آحمد صبحي منصور Ýí 2019-03-08
بعض المنشور فى جريدةالخليج ( 4 ): المراحل التاريخية للفكر في حضارة المسلمين
قراءة في تراثنا الفكري. بتاريخ 16/3/1993
( موضوع لم يسبق نشره )
مقدمة :
1 ـ مصادر التراث التي تشكل عقائد الأغلبية منّا نبتت في مراحل تاريخية معينة ومختلفة ، ولكي نصل إلى التقييم المناسب لأي مصدر تراثي علينا أن نتعرف على البيئة التي نبت فيها وعلى المرحلة التاريخية التي أنجبت ذلك المصدر . وهناك مراحل تاريخية للفكر في حضارة المسلمين العربية. ونحن الآن نعيش المرحلة الرابعة .. فما هي المراحل السابقة وعلى أي أساس تنقسم تلك المراحل ؟ .. وماهي السمات التي تتصف بها كل مرحلة ؟..
3 ـ في البداية نقول إن الحياة الفكرية للمسلمين هي نتاج لتراثهم القومي قبل الإسلام مضافا إليه بعض ما فهموه من القرآن وما تأثروا به من تفاعلات سياسية واجتماعية . وتلك الظروف أدت إلى تدرج الحياة الفكرية للمسلمين من بداية بسيطة إلى انتشار وازدهار ثم إلى تراجعه إلى تقليد وجمود إلى أن نهض المسلمون في العصر الحديث في عصر الصحوة والبحث عن الهوية. ونتوقف فى لمحة عن المراحل التاريخية للفكر فى حضارة المسلمين :
أولا : المرحلة الأولى للفكر عند المسلمين ( مرحلة النشأة ): من الفتوحات الى ما قبل العصر العباسى
1 ـ بدأت بحركة علمية دينية شفوية بسيطة وقادها بعض الصحابة مثل عمر وعلى وابن مسعود وسلمان وابن عمر وابن عمرو وابن عباس ثم تبعهم التابعون وتابعوهم ،، طبقا للمنسوب اليهم من روايات تمت كتابتها بأثر رجعى فى العصر العباسى. وأكثر العلماء كانوا من الموالى، من ذرية ابناء الأمم المفتوحة ، ونبغ منهم الحسن البصري وابن سيرين في البصرة وسليمان بن يسار ونافع وربيعة الرأي في المدينة ، ومجاهد وعكرمة وعطاء في مكة وسعيد بن جبير في الكوفة ومكحول في الشام ويزيد بن حبيب في مصر.
2 ـ وبدأت الحياة الفكرية في هذه المرحلة بسيطة ، تدور في المسجد حيث يتجمع الناس حول الصحابي أو التابعي فيما يشبه الندوة ، ويدور الحديث حول آية أو سيرة النبي أو ما ينسب إليه من أقوال ولا بأس بأن يتشعب الحديث إلى القصص والأشعار والحكم المأثورة . وبهذا بدأ دور القُصّاص ، وكان منهم موظفون يتبعون الدولة ، وكان منهم متطوعون . ومن الطبيعي أن تكون الرواية الشفهية هي السائدة ، وساعد عليها أن ملكة العرب في الحفظ كانت لم تفقد قوتها بعد ، وكان العصر قريبا إلى البداوة والفطرة ، وذلك لا يمنع من وجود محاولات فردية للتدوين.
3 ـ ومع أن هذه المرحلة لم تعرف التخصص بمعناه العلمي الدقيق إلا أن الظروف السياسية والاجتماعية أدت إلى وجود بعض أنواع التميز ، أو إلى نشوء بعض المدارس الفكرية البسيطة ، والدليل على ذلك أن التنافس التقليدي بين مدرستي المدينة والعراق بدأ في تلك المرحلة ، فالمدينة بعد أن انحسرت عنها أضواء السياسة في العصر الأموي استعاضت عنها بتأكيد هويتها العلمية فتخصصت في مغازي النبي عليه السلام وأحاديثه وأصبحت مشدودة للماضي الذي يمثل عظمتها . بينما انشغلت العواصم في الشام والعراق ومصر بأحداث الساعة ومجريات العصر وكانت أقرب للمعاصرة والاجتهاد العقلي ، خصوصا في العراق ، ولذلك اتسعت مجالسها لعلوم جديدة من نوعية الأفكار التي كانت سائدة قبل الفتح مثل الفلسفة وتوابعها .
