بين الخيبة والخسران
آحمد صبحي منصور
Ýí
2022-03-29
بين الخيبة والخسران
مقدمة : قال : ( هاجرت الى أمريكا ، وتركت فى مصر زوجتى وأولادى . بدأت فى أمريكا من الصفر ، ونجحت بعد معاناة شديدة من تكوين شركة ، وتمكنت من استقدام زوجتى وأولادى ، وقسّمت العمل بين اولادى ، منهم من عمل معى فى الشركة ، ومنهم من عمل فى شركات أخرى ، وكنا ولا زلنا نجتهد فى سداد قسط البيت والتكاليف الأخرى . كان هناك فى مصر أخ اصغر منى ،عاش على أمل أن يأتى الى امريكا ، وقمت باستقدامه على أنه يعمل فى الشركة ، واستغرق هذا وقتا ، وكان فى أثناء هذا قد تزوج وأنجب . جاء أولا بمفرده لأن استقدام زوجته وطفليه يستغرق وقتا أطول . كنا فى غاية السرور بمجيئه لأنه سيقوم بالعمل معنا ، ولكن فوجئنا به يقبع منكمشا فى البيت لا يخرج منه . نصحته بالخروج ليعمل معنا فى الشركة ، وبالعمل يتعامل مع الناس ويتعلم اللغة الانجليزية ، رفض بحجة إنه يريد أن يشترى مزرعة ويعمل فيها . قلت له إنه لا يستطيع أن يشترى مزرعة لأنه ليس معه ثمنها، قال سأقترض ثمنها ، قلت له لا يمكن أن يقترض لأنه ليس له ( كريدت ) أى تعاملات سابقة ، طلب من أن أقترض له ، قلت هذا مستحيل ، لأنى لا أضمن أن تنجح فى مشروعك ، وسأدفع أنا الثمن . قلت : عليك أن تبدأ من الصفر ، تعمل فى أى عمل ، وخلال عشر سنوات على الأقل يمكن أن تقترض مبلغا وتشترى مزرعة ، وتكون ساعتها قادرا على التعامل مع الناس والدخول فى منافسة البيع لمنتجات مزرعتك ، وربما أكون شريكا لك أنا والآولاد . رفض ، وقال انه يريد مزرعة خاصة له . قعوده بلا عمل أسخط الأولاد ، وهم أصغر منه سنا ، ويعملون بارهاق شديد . قلت له : إن الملايين فى مصر يتمنون فرصة للسفر الى الى قبرص أو اليونان ، والملايين فى قبرص واليونان يتمنون المجىء لأمريكا ، والذى ينجح فى القدوم لأمريكا يبدأ من الصفر كما حدث لى ، والناس فى أمريكا فى تسابق على العيش مثل الذى يجرى دائما خلف أتوبيس لا يستطيع اللحاق به أو القفز اليه ، ولو تكاسل وعجز قد يصدمه أتوبيس قادم ، لذا عليه أن يظل فى جرى على معاشه ، وإذا ضاع منه عمله سيعجز عن سداد أقساط المنزل والسيارة وغيرها ، ولذلك تمتلىء شوارع المدن الكبرى فى أمريكا بمن يعيشون فى الشوارع ، منهم أمريكيون من سلالة اجداد عاشوا فى أمريكا من أجيال سابقة . وقلت له لا بد أن تتعلم اللغة ولا بد أن تحصل على عمل وعلى رخصة قيادة حتى تكون جاهزا عندما يأتى أولادك . ولم يفعل . وجاء أولاده فعاشوا معنا ، وهو عاجز حتى عن التقديم لهم فى المدرسة القريبة منا . طلبت منه بحزم أن يدفع ايجارا ومشاركة فى المعيشة مثل الأولاد ، وأن يتصرف خلال مدة شهرين . فى النهاية حصل له الأولاد على عمل فى مطعم ، وضمنوه فى استئجار شقة انتقل اليها بأولاده . ومرت 15 سنة وهو لا يزال يعمل فى هذا المطعم ، ويتهمنى بأننى السبب فى ضياع أحلامه فى المزرعة . آخرون أعرفهم جاءوا الى أمريكا وعملوا فى همة ونشاط ، فحققوا لأنفسهم الحلم الأمريكى ، وهو لا يزال مجرد عامل بسيط . حين أتفكر فى حاله أتذكر ما كانت تقوله والدتى عنه ، وهو الابن الأصغر ، كانت تقول : ( يات الخايب خيبة على خيبته ) . الله يرحمها هى المسئولة عن خيبته بسبب التدليل والخوف عليه ، فعاش معتمدا على اخوته الكبار معتقدا أنه حق مكتسب له ، وجاء بهذا الى أمريكا يظنها مصر . فوجىْ بوضع مختلف ، وبدلا من أن يلوم نفسه أخذ يلومنى ، يريدنى أن أظل أحمله على عاتقى دون أن يتحمل مسئولية نفسه . أسالك عن موضوع الخيبة ، هل مذكور فى القرآن ،وهل الخائب مثل الخاسر لأننا فى أمريكا نقول عن صاحب هذه الحالة إنه ( خاسر ) ؟
؟
أقول :
أولا : عن الخائب والخيبة :
1 ـ جاء وصف الخيبة فى قوله جل وعلا : ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) النحل ).
