاره .
أى بمجرد النطق بالشهادة- أو الشهادتين- أنقذ كل منهم حياته وأصبح من حقه الانتقام من خصومه بسيف السلطة المملوكية وفى حمايتها.. وتلك ضريبة التعصب الدينى حين يسود مجتمعاً وينشر الفرقة والكراهية بين أبنائه.
4- واقعة الوزير المغربى سنة 700 هجرية:
قدم ذلك الوزير المغربى للقاهرة فى طريقه للحج واحتفت به السلطات المملوكية، ونزل ذلك الوزير المغربى يتجول فى القاهرة فى سوق الخيل فرأى رجلاً راكباً فرسه فى ثياب فاخرة وجماعة يمشون فى ركابه وحوله أصحاب الحاجات يتضرعون إليه ويقبلون قدميه وركابه وهو يصيح بغلمانه أن يطردوهم وهم يزدادون له خضوعاً، فسأل الوزير المغربى عن ذلك الراكب صاحب السلطان فعرف أنه كاتب نصرانى، فغضب وصعد للسلطان فلم يجده ووجد كبار الأمراء فأخذ يعظهم ويبكى ويحذرهم من نقمة الله إذ تركوا أعوانهم من الكتبة الأقباط يذلون المسلمين، ونجح الوزير المغربى فى إثارة الأمراء وانتهى الأمر باستصدار قرارات استرجعت مراسيم الخليفة المتوكل العباسى فى إلزام الأقباط بزى معين ومنعهم من ركوب الخيل، وكالعادة تطور الأمر بالوزير المغربى فقام يدعو لهدم الكنائس فوقف ضده قاضى القضاة المصرى ابن دقيق العيد وأفتى بأنه لا يجوز أن يهدم من الكنائس إلا ما استجد بناؤه، ولكن اضطر الأقباط إلى غلق بعض كنائسهم خوفاً عليها من الهدم..
وانتقلت عدوى التخريب من الوزير المغربى إلى العوام فكثرت شكاويهم فى النصارى، وكالعادة استرضتهم السلطات المملوكية بالتضييق على الأقباط واليهود، ومنعهم من التوظف فى الدواوين.. ورآها العوام فرصة لفرض سيطرتهم على أغنياء الأقباط، فتتبعوهم بالضرب حتى اختفوا من الشوارع ولجأ بعضهم إلى إظهار الإسلام تكبراً من ارتداء الزى المفروض عليهم..
وأدى ذلك الاضطهاد إلى تدخل ملك برشلونة إذ أرسل هدية للسلطان المملوكى سنة 703 هجرية ويرجوه إرجاع الأقباط إلى وظائفهم وفتح كنائسهم.. فاستجاب له السلطان وفتح كنيسة فى حارة زويلة وأخرى بالبندقانيين..
5- حركة الشيخ البكرى سنة 714 هجرية:
والشيخ البكرى أحد الصوفية البارزين فى سلطنة الناصر محمد بن قلاوون، وأحد خصوم الشيخ ابن تيمية. وحدث أن عرف الشيخ البكرى أن النصارى استعاروا من قناديل جامع عمرو شيئاً فهجم الشيخ البكرى على الكنيسة ونكل بالنصارى فيها، ثم عاد إلى جامع عمرو وأهان الموظفين فيه، ووصل أمره للسلطان فعقد له مجلساً للتحقيق، فأخذت العزة الشيخ البكرى وأغلظ القول للسلطان وهو يتصور أن السلطان يخضع له ويتعظ، ولكن فوجئ بالسلطان يأمر بقطع لسانه عقاباً له على جرأته.. فانقلب الشيخ البكرى إلى حالة أخرى، وأخذ يستغيث بالأمراء يرجوهم التشفع له عند السلطان حتى لا يقطع لسانه، ورق له الأمراء فتشفعوا فيه عند السلطان.. فأمر السلطان بنفيه..
6- واقعة الإحراق العام للكنائس المصرية فى وقت واحد سنة 721 هجرية:
فى كتابنا "السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة" المأخوذ عن رسالة الدكتوراة حققنا هذه الحادثة المجهولة والغريبة فى التاريخ المصرى وأثبتنا أن المسئول عنه هى حركة "أحمد البدوى" السرية الشيعية المستترة بالتصوف، إذ أنه بعد فشل تلك الحركة السرية فى قلب نظام الحكم المملوكى - لاقامة دولة شيعية تعيد الحكم الفاطمى لمصر والمنطقة - قامت بتفجير عملية ارهابية سرية لإحراج الدولة المملوكية: وهى التدمير العام للكنائس المصرية من الإسكندرية لأسوان فى وقت واحد وبطريقة واحدة..