4 ـ وتلك الحواضر في الشام والعراق ومصر هي التي برزت في المرحلة الثانية للفكر ، مرحلة الازدهار والانتشار . وفيها توارت ( المدينة ) علميا ، وإحتل مكانها العواصم فى البلاد المفتوحة .
ثانيا : المرحلة الثانية (الازدهار والانتشار ) فى العصر العباسى الأول :
ونعرض لها بإيجاز من خلال محورين :
المحور الأول : الفوارق بين الأمويين والعباسي :
1 ـ صاحبت الدولة العباسية في عصرها المزدهر . ويمثل هذا فارقا بين الأمويين والعباسيين . ليس فقط فى قصر عمر الدولة الأموية وطول عمر الدولة العباسية ، ولكن هناك عوامل أخرى :
2 ـ كان الأمويون عربا في المقام الأول ، وانشغالهم بالفتوحات في الخارج ومواجهة الثورات في الداخل لم يتح لهم الفرصة لرعاية الحركة الفكرية الناشئة ، ثم إن ثقافتهم البدوية لم تسمح لهم بأكثر من تذوق الشعر وإيثار الفصاحة في الكلام . أما العباسيون فقد جاءوا بنمط مختلف من التفكير والإدارة انعكس على الحياة الفكرية ازدهارا وانتشارا .
3 ـ كان الأمويون يتعصبون ضد الموالي ، فجاء العباسيون للحكم بمساعدة الموالي فأتيح للموالي أن يصبغوا العصر بصبغتهم الثقافية التي تطرفت أحيانا إلى صورة الشعوبية أى التعصب ضد العرب .
4 ـ وأصبح العراق مركز الخلافة الجديدة فإتجهت الخلافة العباسية نحو الشرق الآسيوى الى درجة إنحسار نفوذها بالتدريج عن الغرب فى الاندلس وشمال أفريقيا ، وقد كان الشرق ( العراق والشام ومصر ) من قبل موطن الثقافات المختلفة ومركز التلقيح بين الثقافة الفارسية والثقافة الإغريقية ، ولذلك ازدهرت حركة الترجمة وتم نقل عيون الفكر الفلسفي اليوناني والشرقي ، والفلسفة كانت تعني كل العلوم من طب وهندسة وحكمة ورياضيات وعقائد وإلهيات .
5 ـ ولأن الموالي هم قادة هذه المرحلة فقد أصبحت أكثر تعبيرا عنهم وعن الحواضر الجديدة في العراق والشام وفارس ، وبالتالي اضمحلت مدرسة المدينة بعد الإمام مالك، وهجرها تلاميذها إلي العراق والرافدين والنيل ، حتى لقد شاعت فى المدينة فى العصر العباسى المبكر أحاديث تهاجم من يترك المدينة مهاجرا الى الحواضر ، وتعطى المدينة قدسية وحرما مثل الحرم المكى . تركز العلم والعلماء بعيدا عن الصحراء العربية وفى بيئات نهرية تتعقد فيها الحياة وتتعدد فيها الأجناس والملل والنحل والثقافات أدى ذلك إلى تنوع في الآراء والمذاهب .
6 ـ وهكذا اختلفت ظروف المرحلة الأولى عن المرحلة الثانية .
6 / 1 : كانت المرحلة الأولي بسيطة تعتمد علي الرواية الشفهية وأقرب ما تكون إلى الطابع الدينى والبدوي ، فأصبحت المرحلة الثانية من الفكر معقدة متنوعة من الدين الى الفلسفة والعلوم الطبيعية والفلك والطب والهندسة والرياضيات ..الخ ، وتعتمد على التدوين وصارت أكثر تعبيرا عن الشعوب الداخلة في الإسلام وعن ثقافاتهم القومية وتفاعلاتها مع الثقافة الأخرى بالحوار والرفض ومحاولات التوفيق والجدال والتطرف والاعتدال والتأثر والتأثير .. ومن الطبيعي أن ينتج عن ذلك كله انقسامات فكرية ودينية ومذهبية.
