"ابن خلدون" بين التكريم والتجريم
رغم أنني أكتب في هذه الصحيفة وغيرها منذ سنوات إلا أنني نادراً ما أستخدم هذا المنبر للحديث عن أمر يخصني، أو يخص جامعتي، أو مركز ابن خلدون الذي تشرفت بتأسيسه منذ عشرين عاماً. ولكني أستأذن الصحيفة والقراء، في التعليق على مقال نشرته "المصري اليوم"، بتاريخ 1/7/2008، للزميل نبيل شرف الدين، تحت عنوان "ظلم ذوي القربى".
وقد أخجل الزميل الكريم تواضعي، حيث أشاد بمآثر عديدة، نسبها إلى شخصي، كداعية للديمقراطية والمجتمع المدني، وكمدافع عن حقوق الإنسان عموماً، وحقوق الأقليات خصوصاً. ولم أكن قد قابلت نبيل شرف الدين إلا من سنوات قليلة، ولا يعرفني الرجل إلا من خلال كتاباتي، ونشاطي العام. وقد فعل بمقاله المذكور ( ظلم ذوي القربي ) ما لم يفعله كثيرون ممن عرفوني لسنوات أطول، واشتغلوا معي في مشاريع بحثية عديدة، أو شاركوا معي في مبادرات وطنية وعربية وعالمية طوال العقود الأربعة الماضية.
طبعاً هناك استثناءات من هذا التعميم، ربما كان أهمها المفكر الاقتصادي الليبرالي الراحل د. سعيد النجار، والقانوني الدولي الكبير د. إبراهيم شحاتة رحمه الله، والمفكر الإسلامي الكبير جمال البنا، أمدّ الله في عمره. وأنا أخص هؤلاء بالذكر، لأنهم كتبوا ونشروا إشادات مثل تلك التي كتبها نبيل شرف الدين. وربما يكون هناك آخرون لا أعرفهم أو كتبوا ونشروا عن مآثري، ولم أعلم بها. في مقابل هذه القلة التي تعد علي أصابع اليدين، هناك عشرات، وربما مئات من الذين أشبعوا سيرتي هجوماً، وتشويهاً، وتشكيكاً.
هذا فضلاً عما فعلته السلطات المصرية بكيل الاتهامات ضدي، ومحاكمتي وزملائي من مركز ابن خلدون، والزج بنا في السجون ثلاث مرات (2000 - 2003) إلى أن برأت ساحتنا من كل التهم، أعلي محاكم الديار المصرية، وهي محكمة النقض. وبينما كان يكفي لهذه المحكمة العريقة أن تصدر ذلك الحكم في بضعة سطور ـ لعدم كفاية الأدلة أو لأخطاء في الإجراءات ـ تعمدت المحكمة، برئاسة المستشار فتحي خليفة أن تفصّل حيثيات حكمها في ثلاث عشرة صفحة، ردت فيها على كل ما وجهته الدولة لي ولزملائي الخلدونيين من اتهامات.
بل أشادت، مثلما أشاد الأخ نبيل شرف الدين، بمآثري كعالم اجتماع وكمفكر، وداعية للإصلاح. ولأن إحدى التهم وقتها، كما الآن، هي أنني أسأت لسمعة مصر في الخارج، قالت المحكمة في إحدى حيثياتها: "إن الذي يسيء لسمعة مصر في الخارج، هو ما تناقله علماء السياسة، عن التركيز الشديد للسلطة في مصر، حتى إن شيئاً لا يتم في حياتنا العامة إلا بأوامر أو توجيهات مؤسسة الرئاسة". ومن المفارقات المُخزية أن نفس التهم التي كانت قد وجهت إلينا منذ ثماني سنوات، وبرأتنا منها محكمة النقض، بعد ثلاث سنوات من المحاكمات والسجون، هي نفسها التي يثيرها عدد من أعضاء الحزب الوطني الحاكم، أو رؤساء الأحزاب الصغيرة الأخرى، التي ولدت وتعيش صناعياً في كنف النظام.