إذ أنه بعد صلاة الجمعة يوم التاسع من شهر ربيع الأول سنة 721 هجرية فوجئ المصلون فى كل المدن المصرية التى بها كنائس بمجذوب مجهول الشخصية يقف صائحاً مضطرباً داعياً لحرق الكنائس، وحين يخرج المسلمون من المسجد يفاجأون بتدمير الكنائس فى المدينة وحرقها وقد سويت بالأرض . وفى ضوء الاعتقاد فى بركات المجاذيب الذى تسيد العصر المملوكى يؤمن الناس بأنها إرادة إلهية وانكشفت أمام بصيرة ذلك المجذوب "المكشوف عنه الحجاب". وسرعان ما يدب الحماس إلى العوام ويشاركون فى الإجهاز على ما تبقى من بنيان للكنيسة..
ووصل إلى علم السلطان الناصر محمد بن قلاوون ما حدث ، جاءته الأنباء من ضواحى القاهرة بأن الكنائس فيها قد دمرت فى نفس الوقت وبنفس الكيفية.. وأن المجذوب المجهول قد صاح فى نفس الوقت وفى كل المساجد.. وفى اليوم التالى جاءت الأنباء من الإسكندرية والوجه البحرى والصعيد أن كل الكنائس- عدا الكنيسة المعلقة- قد أصابها الهدم والحريق فى نفس الوقت، أى فى ساعة الصفر. وبلغ عدد الكنائس ستين كنيسة.. وتعجب السلطان ووافق مقالة العلماء والقضاء على أنها إرادة الله، لأنه لا يستطيع بشر أن يفعل ذلك فى كل أنحاء مصر فى نفس الوقت، واقتنع السلطان برأى العلماء بألا يفعل شيئاً لأنها إرادة الله التى لا يقف فى وجهها إنسان.
إلا أن الأقباط لم يقتنعوا.. وصمموا على الانتقام..
فى الأيام التالية فوجئ سكان القاهرة باشتعال الحرائق فى المساجد فى نواح مختلفة، ولا يكادون يفرغون من إطفاء حريق حتى يفاجئهم حريق آخر، واستراح المسلمون إلى التفسير الغيبى القائل بأنها إرادة الله، لولا أنهم اكتشفوا فتيلة كبيرة ملوثة بالنفط قد ألقيت على بعض المساجد مع توالى الحرائق فى الجوامع والخوانق والمدارس.. فأشارت أصابع الاتهام للأقباط، وسرعان ما ضبطوا بعض الرهبان متلبسين واعترفوا فأحرقت السلطات أربعة منهم.. وانطلق العوام فى إيذاء الأقباط، واندلعت المظاهرات وكادت أن تتحول إلى مذابح، وأسرعت السلطات المملوكية بالسيطرة على الأمور وقبضت على بعض العوام ومثيرى الشغب وكان منهم بعض المتعممين والتجار، وأمرت السلطات بقطع بعضهم نصفين، أو ما يعرف بالتوسيط، وتدخل الكبار وتشفعوا فى كبار المتهمين وأفرج عنهم . إلا أن الحريق لم ينقطع، وضبط بعض النصارى متلبسين واعترفوا تحت التعذيب، وعندما علم العوام بما حدث حاصروا القلعة وواجهوا السلطان بصيحة رجل واحد تدعو لنصرة الدين فخشع لهم السلطان وسمح لهم بقتل كل من وجدوه من النصارى، ثم تعدل الأمر بقتل من يلبس العمامة البيضاء من النصارى ومن يركب دابة، وفرض عليهم ركوب الحمير بهيئة مقلوبة ولا يدخلون الحمامات إلا وفى رقابهم جرس ولا يرتدى أحدهم زى المسلمين، وألا يعملوا فى الوظائف، وعزل جميع الأقباط من الوظائف..
وكان ذلك أفظع اضطهاد واجهه الأقباط فى العصر المملوكى..
وكانت له آثاره الداخلية والخارجية..
فعلى الصعيد الداخلى احتدم العداء والحقد الطائفى بين المسلمين والأقباط فى السنوات التالية كما سنرى..