6 / 2 : في المرحلة الأولى كانت الخلافات سياسية في المقام الأول ، وكانت تدور حول الخلافة والحكم ، ولم يتطرق ذلك كثيرا إلى تدعيمها بالبراهين الدينية والفكرية . أما في المرحلة الثانية فقد أضفى على الخلافات السياسية السابقة مسحة ايدلوجية من الفكر والدين ، فتحولت الأحزاب السياسية إلى تأييد مشروعها السياسي بأفكار دينية وفلسفية . صحيح أن الخوارج والمرجئة اندثرت طوائفهما تقريبا في تلك المرحلة إلا أن تأثيراتهما الفكرية ظلت قائمة ، وجرى تعضيدهما دينيا وايدلوجيا حتى بعد خفوتهما سياسيا .
6 / 3 : وأنتج العصر العباسي الأول طوائف سياسية جديدة بين الموالي والشيعة أسهمت في زيادة حدة الجدال الثقافي والمذهبي .
6 / 4 : ، ثم انغمس المسلمون في الجدال الفلسفي مع أهل الكتاب والمدارس الفلسفية في العراق والشام أوقعهم في حب الفلسفة والتأثر بها فتكونت فرقة فلسفية تتحدث في المواضيع الفلسفية وتعطيه اسما جديدا هو " علم الكلام" ، وتلك الفرق الكلامية عن الأشاعرة والمعتزلة والجهمية انغمست في السياسة بصورة أو بأخرى ، خصوصا فى موضوعات (القضاء والقدر والجبرية ، وهل أفعال الحاكم منه أم هى قضاء وقدر لا مفرّ منه. ) ، وأدى هذا إلى تنوع في الحياة الفكرية أساسا ، وإلى التأثير في الحياة السياسية أحيانا ، بمثل ما حدث من سيطرة المعتزلة على الخلافة العباسية منذ عصر المأمون في مسالة خلق القرآن واضطهاد ابن حنبل ورفاقه على أن انتصر الحنابلة عليهم في عصر المتوكل وما تلاه .
7 ـ وذلك يقودنا إلى دور الخلفاء في توجيه الحركة الفكرية ..
7 / 1 : في المرحلة الأولي لم يتدخل الأمويون في الحركة الفكرية إلا بالقدر الذي تمليه عليهم السياسة ، كان الحسن البصري ينتقد الأمويين في مجالسه وهو يعيش إلى جانب الحجاج بن يوسف ، ولكن إذا وصل المفكر إلى إحداث ثورة أو التهديد بها بادر الأمويون باستئصاله بكل قسوة كما فعلوا مع معبد الجهني وغيلان الدمشقي وسعيد بن جبير . وفيما عدا ذلك لم تتدخل الدولة الأموية في رعاية الحركة الفكرية والتأثير فيها بشكل ملحوظ ..
7 / 2 : أما الدولة العباسية في مرحلة الإزدهار للفكر فقد جاءت بوضع جديد . فالخليفة العباسي أصبح له كهنوت ديني باعتباره هاشميا بدأت الدعوة إليه بالرضي من آل محمد ، ثم ما لبث أن أُضيف الى لقبه ما ينسبه الى الله تعالى ( المتوكل على الله ..مثلا ) وأضيفت إليه المظاهر الكسروية الفارسية في البلاط والدواوين والمظاهر . ثم امتد حكم الخلفاء بعد فترة التوطيد ووجد الخليفة له وقتا يتسلى بالشعر والعلم،وأصبحت الظروف الجغرافية والسياسية والدينية تفرض عليه أن يزين مجالسه بالعلماء خصوصا وهم الذين يعملون في وظائف الخلافة الدينية ( كالقضاء ) والديوانية ( كالوزارة والخراج ). لذلك انغمست الخلافة العباسية في الحياة الفكرية بالقدر الذي تحتاجه وجاهتها وأحيانا بالقدر الذي يهواه الخليفة نفسه ( كالمأمون الذي كان يهوى الفلسفة والجدال العلمي فتأثرت سياسته بذلك الاتجاه ..) وأحيانا بالشيئين معا . ولذلك فإن الخليفة العباسي بما لديه من نفوذ ديني كان يستخدم سلطته السياسية في تدعيم توجهه الثقافي والفكري ، وكان يضطهد مخالفيه في الرأي على ذلك الأساس ، والمأمون الذي كان مشهورا بالحلم وسعة الأفق لم يتحمل أن يخالفه ابن حنبل في موضوع خلق القرآن .