2 ـ لم يأت فى القرآن الكريم كلمة ( خيبة ) .
3 ـ جاء فى القرآن الكريم كلمة ( خائب ) مرة واحدة فى قوله جل وعلا عن الكافرين بعد موقعة ( بدر ) : ( لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) آل عمران ). وهذا عن الخيبة فى الدنيا ، وهى تفيد معنى الخسران .
4 ـ تكررت كلمة ( خاب ) بمعنى ( الخسران ) فيما يخصُّ الكافرين فى الآخرة . قال جل وعلا :
4 / 1 : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) الشمس )، أى بالارادة الشخصية يستطيع الفرد أن يزكى نفسه ، وبالكسل واتباع الهوى يهوى بنفسه الى قاع الخيبة .
4 / 2 ( وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) ابراهيم ). هناك جبّارون فى الأرض من أكابر المجرمين ، ويوم القيامة سيكونون خائبين .
4 / 3 : ( وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى (61) طه )، هذا عمّن يفترى الأحاديث الشيطانية من أئمة الكهنوت فى الأديان الأرضية .
4 / 4 : ( وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) طه ). الكافرون هم الظالمون ، والذى يأتى يوم القيامة يحمل ظلما فهو الخائب / الخاسر.
ثانيا : عن الخاسر والخسران :
1 ـ أغلبية الناس هم فى ( خُسر ) فى كل زمن وكل عصر ، إلا من آمن وعمل صالحا وتواصى بالحق وتواصى بالصبر . قال جل وعلا : ( وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) العصر ). قد يكون مالكا للثروة ومحتكرا للنفوذ والسُّلطة ، ولكنه فى الحقيقة خاسر ، لأنه سيفقد هذا وذاك فى حياته أو بموته .
2 ـ بعض الناس يزعم الايمان بالله جل وعلا طالما يبتليه الله جل وعلا بالنعمة ، فإذا إبتلاه جل وعلا بالمحنة إنقلب ساخطا كافرا . هذا خسر الدنيا والآخرة معها ، وهذا هو الخسران الواضح المُبين . قال جل وعلا : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) الحج ).
3 ـ مهما كانت خسارة الدنيا فهى لا شىء مقارنة بخسارة الآخرة . يتقلب الناس فى الدنيا بين مكسب وخسارة ، وهذا مؤقت وذاك موقت ، وهذا نسبىُّ وذاك نسبىُّ . لكن الخسارة الحقيقية هى فى الخلود فى النار ، إذ لا إمهال فيها ولا خروج منها ولا تخفيف فى عذابها ، ولا شفاعة ولا فدية ولا إعتذار . وجاء الحديث القرآنى عن الخاسرين فى الآخرة فى قوله جل وعلا :
3 / 1 : (وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً (119) النساء ). الذى يوالى الشيطان هو صاحب الخسران .
3 / 2 : ( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) ، (20) الانعام ). الخاسرون هم الذين لا يؤمنون .
3 / 3 :. ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ ) (31) الانعام). الخاسرون هم الذين بالآخرة لا يؤمنون .
3 / 4 : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) الجاثية ). بقيام الساعة يخسرون .
3 / 5 : ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) الاعراف ) ، ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) المؤمنون ). تظهر الخسارة فى وزن أعمالهم .
3 / 6 : ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) الاعراف ). فى خسارتهم يتمنون ـ بعد فوات الأوان ـ أن يرجعوا للدنيا ليعملوا عمل الفائزين .
3 / 7 : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) يونس ). عند الحشر يتذكرون حياتهم الدنيا وتعامل بعضهم مع بعض كأنها ساعة من النهار . يشعرون بمدى خسارتهم .
3 / 8 : ( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ (5) النمل )، ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ (22) هود )، ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) الكهف ). هنا تعبير ( الأَخْسَرُونَ ) و ( ِالأَخْسَرِينَ )، وهو عن المتطرفين فى الكفر ، الذين زيّن لهم الشيطان سوء عملهم فجعلوا المعصية دينا بناء على مفتريات الأحاديث الشيطانية ـ لذا يعملون الموبقات ويحسبون أنهم يحسنون صُنعا .
3 / 9 : ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) الزمر)، ( وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (45) الشورى ). الخسارة فى الآخرة تشمل الأهل . إذا كانوا معا فى النار تنقلب مودتهم الى تلاعن وتخاصم ، وتنقطع الصلة بينهم إذا كان بعضهم فى الجنة والآخرون فى الجحيم .
أخيرا
يدفع الثمن فى هذه الحياة الدنيا من يراها أخذا فقط دون عطاء . إنه ينسى قوله جل وعلا : ( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ (60) الرحمن ).
اجمالي القراءات
3641