وعلى الصعيد الخارجى اشتد غضب ملك الحبشة الذى كان يعتبر نفسه مسئولاً عن حماية الأقباط المصريين فبعث باحتجاج شديد اللهجة إلى السلطان الناصر محمد ويهدد فيه باتخاذ إجراءات مماثلة ضد المسلمين عنده ويهدد بتحويل مجرى النيل، غير أن الناصر محمد لم يعبأ بهذا التهديد ولذلك بدأ سلطان الحبشة واسمه "عمد صيهون" الحرب ضد الإمارات الإسلامية المجاورة له، وتابع ابنه "سيف أرعد" أعماله ضد التجارة المصرية وممتلكات المسلمين المجاورة له..
وتمكن أحد ضحايا الاضطهاد لسنة 721 هجرية من الانتقام لقومه الأقباط من المسلمين.. وهو النشو الذى أظهر الإسلام لدى السلطان الناصر محمد وسماه السلطان عبد الوهاب شرف الدين، وأظهر للسلطان الورع والفقر والزهد فحاز على ثقته وتعاظم نفوذه حتى أصبح المسيطر على الدولة المملوكية كلها لمدة سبع سنين وسبعة أشهر حتى قتله السلطان بعد تعذيب شديد فى يوم الأربعاء ثانى ربيع الآخر سنة 740 هجرية.
وما فعله النشو بالمسلمين فى إطار السلطة المملوكية وتحت شعارها كان لا يمكن تفسيره إلا فى ضوء الانتقام لقومه بعد أن ضمن رضا السلطان الناصر محمد عنه.. وقد تنوعت مظالمه للمسلمين ما بين قتل ومصادرة ونفى وتقطيع أطراف وخصاء، وكانت مصادرته لوجوه الناس وأرباب المناصب والتجار والعوام لا تنقطع.. وكان يجتمع كل ليلة مع خواصه والمقربين منه يفكر فى طريقة جديدة للانتقام من المسلمين وفرض ضرائب جديدة عليهم أو الإيقاع بأصحاب المناصب أو سلب الأوقاف على المساجد وبيوت العبادة..
وبرغم تنوع أعدائه واختلافاتهم وتفرقهم وصراعاتهم إلا أنهم اتحدوا ضد النشو، وحاولوا الكيد له مراراً إلا أن ثقة السلطان فيه وقفت حائلاً يحميه . وفى عهده ضاع صوت الاضطهاد ضد الأقباط.. بل أن اضطهاده للمسلمين جعلهم جميعاً يجتمعون فى المساجد للدعاء عليه.. وعندما علم النشو بذلك ما زال بالسلطان حتى منع الوعاظ من الوعظ. وتحدى النشو كبار الصوفية- وهم أصحاب النفوذ الدينى والشعبى- فطرد من مصر أشهر صوفى فى عصره وهو الشيخ الكردى الذى نفاه للشام، كما اعتقل شيخ خانقاه بهاء الدين أرسلان بالإسكندرية واتهمه بتهم باطلة . وفى النهاية ظهر للسلطان خيانته وسرقاته فاعتقله واعتقل أخاه وصهره وأعوانه، واكتشف السلطان حجم ما سرقه من أموال ونفائس.. فعذبه وقتله.. وكان التخلص منه يوم عيد، ذاعت فيه أساطير الكرامات وشتى الادعاءات ومنها أن النيل زاد ورؤيت المنامات الصالحة على حد قولهم، وسارت المظاهرات تحمل المصاحف والأعلام..
وبعد النشو عادت حركات متفرقة ضد الأقباط..
منها سنة 838 هجرية : هدم الشيخ سليم لكنيسة جددها النصارى فى الجيزة.
وسنة 841 هجرية : هدم الشيخ ناصر الدين الطنطاوى لدير العطش الذى يقام عنده مولد سنوى يضاهى مولد السيد البدوى، فأحس الشيخ ناصر الدين الطنطاوى بالغيرة فما زال يسعى حتى هدم الدير..
وكان مثله الشيخ النعمانى سنة 852 هجرية الذى تخصص فى هدم الكنائس التى يجددها أصحابها..
وكانت عادة سيئة فى تلك العصور أنه إذا حدث أوبئة أو مجاعات ونقصان للنيل فمن السهل أن يعتبر ذلك غضباً من الله تعالى بسبب التهاون مع "أهل الذمة" والسماح لهم بممارسة شعائرهم، لذلك كانت ترتبط المجاعات والأوبئة أحياناً بحركات اضطهاد طائفية تستجلب رضى الله تعالى بظلم الأبرياء !!
وفى النهاية..