المحور الثانى : الاختلاف والانقسامات :
هذا شرحه يطول ، لأننا نتكلم عن حياة فكرية مزدهرة ومتشعبة ومتسعة مكانا وزمانا . ونقتصر الكلام هنا مختصرا على :
1 ـ الاختلاف من حيث الانتماء السياسى :
1 / 1 :هناك علوم تأثرت بالسياسة طمعا فى الوصول للحكم أو تأييدا للسلطان القائم ، وهى ما يمكن أن نطلق عليه العلوم ( الانسانية ) من علوم دينية وعقلية ، وهنا تتفرع الخلافات الى تشيع وسُنّة ثم تصوف بالاضافة الى سائر الطوائف ، وتقسيمات اخرى داخلها.
1 / 2 : وهناك علوم لا شأن لها بالسياسة ، وهى العلوم الطبيعية من الفلك والطب والرياضات والهندسة والكيمياء والميكانيكا ( علم الحركة )..الخ .
2 ـ الاختلاف من حيث المرجعية الدينية :
2 / 1 : ليست للعلوم الطبيعية فى فترة الازدهار هذه مرجعية دينية . بدأت بترجمة علوم اليونان وغيرهم ثم أضافت عليها ، بل وخالفتها فى موضوع التجربة المعملية ، وبرز فى هذا الرازى الطبيب وجابر بن حيان والبيرونى ، وقد ذكر المسعودى فى تاريخه أن عصر الخليفة الواثق شهد طفرة فى الاتجاه التجريبى للعلوم .
2 / 2 : كانت المرجعية الدينية بدرجات متفاوتة من نصيب العلوم الأخرى . وتفصيلها كالآتى :
2 / 2 / 1 : فى موضوع العقائد والملل والنحل والتشريعات نرى إتجاهين :
2 / 2 / 1 / 1 : المعتزلة : وهم يقولون برأيهم العقلى أساسا ، وقد ينظرون من خلاله الى ما يوافقه من القرآن ، وفى كل الأحوال هم ينسبون رأيهم الى أنفسهم ، ولا يجعلونه دينا ، بل هو رأى بشرى .
2 / 2 / 1 / 2 : غير المعتزلة : وهم ينسبون أراءهم الى النبى عبر إسناد بأثر رجعى يقول ( أخبرنا فلان عن فلان ) ( حدثنا فلان عن فلان ). وبالتالى لا ينسبون آراءهم لأنفسهم بل للنبى ويجعلونه وحيا ودينا تحت مسمى الحديث النبوى أو الحديث القدسى . وهم أنواع :
2 / 2 / 1 / 2 / 1 : المتكلمون فى العقائد من أهل السّنّة ، مثل الأشاعرة والماترودية ومن غير السنيين ، وهم طوائف كثيرة.
2 / 2 / 1 / 2 / 2 : فقهاء التشريع. وهم يصدرون أحكاما فقهية يجعلون بعضها أحاديث منسوبة للنبى فتصبح دينا ووحيا عند من يصدقها ويعتقدها .
2 / 2 / 1 / 2 / 3 : أئمة الطوائف السنية والشيعية والصوفية . وهذا فى الخلافات البينية بينهم .
2 / 3 : إختلفت المرجعيات الدينية ، فالسنيون ينسبون آراءهم الى النبى والصحابة عبر الاسناد . والشيعة ينسبون آراءهم الى (على ) وآل البيت وأئمتهم الذين يعتبرونهم معصومين متمتعين بالوحى . والصوفية يزعمون الوحى الالهى المباشر عن طريق العلم اللدنى ، وومن أنواعه : الهاتف والمنام . والمنامات عندهم نوعان : رؤية النبى محمد ورؤية الله تعالى.