وهم ربما يدركون في قرارة أنفسهم أنها ستشطب في نهاية المطاف. ولكن الغرض من هذه "الزفة الاتهامية" في ساحات المحاكم، هو التقرب إلى السلطة والسلطان، أولاً. ثم استنزافي مادياً ومعنوياً في التقاضي لعدة سنوات، ثانياً. وإبقاء سيف الحبس التحفظي على ذمة التحقيق مصلتاً على رقبتي، ثالثاً. وهذا الأخير هو ما جعل جامعتي والمحامين الذين يتولون الدفاع عني، ينصحونني بالبقاء في الخارج، لعدم ثقتهم بما يمكن أن يفعله النظام في ظل حالة وقوانين الطوارئ، التي تعطيه سلطة "القبض والإحضار والحبس...".
وحين طلبت ضمانات مكتوبة، أو على لسان مسؤول كبير، أمام الصحافة، والرأي العام، فلم يكن ذلك لأنني أريد أن أكون فوق القانون، كما ذهب بعض المغرضين. ولكن إجراءات التحقيق والمحاكمات يمكن أن تمتد لسنوات طويلة. وقد أضفت في تصريحات حول الضمانات، عبارة تكميلية، نشرتها بعض الصحف ولم تنشرها صحف أخرى، وهي إلى أن "يصدر حكم بات ونهائي من محكمة النقض". فرغم براءتي في جولة الاتهامات والمحاكمات السابقة، إلا أن ذلك لم يحدث إلا بعد ثلاث سنوات، فقدت فيها صحتي، وخرجت شبه مشلول، وظللت على كرسي متحرك، عاماً كاملاً، ثم أستند على عصا عامين آخرين، وبعد أربع عمليات جراحية دقيقة على جهازي العصبي، الذي أصابته عدة جلطات أثناء فترة السجن.
وعودة إلى مقال نبيل شرف الدين "ظلم ذوي القربى"، أليس ذلك ترجمة أخرى لأحاديث وأقوال مأثورة من قبيل "لا كرامة لنبي في أهله"، و"زمّار الحي لا يطرب". بل أثار تحليل نبيل شرف الدين خواطري التاريخية حول المفكر العربي المسلم، عبدالرحمن بن خلدون، الذي ولد في أوائل القرن الرابع عشر الميلادي، في قلعة بني سلامة بتونس، وبعد أن تلقي علومه الدينية والفلسفية، ونبغ فيها، استدعاه حكّام في المغرب، ثم في الأندلس للاستفادة من علمه وفضله. ولكن ابن خلدون المفكر الحر، كان دؤوبا في قول "كلمة الحق"، والتعبير الحر عما يعتمل في ضميره. وكان ذلك سرعان ما يغضب منه الحكّام، فيأمرون بعزله، وأحياناً بجلده، أو حبسه.
وكان الرجل في كتاباته وأحاديثه ينذر بنكبة قادمة في الأندلس، في ظل ملوك الطوائف. وحينما ضاق به المقام في الأندلس، لجأ لبلاد الشام عدة سنوات، حيث رأي علامات كوارث أخرى، ونبّه لها. وكالعادة ضاق به الحكّام هناك أيضاً، فولى وجهه شطر الحجاز، ليحدث نفس الشيء. وفي القاهرة، استقر به المقام لأطول فترة من سنوات عمره الذي تجاوز السبعين. وفي القاهرة، شغل منصب "قاضي القضاة". وأهم من ذلك، أنه في مصر، أتم ابن خلدون كتابه الموسوعي، الذي أصبح يعرف في العالم كله باسم "مقدمة ابن خلدون.
وقد أرسى فيها الرجل البذور الجنينية الأولى، لما سيسميه مفكر فرنس آخر، جاء بعد ابن خلدون بخمسة قرون، وهو "أوجست كومت" (August Comte)، "علم الاجتماع". ولأن ابن خلدون، كان مفكراً وداعية، ويربط بين النظرية والتطبيق، فقد اقتفينا أثره، وسرنا علي خطاه. وتشاء الصدفة البحتة أن يجيء مقال نبيل شرف الدين متزامناً مع الذكري العشرينية (1988/2008) لتأسيس مركز ابن خلدون بضاحية المقطم، قرب مقبرة ابن خلدون في باب النصر.