فمع وجود كل تلك الاضطهادات فإن النظرة المنهجية تحتم الاعتراف بأنها كانت جملاً اعتراضية فى التاريخ المصرى الطويل بعد الفتح الإسلامى. لم تكن ظاهرة عامة فى تاريخ مصر فى العصور الوسطى. بل أن الظاهرة العامة هى سيادة التسامح بين أفراد الشعب. إلا أن الاستثناء كان يأتى من الحكام أساسا وهم غير مصريين أو من العلماء الوافدين. وجاءت حركات متفرقة قليلة من العوام حين تأثروا بالظروف التى خلقها الآخرون وهذا ما ينطبق حاليا على تلك الحركة السلفية الوهابية السعودية الأصل والمنهج والمخالفة لطبيعة التدين المصرى المتسامح.
وعدا تلك الحالات التى رصدناها كانت هناك ملامح إيجابية كثيرة للتسامح من بعض الحكام ومن العلماء الا انها كانت أساسية فى التعامل الشعبى. وهى تعبر عن حقيقة التدين المصرى الذى اشتهر فى العصور الوسطى بالاعتدال وإيثار السلام وكان ذلك التدين المصرى يثير إعجاب الرحالة والمؤرخين القادمين لمصر. كما حدث مع ابن خلدون وابن ظهيرة وغيرهما, وذلك موضوع آخر شرحه يطول..
وبعــد..
الخاتمة:
(1) فهناك حقائق ينبغى التسليم بها:
وهى أن دين الله تعالى فى كل عصر ينزل بالحق والخير والصلاح والسلام والعدل ويستحيل أن يكون مسئولاً عما يقع فيه البشر من ظلم وتعصب باسم الدين..
أن الله تعالى يقول ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد 25).أى أن هدف الرسالات السماوية هو إرساء القسط والعدل.. فهل من العدل أن تتسلط طائفة على أخرى بالظلم والقهر..؟ وهل من العدل أن ينتسب ذلك لدين الله تعالى؟.
إن الله تعالى يقول عن ذاته ﴿وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران 108). ويقول ﴿وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ﴾ (غافر 31). أى أن رب العزة جل وعلا قد أدان الظلم وأوضح أن الظالمين هم أصحاب النار يوم الحساب ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيّ الْقَيّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً﴾ (طه 111).فكيف يستسيغ من يدعى الإسلام أن يظلم من يختلف معه فى العقيدة، خصوصاً وأنه يعلم أن الله تعالى هو الذى شاء أن يجعل الناس مختلفين فى العقائد ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلاّ مَن رّحِمَ رَبّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ (هود 118،119).ولذلك فإن القرآن الكريم هو الذى يدعو لأدب الحوار بين المختلفين فى العقائد ويؤجل الحكم فى العقائد إلى يوم القيامة. ويؤكد على أهمية التسامح والسلام والمساواة.. حتى يعيش البشر فى تعايش سلمى مع ذلك الاختلاف الذى خلقهم الله تعالى على أساسه.
أن الله تعالى يقول عن رسالته الخاتمة التى أرسل بها محمداً عليه السلام ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء 107) أى أرسله الله تعالى رحمة للعالمين ولم يرسله لقتل واضطهاد الآخرين..فكيف يستسيغ بعضهم أن ينسب للنبى (عليه الصلاة والسلام) أحاديث لم يقلها فى اضطهاد البشر وإيذائهم؟..
(2) هناك حقائق تاريخية ظهرت بين العرض التاريخى الموجز.. وهى أن فاتورة الاضطهاد تتضخم حتى يدفعها الجناة بعد الضحايا، فالدولة الأموية سارت سياستها على أساس التعصب، بدأت التعصب للعرب ضد غير العرب، ثم تطرفت فى التعصب فتعصبت لقبائل ضد أخرى فى نطاق العروبة، ثم تطرفت أكثر فأصبح الخليفة يتعصب لابنه ضد أخيه، فيعزل أخاه من ولاية العهد ويولى ابنه مكانه.. وفى النهاية كانت العصبية هى السلاح الفتاك الذى قضى على الدولة الأموية فى شبابها.. وكانت أقوى دولة ووصلت فتوحاتها إلى أبعد مدى فى تاريخ المسلمين.. ولكن دمرتها العصبية من الداخل.. وهو درس- لو تعلمون- عظيم، فالتعصب حين يبدأ أو يستشرى لا ينتهى إلا بتدمير أصحابه والتعصب الدينى أيضاً يرتد سلاحه إلى أصحابه يتحول من تعصب دينى الى تعصب مذهبى داخل الدين الواحد ثم تضيق الحلقة تحمل معها اتهامات التكفير والتكفير المضاد لتصل الى تكفير المجتمع كله كما يحدث الآن. وتتحول اتهامات التكفير الى قتل وعمليات ارهابية. وقد شهدنا أمثلة تاريخية ونشهد الآن صحوة سلفية تنشر الارهاب وتسفك الدماء، ولكن هناك ما هو أخطر..