3 ـ وتشعبت الخلافات على كل المستويات :
3 / 1 ـ فى الملل والنحل وصل التشعب الى أقصاه داخل كل طائفة ، وقراءة سريعة الى كتب الملل والنحل تؤكد هذا من أبى الحسن الأشعرى ( مقالات الاسلاميين وإختلاف المصليين ) الى إبن حزم ( الملل والنحل ) والشهرستانى ( الملل والنحل ) و قبلهم الملطى فى ( التنبيه والرّد )
3 / 2 ـ فى الحديث توسع الاختلاف من أول كتاب ( موطأ مالك ) الى منتصف العصر العباسى . كانت أحاديث موطأ مالك فى حدود الألف فجاء البخارى يستخلص ثلاثة آلاف حديث في صحيحه من بين (600) ألف حديث منتشرة فى وقته ، ويأتي تلميذه مسلم بصحيح آخر يتفق معه أحيانا ويختلف معه أحيانا أخرى ،ويأتي الحاكم في (المستدرك) يستدرك عليهما، ويأتي ابن حنبل في المسند بأحاديث يجمعها وفق منهج مختلف . بالاضافة الى الاختلافات فى الحديث هناك إختلافات فى تقييم الرواة أو ( الجرح والتعديل ) بل تصل الخلافات ليس فقط بين كتاب وآخر بل فى داخل الكتاب الواحد. وكلها أحاديث منسوبة للنبى وللصحابة.
3 / 3 : بالاضافة الاختلافات بين الفقه الشيعى والفقه السنى فقد تشعب الفقه السنى الى مذاهب أربعة أحناف ومالكية وشافعية وحنابلة ، ثم خلافات داخل كل مذهب . ومن يقرأ موسوعة ( الفقه على المذاهب الأربعة ) يندهش من إختلافاتهم حول كل شىء .
3 / 4 : وحتى فى (علم النحو ) جدّت فيه الخلافات. بدأ علم النحو بالخليل بن أحمد الفراهيدى ثم ( سيبويه ) فى كتابه المشهور ( الكتاب ) ثم ما لبث أن إنقسم النحويون الى مدرستى الكوفة البصرة ، وأدت السياسة العباسية الى تعميق الخلاف بين المدرستين خصوصا فى موضوعات الشواذ فى اللغة .
4 ـ ومع هذا ، فقد شهد هذا العصر قمة الازدهار في الحياة الفكرية للمسلمين ، بدليل أننا حتى الآن لا نزال عالة على أئمة الفكر في تلك المرحلة ، ولا نزال حتى الآن تابعين للمذاهب الأربعة في الفقه وتابعين لاجتهادات علماء الحديث واللغة والنحو .. وذلك لأن المرحلة الثالثة من مراحل الفكر عند المسلمين عرفت التوقف والتقليد والجمود والتأخر .
ثالثا : المرحلة الثالثة ( مرحلة التقليد والجمود ) :
1 ـ أصاب المسلمين فيها الوهن : في السياسة ضعف الخلفاء العباسيون وسيطر عليهم الوافدون من المشرق ( من البويهيين والسلاجقة ) الى أن دمّر المغول بغداد ، وانقسم المسلمون إلى دول وخلافات ( خليفة عباسي وآخر فاطمي وثالث أندلسي). واحتل الصليبيون جزءا هاما من بلادنا واستنزفوا مع المغول طاقة المسلمين في حروب ومذابح ، مما أدى إلى ضعف الحكام وشقاقهم ، وأدى ذلك كله إلى أن يستريح المسلمون إلى تيار التصوف وما يعنيه من خمول عقلي وذهني ورواج للخرافات والمنامات . وهكذا راجت الدعوة للتقليد تحت شعار الغزالى القائل : " ليس في الإمكان أبدع مما كان " وأصبح المجتهد في ذك العصر مجتهدا في إطار مذهب فقهي أو نحوي .. وأصبح المجتهد الذي يخرج عن تقليد العصر منبوذا من العصر نفسه مثلما حدث مع ابن تيمية في القرن الثامن ، يقول عنه المؤرخ ابن الوردي " أعان أعداءه على نفسه بدخوله في مسائل كبار لا يتحملها عقول أبنائنا وزماننا "!!.
