أثر الترف فى العصر العباسى الثانى : ( أنهار الدماء وبوار الحرف )
أثر الترف فى العصر العباسى الثانى : ( أنهار الدماء وبوار الحرف )
أولا : لمحة عن الترف فى العصر العباسى الثانى
1 ـ الطبقة الوسطى هى الميزان ، إذا ازدهرت فالمجتمع فى أمان ، إذا تضاءلت وضمُرت فالهلاك قادم من الداخل أم من الخارج . الترف إذا تركّز فى أقلية تحتكر السلطة والثروة فقل على المجتمع السلام . ولهذا يرتبط الترف قرآنيا بالظلم والهلاك .
2 ـ تعاظمت ثروات العاملين فى الدولة العباسية بسبب الفساد والسلب والنهب من الفقراء . كان والد يحيي بن معين شيخ المحدثين يعمل موظفا في إدارة الخراج لدي المأمون فترك لابنه مليونا ونصف المليون درهم فإذا كانت هذه تركة موظف واحد فكيف بالآخرين ؟ . وإذا كان هذا فى عصر المأمون فكيف بالعصور التالية ؟ وكيف ببذخ الخلفاء ؟
3 ـ أنفق الخليفة المعتصم علي غلامه الافشين ألف ألف دينار وكافأه الافشين بالخيانة بعد أن أعطاه المعتصم مليون دينار أخري ، وأنفق الخليفة المتوكل مائة مليون درهم علي اثنين فقط من خدمه ، وفي عهد الواثق غضب علي بعض الموظفين فصادر منهم سنة 229 حوالي مليوني ، وكانت أم محمد بن الخليفة الواثق تنفق سنويا عشرة ملايين درهم علي جواريها وخدمها والمتصلين بها.. وكان الذهب حلية العباسيين ، وكان الخليفة المعتز ( الذي قتل في السنة التي قامت فيها ثورة الزنج) أول من جعل الذهب في سرج دوابه ، وكان له تاج من الذهب وقلنسوة من الجواهر ووشاحان مليئان بالجواهر. وبلغت ثروة أمه ( قبيحة ) ملايين من الأموال السائلة وجواهر قيمتها (2مليون دينار). الخليفة المعتمد الذي واجه ثورة الزنج كان له وراق يكتب شعره بماء الذهب.
ثانيا : الاهلاك بثورة الزنج عام 255 هجرية .
1 ـ كانت ثروة المترفين وقتها بسبب معاناة الزنوج وعرقهم .!!. كان الخليفة يعطى آلاف الأفدنة لأتباعه ، ومنها الأراضي البور في منطقة البطائح بالبصرة . ووقع علي الزنوج العبيد عبء استصلاحها، وتخصص التجار في استجلاب هؤلاء الزنوج ، حيث عملوا في استزراع الأراضي تحت ضرب السياط وسوء التغذية ، في الوقت الذي كان فيه المترفون في بغداد بجانب الخليفة يأكلون طبق ( الجام) وهو ألسنة السمك ويبلغ ثمنه أكثر من ألف درهم !!.
2 ـ وكان قائد الثورة شاعرا طموحا مدركا لما يدور في قصور الخلافة من فساد ولما يدور في أزقة الفقراء من جوع ، إنه (علي بن محمد ) الذي كان يمدح بشعره بعض المتصلين بالبلاط العباسي ، ولكن لم يجد فرصته كشاعر فأثر أن يجرب حظه كثائر ، وبدأ دعوته بتثوير الزنوج الجوعى ، وتبصيرهم بحقوقهم .
3 ـ من الممكن أن يظل المقهور راضيا بالقهر والظلم يراه قدرا لا فكاك منه ، لكن يختلف وضعه لو وجد من يعرّفه حقوقه وأن يدافع عنها وأن الموت فى سبيل حريته وكرامته أفضل . كان الأمر اكثر وضوحا فى حالة أولئك الزنوج المسخّرين فى انتاج الخير للمترفين ، كانوا يموتون بلا ثمن ، فلماذا يموتون مقابل ثمن أعظم .
4 ـ هرب الى ( على بن محمد ) عشرات الألوف من العبيد ، وقوي شأنه وهزم جيوش الخلافة واستولي علي البصرة وغيرها ، وأقام له عاصمة حصينة أسماها المختارة ، بالإضافة إلي ما بناه قواده من مدن أخري كالمنيعة والمنصورة . واستمرت ثورته أربعة عشر عاما وأربعة اشهر دمر فيها البصرة وغيرها . دخلها وأعمالها وخربها ، وسبوا النساء وأحرقوا ما وجدوه ، وذكر الصولي إن صاحب الزنج قتل من المسلمين نحو مليون ونصف المليون ، وأنه قتل في يوم واحد بالبصرة نحو ثلاثمائة ألف . وكان له منبر في مدينته يصعد عليه يسب فيه الصحابة ، وقالوا أنه كان ينادي علي المرأة الهاشمية في معسكره بدرهمين وثلاثة دراهم لمن أراد شراءها، وأنه كان عند الواحد من الزنج العشر من السبايا الهاشميات يطؤهن ويستخدمهن .. ولم تستطع الدولة العباسية القضاء علي حركته إلا بشق الأنفس..
