جريمة نيوزيلندا..ثقب في الوعي الإنساني
هناك الكثير من النقاش والجدل حول عملية أمس الإرهابية ، حين قام مسلح بقتل عشرات المصلين في مسجد بنيوزيلندا، كلهم متفقين على استنكار الجريمة ولكن اختلفوا حول المسمى هل هي عملية إرهابية أم جريمة عنف وكراهية؟
بغض النظر عن المسمّى الذي يتضح من تفاصيله أن القاتل ارتكب جريمته بناءً على هوية الضحايا، مسجد وصلاه..إذن هذه جريمة طائفية، لكن الجدل طال دوافع الجاني الذي انقسم البعض حول دوافع جريمته بعض كتاباته على السلاح مؤرخا عليه معارك حدثت في الماضي بين الأمويين والعباسيين ضد البيزنطيين وبين العثمانيين ضد ممالك أوروبا، وعليه تُثار الأسئلة: ما ذنب ضحايا نيوزيلندا في معارك حدثت قبل 1000 عام؟..ما ذنبهم في خطايا العثمانيين والأمويين التي ننتقدها داخل الفكر الإسلامي؟ لو سألت هؤلاء الضحايا فلن يعرفوا شيئا عن تلك المعارك، هم اختاروا التدين كونه يمثل لديهم حقيقة أخلاقية صادقة، عامل مساعد على الخير..قصة الجهاد والشريعة هذه بحاجة لجماعات تكفيرية ودعوات مدعومة من السلطة.
مصر في الثمانينات والتسعينات كانت مؤهلة لقيام خلافة داعشية لقوة السلفية فكريا وإعلاميا ونخبويا، لكن الخلافة تعطلت بملاحقة الدولة للإسلاميين، وظلت معطلة إلى أن دعمتهم للجهاد في سوريا ..وكلنا رأينا على شاشات مصر دعوات مذيعين مصريين للجهاد ضد بشار الأسد، وإعلان وزراء خارجية مصر" كامل عمرو ونبيل فهمي" دعمهم للثورة السورية، حقبة إرهاب الثمانينات والتسعينات لم تكن لولا دعم السادات للجماعات، فالإرهابي الذي قتل ضحايا نيوزيلندا لو فكّر بهذه الطريقة لأطلق رصاصه على أوباما وهيلاري كلينتون الذين أيقظوا (الوحش السلفي) من قمقمه ودعوه للقتل في سوريا بحجة دكتاتورية الأسد..أو دعا حكومته عقاب لحكام الخليج الذين أرسلوا السلاح للدواعش ووصفوهم بالأبطال وأحرار السنة.
لو فكر جيدا لأطلق رصاصه على متشددي اليهود الذين سبقوه في مجزرة الحرم الإبراهيمي سنة 95 ليوقظ وحشا سلفيا فلسطينيا ما زال ينتفع من باروخ جولدشتاين حتى بعد موته ضربا بالأحذية، لم يكن للجماعات أي عذر أو قوة للانتشار لولا جرائم الصهاينة الدينية بدءاً من التطهير العرقي في حق الفلسطينيين خلال حقبة إنشاء دولة إسرائيل مرورا بحرق المسجد الأقصى ومجزرة الحرم الإبراهيمي، وأخيرا وليس آخرا إعلان نتنياهو دولته حق حصري لليهود ونزع أي حقوق للعرب والمسلمين والمسيحيين والدروز من دولته.
صحيح لكل فعل رد فعل..ودائرة الانتقام لا تنتهي، لكن العاقل يجب أن يكون رحيما، ما ذنب فلاح فقير في صراعات الأديان؟..ما ذنب جاهل بسيط في معارك وتواريخ لا يعرفها؟ ..ما ذنب المُصلّين في محاريبهم باليمين واليسار؟..وما ذنب الأطفال أيضا؟..لا يوجد شئ يمكن قوله سوى أن القاتل – ومؤيديه – عار على البشرية وأقرب للحيوانات في فهمهم للأديان والإنسان، فليس من الجيد ترك هؤلاء بلا رقيب ولا حسيب وقد دعوت في سلسلة مقالاتي الأخيرة "المتحولون عن التنوير" بالتصدي لهؤلاء متنبئا بظهور داعش بلباس علماني أو تنويري ضد التطرف الإسلامي.
وطالما ينشط مثقفو المسيحية ضد التطرف الإسلامي فيلزم ضبط مصطلحاتهم لعدم التعميم، والتركيز فقط على مقاومة الفكر المتشدد أيا كان مصدره، والاعتراف بأن الإرهاب والضلال طال أديانهم أيضا ليس فقط الإسلام، إنما هذه بحاجة لإنكار ذات وسعة أفق وذكاء اجتماعي لا كما يفعلوه الآن بتصوير المعركة الحالية على أنها مواجهة بين المسلمين وبين العالم، وكلنا يعلم ما حدث في محاكم التفتيش والقرون الوسطى الأوروبية، إن داعش بالنسبة لهم تكاد تصبح قِطّا وديعا إذا عرفنا أن تلك الحروب الأهلية المسيحية أفنت ربع سكان أوروبا..وغزوات الصليبيين على أراضي العرب والمسلمين أفنت ملايين بغطاء المسيح وأمه..