2 ـ واصبح الأخذ عن السابقين هو القاعدة ، خصوصا بعد تدمير بغداد ومكتبتها وهجرة العلماء للقاهرة المملوكية التى أصبحت عاصمة للخلافة العباسية، وفى مصر المملوكية جرى نسخ كل الكتب التى صيغت فى العصر العباسى ، وإنصرفت همة المؤلفين الى تلخيص ما كتبه الأئمة ، ثم تشرح التلخيص ، ثم تحول التلخيص إلى متن ، ثم تشرح المتن ، وهكذا دارت تلك المرحلة بين الشرح والتلخيص وحفظ المتون إلى أن استيقظ المسلمون على المستعمر الأوربي فهب شيوخ الأزهر يحاربون نابليون بالأوراد وصحيح البخاري ..!!
3 ـ في هذه المرحلة الثالثة أصبح مقياس الاجتهاد العلمى هو الحفظ ، يقول المؤرخ ابن الصيرفي في القرن التاسع عن رفيقه الشيخ نجم الدين العجلوني ت876 ( كان رحمه الله عالما بارعا محققا عين أعيان الشافعية بدمشق بل والقاهرة .. حفظ كتبا كثيرة في الفقه وغيره .. وكان آية من آيات الله وعد محفوظاته للكتب اثنان وعشرون كتابا يحفظها مثل الفاتحة ،وصنف التصانيف الفائقة منها : (تصحيح المنهاج ، ومنها التاج على المنهاج ومنها تحرير المنهاج ..) أي أنه دار بالتأليف حول كتاب " المنهاج" في الفقه الشافعي فكتب حوله ثلاثة كتب " التصحيح والتاج والتحرير ".. ويكفيه انه كان يحفظ اثنين وعشرين كتابا " مثل الفاتحة " ليصير عالما بارعا محققا وفق مقياس عصره .ويقول ابن الصيرفي في ترجمة الشيخ سراج الدين العبادي 877 ( شيخ الشافعية مطلقا .. كان أعجوبة زمانه في الحفظ والسرد والتقرير ، يسرد من صدره كأنما يقرأ من كتاب ، وقرأ عليه غالب فقهاء الشافعية وأعيانهم ) . وذلك الرجل لم يؤلف ، واكتفى بأن يقرأ عليه الفقهاء كتب الشافعية ، وعن طريق تميزه بالحفظ صار شيخ الجميع .
4 ـ فى هذه المرحلة من التقليد والجمود فليس منتظرا وجود نهضة علمية فى العلوم الطبيعية . الواقع أن السنيين الحنابلة المتشددين قضوا على المعتزلة بدءا من عصر المتوكل على الله العباسى الى عصر الخليفة القادر بالله ، وعلى هامش هذا تم تراجع ثم مصادرة العلوم الطبيعية ، وآخر الفلاسفة الأطباء كان ابن رشد الذى أحرقوا كتبه . بل أكثر من هذا ، فقد برزت الخرافات لتحل محل الاجتهاد فى العلوم الطبيعية ، فصاغوا أحاديث فى العلوم الطبيعية من فلك وطب وجغرافيا . إنتهى الابتكار الذى قام به الرازى الطبيب والخوارزمى والبيرونى والفارابى ليحل محله خرافات ابى حامد الغزالى والشعرانى فى أساطير الكرامات و( الحملات ) والتداوى بتراب القبور المقدسة.
رابعا : المرحلة الرابعة ( الصحوة )
1 ـ أقام محمد علي الدولة العصرية في مصر . واتجه إلى أوربا يتعلم عنها حضارتها الحديثة . وظهر ابن عبدالوهاب في الجزيرة العربية يعيد مذهب ابن حنبل تحت إسم الوهابية . وتحددت بذلك مسارات التنوير في تلك المرحلة : وهي الرجوع إلى الأصول والأخذ عن أوربا . ونكتفى بهذا ..!!.