فمعظم التحريفات الدينية فى عقائد المسلمين وتراثهم أدخلها علماء الموالى الأعاجم الناقمون وقد عجزوا عن الانتقام لأنفسهم فدخلوا فى الإسلام ليكيدوا للإسلام..
ومن أسف أن كتبهم وأسفارهم المقدسة ورواياتهم وفتاويهم تناقض الإسلام وتطعن فى القرآن وفى خاتم النبيين.. ومع ذلك فهى تحظى بالتصديق والتقديس أى أن انتقامهم مستمر حتى الآن !!
وبسبب الاضطهاد الدينى والعنصرى كان اعتناق الإسلام طريقاً سياسياً للانتقام من المسلمين.. ولو كانت هناك عدالة ومساواة وحرية دينية لما لجأ أولئك إلى خندق المقاومة السرية..
أن الاضطهاد العنصرى قصير العمر.. فقد انتهى اضطهاد الأمويين لغير العرب بينما بقى الاضطهاد الدينى الذى أدخله الحنابلة ورواة الحديث فى صميم التدين، ثم ساعد الجمود العقلى على بقاء ذلك التراث دون مناقشة، بل أخذ طريقه للتطبيق باعتباره من ملامح التدين..
وفى عصرنا ظهرت "الصحوة الدينية" تهدف للرجوع بنا إلى السلفية وأفكار العصور الوسطى القائمة على التخلف والتعصب والجمود العقلى..
والخطورة محققة من هذه الصحوة الدينية المزعومة لأنها تدعم نفسها بالاستناد الدينى، مما يجعلها قنابل موقوتة انفجرت وتنفجر فى وجوهنا جميعاً، لأنها كعادة الحركات والدعوات المتطرفة تبدأ بتكفير أصحاب الديانات الأخرى وتنتهى إلى تكفير الناس جميعاً، وتبدأ باضطهاد الآخرين وقتلهم وتنتهى إلى قتل الأهل والأقارب والزملاء داخل الخلية السرية الواحدة وقد رأينا أن حركات التعصب تبدأ بسيطة ثم تنتشر كالسرطان المدمر..
وخطورتها أنها تستمد مشروعية زائفة من الدين وترفع لواء الجهاد.
فالمطلوب أن نثبت زيف تلك المشروعية التى تخالف الكتاب العزيز.
وذلك يحتاج إلى إصلاح دينى للمسلمين، إن لم تقم به الحكومى فلتبادر إليه دوائر الاستنارة فى مصر، فالإصلاح الدينى هو الذى ينقذ مصر من التطرف والإرهاب ولن يكون الإصلاح الدينى إلا بالاحتكام للقرآن الكريم وعرض ذلك التراث عليه حتى ننصف الإسلام من بعض المسلمين.
﴿أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الّذِيَ أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصّلاً وَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنّهُ مُنَزّلٌ مّن رّبّكَ بِالْحَقّ﴾ (الأنعام 114).
وصدق الله العظيم.. ودائماً صدق الله العظيم..
د. أحمد صبحى منصور
اجمالي القراءات
74021
بصراحه انا قابلت فى حياتى اخوه مسلمين كتير معتدلين و منصفين لكن فى انصاف حضرتك ملقتش بصراحه مقالك الاكثر من رائع ده هزنى جدا من جوايا و شفت فعلا سماحه الدين الاسلامى فى كلام حضرتك الاكثر من رائع انا بصراحه قبل كده كنت حاسس ان مافيش انصاف الص للمسيحين و كنت حاسس ان كل الاخوة المسلمين مع كل تقديرى و احترامى ليهم بحس برده انهم بيبصولنا على اننا ( كفره ) و طبعا ده شئ صعب اوى و بيلغى اى حوار بينا لانى مش معقول اكلمك على انك شريك ليا فى الوطن و انت تكلمنى على انى كافر و استحق منك النصيحه ده حتى حرام انك تكفرنى بدون اى سبب مقنع على العموم عادى ربنا عوضنى بيك فى الاخر و يا رب الاقى ناس تانيه زى حضرتك و ربنا يبارك حياتك يا دكتور ....
وائل شكرى