ليست مواجهة بين الأديان في الحقيقة بل بين أغبياء صادروا حق الاختلاف عن غيرهم منذ البداية، فكل قرار أو فتوى أو تغريدة أو منشور يدعو للكراهية والازدراء لمجرد الرأي هو الآن يمثل جريمة، كل جُملة تدعو للإقصاء بمجرد الانتماء قد تُصبح رصاصة في المستقبل، على الأقل لضبط الأوضاع وإعادة بوصلة السلام والتعايش بعد تهديدها من قِبَل الأغبياء، ومن يُصوّر أن المسلم مجرد قنبلة أينما كان..وهو يعلم أن 99% من ضحايا الإرهاب الآن مسلمون..
هل تتذكرون مجزرة مسجد الروضة في سيناء؟ داعشي مسك سلاح ودخل مسجد الروضة شمال سيناء وقتل 300 مصلي أثناء صلاة الجمعة، وفي مسجد الحشوش بصنعاء داعشي فجّر نفسه في الجامع أثناء صلاة الجمعة وقتل 120 مصلي بدعوى أنهم حوثيين كفار..!..نفس الشئ في مجازر مساجد الكويت والأحساء وباكستان وأفغانستان، دواعش قتلوا المئات من المصلين بدعوى انهم روافض مشركين عملاء لإيران والفرس..!..إذن نحن أمام تفسير للإسلام جديد وغريب عن الضحايا الذين في معظمهم لا يفهمون لماذا قُتِلوا، ونعيد منطق البراءة في أزهى صوره..بأي ذنب قُتِلَت.
القاسم المشترك بين كل هذه الجرائم أن الإرهابي يختار مكانه بعناية حين يتجمع أكبر عدد من الناس لإيقاع أكبر عدد من الضحايا، فالهدف ليس مجرد قتل ولكن تصفية وإبادة جماعية، خسف بقيمة وروح الإنسان المقدسة، ولو فتشت في الجذور تجدها السياسة الملعونة وصراعات الحُكم التي تجبر الرؤساء باللجوء للكهنة ورجال الدين لحمايتهم، ثم إهمال التعليم ليدوم سلطانهم، فالشعب المتعلم خطر عليهم ، أصبح المطلوب أن يظل الشعب أميا لا يفهم ولا يقرأ ما يدور حوله، ذلك هو الهدف الأسمى (كرسي السلطة) وتسقط كل الاعتبارات والقيم والأرواح التي تقف ضده.
الإيمان ليس معناه الغباء والإرهاب، والإلحاد ليس معناه الذكاء والنبوغ، هذه اختيارات شخصية، بالضبط كما أن الحجاب لا يعني الانغلاق وكشف الشعر لا يعني التنوير، كما أن الإسلام لا يعني الغزو والحرب والمسيحية لا تعني الوداعة..تصورك لهذه المقابلات هو ما يحكم تصورك لأي جريمة إرهابية، فلو كنت من أهل الشكل والظاهر سيخرج تحليلك سطحيا على رأي الدهماء، ولو من أهل الدقة والعمق سيخرج تحليلك أقرب للواقع والتنبؤ السليم..كأنك تنظر في مرآة الزمن..
أعتقد أن إرادة الحكومات كافية لإقامة مجتمع ديمقراطي مسالم، فما نراه الآن هو نتائج مركبة من الاستبداد والجهل ، وبرغم أن المعارضين ضعفاء على ما يبدو لكن لصدق كلمتهم والعُمق الذي يتصفون به أصبح لندائهم صدى في الوعي الإنساني المعاصر، فمصطلح الحرب على الإرهاب ليس وليد جورج بوش وسبتمبر بل هو خصيصة ثقافية لمفكري المسلمين منذ السبعينات، لكن الفارق أن بوش اكتفى بحربه أمنيا والضغط على بعض الحكومات لفتح منافذ ديمقراطية لاحتواء الإسلاميين، لكن المثقفين طالبوا بكل ذلك ولكن ليس قبل اعتماد خطة فكرية للقضاء على الإرهاب بأسلوبه.
أي لو كان الإرهابي يعتمد في خطته على كتب التراث فمن كتب التراث نفسها ما يهدم خطته، منطق لا يفل الحديد إلا الحديد..وهي مهمة يُحسنها بعض المثقفين الآن وتوسعت بعد فشل الإخوان في حُكم مصر عام 2013، واستعادوا روح الاعتزال والعقلانية والاستشراق في نقد الجماعات التي تطالب بالعودة إلى الماضي، وهو نفس الدافع الذي حرّك مجرم نيوزيلندا..الماضي، إذن فالمطلوب أن يصطلح هؤلاء مع ماضيهم أولا بالاعتذار عن جرائمه وتفسيرات الأديان الخاطئة التي حملتهم على ما هم فيه من جريمة وبغي.
اجمالي القراءات
3805