آحمد صبحي منصور Ýí 2024-10-01
لمجرد التذكير : مقدمة تاريخية عن نشأة علم النحو
كتاب ( القرآن الكريم والنحو العربى )
الفصل الثالث : عن علم النحو
لمجرد التذكير : مقدمة تاريخية عن نشأة علم النحو
أولا :
1 ـ اللسان العربي كان ينطقه العرب بفصاحته وضبطه بالسليقة ، يرفعون الفاعل ويرفعون اسم ( كان ) وأخواتها بدون تعليم أو تعلم ، وينصبون المفعول وخبر ( كان ) واسم ( إن ) وأخواتها دون أن يفقهوا شيئا عن القواعد النحوية التي استقاها علماء النحو فيما بعد . ولسان بهذه الحساسية في الإعراب والضبط من السهل أن يسرع إليه اللحن والفساد في النطق ،بل قد يصل الفساد الى فهم القرآن الكريم نفسه . مثلا يقول جل وعلا :( وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ )(3) التوبة )، ( وَرَسُولُهُ ) هنا مرفوعة بالضم ، أى ورسوله برىء من المشركين . لو نطقتها مكسورة بالجرّ فهذا يعنى إنّ الله جل وعلا برىء من رسوله .
2 ـ تعقدت المشكلة بعد الفتوحات العربية ، وإختلاط القبائل العربية ، وتعاملهم مع الأمم المفتوحة ، وشيوع اللحن فى نطق اللسان العربى ، ووصل هذا الى كتابة نُسخ من القرآن الكريم تعكس هذا الاضطراب ، ولا تلتزم بالكتابة القرآنية المختلفة عن الكتابة العربية ، والتى هى أحد أوجه الاعجاز العددى الرقمى الذى ظهرت بدايته حديثا . والنبى محمد عليه السلام هو الذى كتب القرآن بنفسه بمعاونة بعض أصحابه . وكتبنا فى هذا من قبل . هذا الاضطراب الذى جلبته الفتوحات جعلت الخليفة عثمان بن عفان يحرق كل النسخ ، ويُلزم الناس بالنسخة التى كتبها النبى محمد عليه السلام ، وهى التى لا تزال حتى الآن موصوفة بانها بالرسم ( العثمانى ) نسبة لعثمان بن عفان .
ثانيا :
1 ـ كان العرب فى جاهليتهم يقولون الشعر الموزون بالسليقة بالوزن والقافية دون ان يعرفوا ماهية الأوزان وبحورها. وكانوا ينطقون اللسان العربي الفصيح بالسليقة دون أن يعرفوا ما اصطلح علىتعريفه بالاعراب أو النحو.
2 ـ على سبيل المثال يقول عنترة بن شداد يتغزل فى حبيبته عبلة :
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
وبيض الهند تقطر من دمى
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم.
كان عنترة ينطق الكلمات باعرابها الصحيح بالسليقة دون أن يعرف لماذا جاءت تلك الكلمة مرفوعة بالضم أو منصوبة بالفتح ، وهل هذه الكلمة فعل أم حرف أم إسم .
جاء علماء النحو وقد تخصصوا فى معرفة ضبط أواخر الكلمات فعللوا تغير أواخر كل كلمة حسب موضعها من الجملة ، وأصطنعوا لها مصطلحات جديدة مختلفة ، منها :(النحو والصرف و الاعراب و الفتح والضم والجزم والسكون و المعرب والمبنى و الاسم والفعل والحرف و الفاعل والمفعول والعطف والظرف ..الخ ).