5 ـ وبعد إخمادها عاد العباسيون إلي مسيرة الظلم واكتناز الأموال ولم يعوا الدرس فتجددت ثورة الجياع تحت اسم جديد هو حركة القرامطة وبعد أن قضى أعراب المنتفق على القرامطة لم يفهم العباسيون الدرس أيضا فكان هلاكهم على يد هولاكو . والعادة أن المترفين لا يستفيدون من دروس التاريخ..
ثالثا : الترف العباسى جعل أصحاب الحرف علماء
1 ـ كانت للمترفين حواشيهم الذين يصنعون لهم الفاخر من الثياب والأثاث والرياش والجواهر والحُلُىّ . اختلف الوضع خارج دائرة المترفين . تركز الثروة فى يد فئة قليلة جعل الطبقة الوسطى هشّة واهنة ، وأوسع من دائرة الفقر وأفقر الفقراء . الطبقة الوسطى يتعيّش منها أرباب الحرف ، فإذا تضاءلت ضاع معها أصحاب الحرف وتضاءل عددهم ، وبحثوا عن سبيل آخر للارتزاق . وكان المتاح فى العصر العباسى الثانى هو الانخراط فى الارتزاق بالعلم ، فقد كان السبيل للشهرة بين الناس ، كما كان الحُلم بالوصول الى أهل السلطان .
2 ـ أى أصبح أغلب الطبقة الوسطى فقراء ، وأصبح الفقراء أشد فقرا . هذا ألحق ضررا شديدا بالحرف القائمة على صناعة وتجارة الملابس وما يتصل بهما ،إذ أن الفقراء ، اكتفوا بالثوب الوحيد والأسمال البالية وانشغلوا بتوفير الطعام اليومي ، وبالتالي انتشرت البطالة بين البزازين أى القماشين ، والخزازين أى أصحاب الحرير ، والانماطيين أى صناع الفراش والسجاجيد ، والصفارين أى أصحاب المصابغ ، والكتانيين أى أصحاب الكتان ، والنساجين أى أصحاب النسيج ، والخفافين أى صناع وتجار الخفاف والأحذية ، والمطرزين أى القائمين بالتطريز والديباجيين أى العاملين بتجهيز الحرير ، ومثلهم الطيالسة والخياطون والخواتمية صناع الخواتم والوشاءون أى فنانو الزخارف على الملابس .. الخ .
ولذلك انخرط أولئك فى تيار العلم .
3 ـ والدليل على أن انخراط أولئك الحرفيين فى سلك العلم كان ظاهرة عامة أنهم حملوا لقبهم الحرفي أو لقب حرفتهم وصاروا ينسبون إليه ، وبعد أن كان النسب للقبيلة مثل شريك النخعى أو الكميت الأسدى ، أو للموطن مثل الكوفي والبغدادي والنيسابورى والبخارى ، أضيف اللقب الحرفي فأصبح يقال البزاز والصيرفي والسراج والجصاص .
ونعود إلى العلماء الذين كانوا يعملون بالمهن الخاصة بالكساء والزى فهجروها وحملوا اللقب الحرفي معهم فأصبحوا يعرفون به ، ونأخذ أمثلة لأولئك الذين عاشوا أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع .
ومن البزازين " القماشين " الذين سلكوا سبل العلم : العباس بن محمد البزاز " ت 283 " ،عبد الله بن عبد الواحد البزاز " ت 285 " ، جعفر بن محمد البزاز ت "290" ، جعفر بن محمد البزاز "ت299 " ، محمد بن أحمد البزاز " ت 297 " ، عبد الله بن محمد البزاز " ت 293 " ، إسحاق بن عبد الله البزاز ت" 307 " ، محمد بن جعفر البزاز " ت314 " ، أيوب بن يوسف البزاز " ت315 " عثمان بن سهل البزاز " 313 ".
ومن البزازين الذين انخرطوا فى التصوف : أبو حمزة البغدادي البزاز " ت 289 ".
ومن العلماء الذين كانوا خزازين ، أى عملوا فى الخز أو الحرير ، كان الحسن بن محمد الخزاز " ن 297 " ، محمد بن إبراهيم الخزاز " ت 297 ".
ومن الصوفية كان الجنيد شيخ الصوفية ، وقد عمل بالخز ثم بصناعة القوارير أو الأكواب فحمل اللقبين معا " الخزازى والقواريرى " وتوفى 298 .