تاريخ الانضمام | : | 2006-07-05 |
مقالات منشورة | : | 5130 |
اجمالي القراءات | : | 57,289,345 |
تعليقات له | : | 5,458 |
تعليقات عليه | : | 14,839 |
بلد الميلاد | : | Egypt |
بلد الاقامة | : | United State |
أسئلة عن : ( بوتين سيقتل بشار ، سوريا وثقافة الاستبداد والاستعباد )
الغزالى حُجّة الشيطان ( الكتاب كاملا )
خاتمة كتاب ( الغزالى حُجّة الشيطان فى كتابه إحياء علوم الدين )
دعوة للتبرع
سؤالان : السؤا ل الأول : أرى إن الحري ق سواء...
المصيف مباح: هل الذها ب للمصي ف حرام ...
القيلولة : كتبت في بحثك القرآ ني عن العور ة (وقت...
البحث والتحقيق: إذا كان التأر يخ فيه صواب وخطأ وبالت الي ليس...
هل نحن شيعة ويهود؟: رأيي أنكم مدلسو ن يهود تسعون لهدم هذا...
more
مقال قصير و ممتع و يختصر حقبة تاريخية تصف مراحل تاريخية هامة في الفكر للحضارة الإسلامية و يؤصل للداء المزمن الذي لم تشفى منه الأمة ! برغم سهولة علاجه لو أخلص المسلمون بالعودة لكتاب ربهم جل و علا القرءان الكريم .
و أخطر فقرة في المقال – من وجه نظري – هي : ( ومع هذا ، فقد شهد هذا العصر قمة الازدهار في الحياة الفكرية للمسلمين ، بدليل أننا حتى الآن لا نزال عالة على أئمة الفكر في تلك المرحلة ، ولا نزال حتى الآن تابعين للمذاهب الأربعة في الفقه وتابعين لاجتهادات علماء الحديث واللغة والنحو .. وذلك لأن المرحلة الثالثة من مراحل الفكر عند المسلمين عرفت التوقف والتقليد والجمود والتأخر . )
إن أهم عوامل التوقف و التقليد و الجمود و التأخر هي المدارس و الجامعات الدينية و ما يدرس فيها من فكر توقف و جمد بينما سارعت الأمم الأخرى إلى عزل الممثل الرسمي لهذه الجمود و التخلف – الكنيسة – و انطلقت في البحث و التطوير فتقدمت أممهم و وصلت إلى آفاق العلم و المعرفة و التي كان للمسلمين السبق لولا العودة إلى الخلف و التقهقر بفكر الجمود و الانشغال بالكلام و علم الكلام و – الرغي !! - و الأحلام و المنامات !!!!
القرءان الكريم هجره المسلمون فابتعدوا عن الرسالة الراقية التي فيها الحث على التدبر و إعمار الكون من خلال الاختراعات و التقدم العلمي في كافة المجالات .
التعليم في العالم – العربي – تحديدا سيئ جدا برغم الأموال الهائلة التي تصرف عليه و لكن من أسف أن جُل تلك الأموال تصرف في المباني و الكتب ذات المحتوى البسيط الذي عفى عنه الزمن !! هذا لا يعني بأن هناك من هم عباقرة و علماء حقيقيون لو توفرت لهم بيئة البحث و التحفيز و التقدير و المكافأة و أنظر إلى حجم العلماء العرب في الغرب و ما أكثرهم هم نماذج رائعة في العلم و النبوغ بل أقول لو لا هجرة الدكتور أحمد و هو النابغة في الفكر و التاريخ لما استطاع نشر هذه المؤلفات الرائعة و هذا التدبر الجميل و هذا الإنتاج الوفير برغم أنه حفظه الله لا يملك إلا ( قلمه ) .
سيقول الرسول عليه السلام يوم القيامة لربه جل و علا : ( إن قومي اتخذوا هذا القرءان مهجورا ) فحري بنا تخصيص ما نسطيع من وقت و جهد لهذا الكتاب العظيم قراءة و تدبرا و عملا و أن يكون سلوكنا عمليا من خلاله لننهض بأنفسنا و أولادنا و لا يكلف الله نفسا إلا وسعها .