3 ـ عنترة حين نطق بالأبيات السابقة نطقا عربيا صحيحا لم يكن يعرف أن كلمة ( ذكرتك ) كما حللها علماء النحو تحوى ثلاث كلمات هى الفعل (ذكر ) وتاء الفاعل وكاف الخطاب .ولم يعرف عنترة أن اعراب هذه الكلمة هو الاتى : (ذكر ) فعل ماض مبنى على السكون لاتصاله بضمير متكلم . (التاء ) ضمير متصل للمتكلم فاعل مبنى على الضم ، (الكاف ) ضمير متصل للمخاطب مفعول مبنى على الكسر. لم يعرف اعراب الجملة التالية وهى ( والرماح نواهل ) فالواو هنا واو الحال ، (الرماح ) مبتدأ مرفوع بالضمة ، و(نواهل) خبر مرفوع بالضمة أيضا. والجملة من المبتدا والخبر فى محل نصب لأنها (حال ) أى التقدير (حال كون الرماح نواهل ) . ولم يعرف عنترة ان الضمائر تتكون من ضمائر متصلة بالفعل أو بالاسم ـ وضمائر منفصلة ، وأنها قد تكون ضمائر للفاعل أو المفعول أو الملكية ، ولم يعرف الفارق بين الاسم والفعل ، وانواع كل منهما . لم يعرف أيضا ما سمى فيما بعد بالبلاغة وعلم المعانى وعلم البديع . قال ( وبيض الهند ) ولم يعرف ما فيه من (كناية ) وقال ( لمعت كبارق ثغرك ) ولم يعرف أن هذا قد تسمى فى البلاغة بالتشبيه ، ولم يعرف الاستعارة و المجاز و المحسنات البديعية. لم يعرف فروع علم البديع من الجناس والطباق والمقابلة والتورية ، ولم يعرف الفوارق الدقيقة التى حددت المعانى ، ولكنه كان ينطق مبدعا ، وترك لعلماء النحو فى العصر العباسى استخلاص القواعد النحوية والبلاغية فيما قال وفيما أبدع.
4 ـ كان محصول عنترة من ألفاظ لسانه العربي محددا ببيئته الصحراوية وعلاقاته البسيطة بالناس والأشياء. ومثله مثل العرب وقتها لم يستعملوا كل المشتقات المتاحة للفظ العربى . فكلمة (ضرب ) بسكون الراء هى بمصطلح النحويين مصدر. اى الضرب . ومن هذا المصدر تاتى اشتقاقات عديدة (لا أتذكر عددها الان لأنى أكتب من الذاكرة ) فيأتى منها الأفعال الماضى والمضارع والأمر (ضرب يضرب اضرب ) ويأتى منها اسم الفاعل (ضارب) واسم المفعول ( مضروب ) وصيغ المبالغة ( ضرّاب ضروب مضراب ضرب ـ بكسر الراء ـ ضريب ، ) ثم تضاف اليها حروف أخرى تغير معناها كحروف الطلب ( إستضرب ) والجمع المذكر السالم (ضاربون ) والجمع المؤنث السالم (ضاربات) وجمع التكسير أضراب ..الخ ..ولم يستعمل العرب وقتها كل هذه المشتقات ، هذا مع كثرة استعمال كلمة الضرب فى حياتهم .
ثالثا :
1 ـ جاء العصر العباسى بانفتاح حضارى وثقافى ، فدخل اللسان العربي فى مواجهة معقدة مع حضارات مختلفة لها ألسنة حيّة مختلفة ، ورأى العرب معظم العالم المعروف وقتها من اروبا الى تخوم الهند والصين ، وشاهدوا أجناسا من الخلق ومظاهر الطبيعة و معانى جديدة وعلاقات جديدة ، وكان على اللسان العربى أن يُعبّر عن هذا كله ، وأن يتسع ويستوعب كل ذلك . وهذا ما قام به علماء النحو ، وهم فى توسيعهم للسان العربي استعملوا وسائل عدة منها نحت كلمات جديدة ، وتعريب الألفاظ الأجنبية ، والسير فى الاشتقاق للكلمة العربية الى آخره لاستنفاذ أكبر طاقة للكلمة العربية ، واستعمال الكلمة العربية فى أكثر من معنى .
2 ـ اللسان العربى فى العصر العباسى نجح فى اجتياز هذا الامتحان الحضارى فاستوعب المعروف من حضارة العالم وقتها ، وكتب به أفذاذ علماء العالم فى ذلك العصر العباسى ، ولم يكونوا كلهم عربا ، بل كانوا من جنسيات مختلفة ، ولم يكونوا كلهم مسلمين بل كانوا من أديان مختلفة. العامل المشترك بينهم جميعا أنهم قاموا بعملهم العلمى باللسان العربي، واليه ترجموا تراث الهند وفارس واليونان والروم ، فأصبح بالشروح التى قامت عليه وبالنقاش الذى دار حوله عربيا أو كأنه عربى. وبقي اللسان العربي حتى الان بينما بادت واندثرت ألسنة أخرى عاصرته أو أتت بعده. ثم فيما بعد ، بدأت أوربا عصر نهضتها بترجمة ما كتبه عباقرة مثل الخوارزمى وابن حيان والبيرونى وابن سينا والرازى وابن النفيس وابن الهيثم والادريسى ..الخ ..