ومن العلماء الذين عملوا بصناعة الفراش والسجاد أى الأنماط كان إسحاق بن إبراهيم الأنماطى " ت 302 " ، محمد بن الحسين الأنماطى " ت 290 " ومن الذين عملوا بالصباغة أو كانوا من الصفارين محمد بن إسحاق الصفار " ت 294 " ، والحسن بن سعيد الصفار " ت 292" وعبد الله بن الحسين الصفار "ت307 " ومن أصحاب الكتان كان الصوفي أبو بكر الكتاني " ت 322" ومن أصحاب النسيج كان الصوفي " خير النساج " وهو من أصحاب أبى حمزة البغدادي البزاز ، هذا بالإضافة إلى الحسن بن محمد الوشاء " ت 308" ومحمد بن أحمد الكسائى " ت 288" ومحمد بن جعفر الديباجى " ت 316 " ، وعبد الله بن العباس الطيالسى "ت 308 " ومحمد بن حماد الدباغ " ت 285 " والحسن بن بشار الخياط " ت 286 " ،وأحمد بن نصر الخفاف " ت 299" ، وذكريا بن داود الخفاف "ت 286" ، وكان من الصوفية أبو سعيد الخراز ، نسبة للخرز الذي يلون الملابس ، وتوفى سنة 277 وهو من أشهر الأشياخ الصوفية ، وعبد الله بن محمد الخراز الذي توفى حوالي 310 ، وأحمد بن محمد الحريري " ت 311"، ومحمد بن الحسن الخواتمى " ت 303" .
وقد أثر الفقر على اندثار الطعام لدى الفقراء فاضطر الحرفيون فى ذلك المجال لاحتراف العلم وكان منهم إسحاق بن مروان الدهان " ت 287" وعبد السلام بن سهل السكري " ت 298" ومحمد بن الحسن المطبخى " ت 315 " ومحمد بن إسماعيل التمار " ت290" ومحمد بن غالب التمار " ت 283" وتأثرت صناعة الخل ، فانخرط أبناؤها فى العلم وكان منهم أحمد بن محمد الخلال " ت 311" ومحمد بن بنان الخلال" ت 310 " وإسماعيل بن شميل الخلال " ت 287 " .
وهناك حرف أخرى تأثرت مثل الصيدلة ، فتركها جعفر بن محمد الصيدلاني " ت 317" وصار من طلبة العلم ، ومثله محمد بن جعفر العطار " ت316 " ، وترك مهنة الصيرفة كثيرون وأصبحوا من طلبة العلم : إبراهيم بن داود الصيرفي " ت 298 " ومحمد بن إسحاق الصيرفي "ت 316 " ومحمد بن بشر الصيرفي " ت 288" وعبيد الله بن عبد الله الصيرفي " ت 312" وتأثرت بذلك الحرف الخاصة بتزيين المنازل ، مثل التجصيص ، أو دهان البيوت بالجص ، لذا تركها عبد الله بن أحمد الجصاص " ت 315 " وانخرط فى العلم ومثله الحسن الجصاص "ت 315 " وبدر بن عبد الله الجصاص " ت 285 " .
ومثل الجصاص كان السراج ، وهو الذي يعمل فى صناعة وتجارة المصابيح ، وفى هذه الفترة حمل كثير من العلماء لقب السراج ، مثل الحسين بن أحمد السراج " ت 290 " وإسماعيل بن إسحاق السراج " ت 286" وإبراهيم بن اسحق السراج " ت 283" . ومحمد بن اسحق السراج "ت 313" ومحمد بن إبراهيم السراج " ت 305 " وأحمد بن محمد السراج " ت 310 " ومحمد بن السري السراج " ت 316 " .
أما الصوفية فكانوا من شتى الحرف كان منهم الحمال " بنان الحمال ت 316 " والخواص " إبراهيم أحمد الخواص ت 291" والحلاق " أبو الحسن المزين ت 328 " والحلاج أى الذي يحلج القطن ، مثل الحلاج الصوفي المشهور المقتول سنة 309 والزجاج نسبة لصناعة الزجاج ومنهم ( محمد بن إبراهيم الزجاجي )" ت 348 " . وأشهرهم ( إبراهيم بن السري بن سهل ) المشهور بأبي إسحاق الزجاج ، أشهر عالم فى اللغة والأدب فى تلك الفترة وهو الذي مات سنة 311 عن سبعين عاما .
أخيرا
من أجلك أيها القارءى العزيز تعبنا كثيرا فى تتبع هذه الأسماء وتواريخ وفاتها بين سطور التاريخ . فالتاريخ يكرر نفسه . أليس كذلك ؟ هو كذلك .!!
اجمالي القراءات
3511