كذلك تزامن مع نفس الذكرى، ومع مقال نبيل شرف الدين، مقال آخر لزميل آخر من القطر الليبي هو مجاهد اليوسفي (عمر)، أي في البلد المجاور لمسقط رأس ابن خلدون، بعنوان "جريرة سعد الدين" في جريدة العرب القطرية (1/7/2008)، نقتبس منه فقرة واحدة، تحكي سيرة ابن خلدون، من جديد في شخصي المتواضع. "عندما زرت مفكر علم الاجتماع سعد الدين إبراهيم في بيته بالدوحة، قبل أشهر، وتابعت خطواته وهو يمضي إلى المطبخ، مصراً على واجب الضيافة، باذلاً الجهد للتحكم في خطواته إذ تعاني قدماه من آثار السجن، الذي خرج منه شبه كسيح، أحسست بطعم العذاب في قلبي...
"تذكرت بلدي الأول، حيث ولدت ونشأت، ورأيت بعيني أساتذتي وزملائي الذي حالفهم الحظ بالخروج أحياء من سراديب السجون، وهم يمشون تلك المشية المُعذبة، بعد أن أدمت الآلام أجزاء عديدة دواخلهم. وشعرت فوراً بالانتماء لهذا الرجل، الذي يمثل امتداداً لخريطة الرعب تلك، مع الاختلاف في بعض الخصوصيات الصغيرة، ما هي تهمة سعد الدين إبراهيم؟ الأمر لا يحتاج إلى تفكير عميق فالتهمة جاهزة، ومُفصلة مسبقاً، ومدعمة بالأدبيات الغزيرة التي تحاول غوغائية السلطة العربية صبّها على كل من كان له رأي مُخالف للقطيع. فهذا النوع له دائماً تهمة ثابتة تنتظره، وهي التخابر مع جهات أجنبية وتعريض أمن البلاد للخطر".
فهل يتحدث عمر الليبي عن ليبيا، أم عن مصر، أم عن أندلس ابن خلدون الأصلي، أم عن سوريا الأسد، أم عن عراق صدام، أم سودان البشير، أم يمن علي عبد الله صالح، أم عنها جميعاً من المحيط إلى الخليج؟
اجمالي القراءات
12480
تحية مباركة طيبة وبعد
قلبي معك يا دكتور وأعانك الله على الغربة التي تعيشها بعيدا عن بلادك .
وكم هي مريرة تلك الغربة والتي يلازمها عدم الأمان لإنسان في وطنه .
الإحسان بالأمان هو الفارق ما بين الحياة والموت ، إذ كيف يعيش الإنسان محروما من العمل داخل مؤسسته التي أنشأها بماله وجهده محروما من نتاج عمله الذي يحبه .
حقيقة أنا لا أستطيع أن أتحمل مثل ذلك .
ولو أني سابقا حين تأمين الحكم عليه بسبع سنوات ، فقد تمنيت وأنا داخل قاعة المحكمة أن أحمل عنه نصف المدة وأشاركه السجن لكي أخفف عنه نصف المدة وأن استمتع بصحبته في هذه المحنة .
ولكن سرعان ما جاء حكم النقض بتبرئته فحمدنا الله على ذلك .
ولكني فوجئت حين خروجه بحالته الصحية التي هو عليها وكم كان ذلك قاسيا ومريرا علينا دون أن نشعره بذلك ، وكنت كثيرا ما أجعله يتكئ على أثناء حركته .
لذا أضم صوتي إلى صوته في تقديم جزيل الشكر للأستاذ الفاضل / نبيل شرف الدين .
وأود أن أطمئن الدكتور / سعد بأن العمل في مؤسسته يسير كما يحب ، ولكن الجانب الأكبر في عملنا هو وجوده بيننا .
والسلام والأمان لكل المخلصين لوطنهم ودينهم ، عافانا الله جميعا من البغي الذي نحن غرقي فيه .