3 ـ كانت لهذا النجاح ضريبة مزعجة .
فاللسان العربي بهذا الاتساع الكمى و ذلك التنوع الكيفى لم يصبح اللسان الذى أبدع به عنترة و صحبه شعراء المعلقات . أصبح فى معظمه لسانا مصنوعا .وشأن اللسان المصنوع أن تكون له (استامبة ) أو (فورمة ) أو قواعد ثابتة مضطرد يقاس عليها ،ولا يسمح بتجاوزها ، فالفاعل مرفوع ولا بد أن يظل مرفوعا ، والمفعول منصوب ولا بد أن يظل منصوبا ، واسم ( كان ) مرفوع الى الأبد ، واسم (إنّ ) منصوب دائما . هذا ما سار على اغلبه علم النحو .
5 ـ وثارت مشكلة .ذلك أنهم بدءوا أولا وقبل كل شىء فى جمع الألفاظ العربية من المحفوظ من الشعر الجاهلى ومن المنطوق من البوادى والأعراب المقيمين داخل الجزيرة العربية والذين لم يختلطوا بالحواضر ، ليتعرفوا ليس فقط على الكلمات العربية الأصيلة بل أيضا على طريقتهم او سليقتهم فى النطق أو الاعراب بالفتح والكسر والضم. وقد ظهر لهم من هذا الجمع أن اللسان العربي لا يسير دائما على القاعدة ،أى ليس الفاعل دائما وأبدا مرفوعا ، وليس المفعول دائما منصوبا ، ولكن هناك شواذ واستثناءات لا تعليل لها ،أو لم يجدوا تعليلا لها فقالوا انها شواذ. وبالطبع هم لا يعرفون أن اللسان البشرى يعبر عن صاحبه الكائن الحىّ ، و لا يمكن لكائن حى متحرك أن يكون آلة تنتج طبقا لقواعد صارمة نفس (الفورمة )أو (الاستامبة ) .
6 ـ اختلفت أكبر مدرستين نحويتين فى التعامل مع تلك الشواذ فى الاعراب ، وهما مدرستا البصرة و الكوفة ، وهذه المشكلة أبانت عن وجود فجوة بين اللسان العربي فى القرآن الكريم وبين اللسان العربي المصنوع فى العصر العباسى.
فاللسان العربية فى القرآن الكريم نزل مبينا ومطابقا للسان العربي الطبيعي الذى كان ينطق به العرب وقتها ، وجاء تعبيرا صادقا عن ذلك اللسان العربى فأبهر أصحاب ذلك اللسان وعجزوا عن تحدّيه ولو بسورة واحدة تشبهه. ولأنه جاء مطابقا للسان العربى فانه مثل ذلك اللسان العربى لم يلتزم أن يكون الفاعل مرفوعا الى الأبد أو أن يكون خبر (كان ) منصوبا مطلقا، جاءت نسبة من الخروج على القاعدة كما هى فى اللسان العربى الأصيل. ومن هنا حدثت فجوة بين لسان القرآن الكريم المعبّر عن صحيح اللسان العربي وبين اللسان المصنوع فى العصر العباسى .
7 ـ ولكن بعض أصحاب العاهات الثقافية وبعض من فى قلبه مرض يسارع باتهام القرآن الكريم بأن فيه أخطاء نحوية . وتلك مقولة لم يقلها أعدى أعداء القرآن فى عصر النبوة ، ولم يقلها اعتى الملحدين فى العصر العباسى لأنهم مع إلحادهم فقد كان لديهم بعض العلم. أما عاهات عصرنا فهم بنعمة الجهل يرفلون . إن من المضحكات المبكيات أن يأتى لنا ملحد جهول يتحدث ( بسلامته ) عن أخطاء القرآن الكريم فى علم النحو ، يجعل عمل النحويين فى العصر العباسى ـ بما فيه من إختلافات وأخطاء وقصورـ فوق القرآن الكريم ، كلام رب العالمين .! .
ألا سُحقا للقوم الجاهلين .!!
تاريخ الانضمام | : | 2006-07-05 |
مقالات منشورة | : | 5130 |
اجمالي القراءات | : | 57,284,574 |
تعليقات له | : | 5,458 |
تعليقات عليه | : | 14,839 |
بلد الميلاد | : | Egypt |
بلد الاقامة | : | United State |
أسئلة عن : ( بوتين سيقتل بشار ، سوريا وثقافة الاستبداد والاستعباد )
الغزالى حُجّة الشيطان ( الكتاب كاملا )
خاتمة كتاب ( الغزالى حُجّة الشيطان فى كتابه إحياء علوم الدين )
دعوة للتبرع
إمام و أئمة : نقول إمام الجام ع وإمام الصلا ة والأئ مة فى...
التأويل : يقول الله عز وجل .... هل ينظرو ن إلا تأويل ه يوم...
حسابات مهلكة : السؤ ال الأول الظاه ر ان عيلتن ا ...
ثلاثة أسئلة: السؤ ال الأول : هل يصح أن يُقال ان ربنا رب...
المطففين 7 الى 21: تقول إن اصحاب الجنة فريقي ن المقر بين ...
more
الموضوع مهم والشكر لك أخ أحمد على إتاحة الفرصة لتبادل الآراء حول هذا الموضوع.
أنا لا أنظر للسان العربي على أنه اختراع جديد، وإنما اقتباس من ألسنة كانت سائدة عند شعوب اخرى كان للعرب معها علاقات تجارية وغير تجارية. ربما كان هذا بمثابة لهجة تطورت لتصبح لسانًا جديدًا له استقلاليته. عند نزول القرآن كان هذا اللسان قد وصل إلى مستوى عال من التطور، والدليل على ذلك القرآن نفسه، إذ نزل بهذا اللسان ولم يخترع لسانًا آخر.
ليس من غير المنطقي أن يكون الكلام في بداية تطور هذا اللسان شفهيًا. ربما استُعملت ابجديات اخرى للكتابة. هذا ليس مهمًا هنا. المهم أنه عندنا تقال جملة ما، مثلًا: "ركب الرجل الناقة" – برفع لام الرجل ونصب تاء الناقة، فربما نقول أنها جاءت بالسليقة. لكن عندما تأتي هذه الجملة بأشكال أخرى، مثل: ركب الولدُ الحصانَ، أو ركب الشيخُ الحمارَ، يصبح عندنا اعتقاد، على الأقل شك، بأن هناك قاعدة تُستعمل في تركيبة الجملة، وليس من الضرورة أن يكون لهذه القاعدة اسم كما نعرفه الآن. ما قام به علماء النحو هو ايجاد قواعد وصفية – أي كانوا يبحثون عن القواعد المستعملة (وغير مدونه) في النصوص التي كانت متاحة لديهم. بعد تصنيف وتدوين هذه القواعد أصبحت هذه الزامية. السؤال هنا: لماذا لم يكتف النحويون بالقرآن (لسان عربي مبين)، وبحثوا في أماكن أخرى – ربما لم تكن مطابقة لهذا اللسان المبين؟
بغض النظر إن كان الكلام يدون بأجديات أخرى أو كان شفهيًا، المهم أنه عندما شعر الناس أنهم بحاجة لتثبيت (نسخ) ما يقولون – لاسباب تجارية مثلًا، بدأوا في وضع حروف الابجدية العربية. من المنطق أن تفي هذه الابجدية وحروفها بالأصوات المستعملة. عند نزول القرآن كان هناك، على سبيل المثال، فرق بين لفظ حاء وخاء وجيم، فإذا لم يكن التنقيط في ذلك الوقت موجودًا، فكيف نضع لثلاثة ألفاظ (أصوات) نفس الحرف؟ أم أن التنقيط كان معروفًا؟ وهذا ما أعتقده.
كلمة أخيرة عن الشعر الجاهلي: من الطبيعي أن يكون هناك شعر قيل في الجاهلية، لكن: هل ما قيل فعلًا هو الذي نسمعه الآن؟ أو ماسمعه علماء النحو؟