دراسات معاصرة في الفرق الإسلامية
بعد موت رسول الإسلام وجد المسلمون أنفسهم في تحديات صعبة، أولها حفظ الدولة التي أنشأها في المدينة، ثم حفظ الدين الذي جاء به الوحي..أي جمعوا ما بين شقين من أعقد المفاهيم البشرية وهما "السياسة والدين" ولأن الدولة وقتها كانت في مهدها تدار بطُرق بدائية حدث النزاع على المُلك فسقطوا في التحدي الأول وهو حفظ الدولة، أما التحدي الثاني فقد حاول بعضهم حفظه بأساليب مختلفة كأبي بكر الصديق مثلا في حروب الزكاه، لكن وضح من خلاف عمر بن الخطاب معه أنه ليس الطريق الأمثل لحفظ الدين..إذ المعارك سياسية بالأصل وإن ظهر منها الدافع الديني.
تطور الخلاف بين الصحابة لمرحلة تأويل آيات القرآن وإلغاء بعضها كما حدث من الخليفة عمر بن الخطاب، وهو الذي صنع انشقاقا أكبر بين سلطانه وبين الهاشميين – ورثة النبي - تجلى إلى الآن في الصراع الفكري والتاريخي بين السنة والشيعة، وقصدت الجانب الفكري تحديدا لشموله نواحي الاجتماع فضلا عن الدين والسياسة والاقتصاد..بل حتى المواريث والأحوال الشخصية، أي الخلاف أعقد وأشمل مما يتصوره البعض، فهو وإن كان سياسيا بالأصل لكن تفريعاته وجوانبه طالت كل مسائل الحياه تقريبا.
هذا استدعى المسلمون لخيارين اثنين، إما المواجهة لحسم الصراع، وإما التفاوض بُغية التقريب، ولأن التفاوض وقتها لم تتوفر له أجواء مناسبة حدث الصراع واشتعل على مراحل بدأت أولى مراحله في معارة الجمل وصفين وكربلاء والحرة..هذه كانت موجة أولى للصراع تبعتها مواجهات بسيطة كحروب المختار الثقفي، لكن على ما يبدو أن المسلمين في انتظار موجة ثانية ستكون أشد وأعتى مُثّلت في الثورة العباسية التي كانت أشد دموية لدوافع انتقام مما حدث للهاشميين من مجازر وملاحقات إبان العصر الأموي.
ولم ينتظر الثوار كثيرا حتى اشتعل الصراع بينهم في معارك المنصور والنفس الزكية، وبعد انتصار المنصور أسس ما عُرِف لاحقا بالدولة العباسية التي أثرت حروب النفس الزكية معه للعودة إلى الخط الأموي في معاملة الشيعة والهاشميين.
كل هذا لم يصنع فقط شرخا عميقا في جدار الإسلام الأول بل هدمه تماما على مدار 150 عام ، ثم استبدل لاحقا بتفاسير وأحاديث ومذاهب بلغت مئات الفرق والاتجاهات الفكرية، كل فرقة تنصر نفسها بأحاديث خاصة تدعي وصلها بالرسول في إثبات لمؤيديهم أنهم على النَهَج الصحيح ، حتى استعمل كل منهم أشهر حديث لذلك الغرض وهو حديث "ستفترق أمتي إلى 73 فرقة 72 منها في النار وواحدة فقط في الجنة"..وطبيعي أن تكون هذه الواحدة هي الفرقة نفسها أو المتكلم والراوي وأتباعهم، ثم شاع الكذب والوضع لأسباب مختلفة في ظل ضعف الاتصال والشقاق الحادث والعزلة التامة بين القرى والمجتمعات جراء 150 عاما من الصراع.
إلى هنا نتحدث عن أحزاب سياسية في الحقيقة..تلك الأحزاب صنعت لاحقا مذاهب فقهية وعقائدية تأثرت فيها بخلافات الصحابة وتفاسيرهم للدين، أي عمّقوا الهدم أكثر فكلما أرادوا جمع الناس انشقوا بزيادة..متجاهلين تماما أن أصل الوحدة الذي اجتمعوا عليه مصالح سياسية خاصة وليس الدين المطلق والمؤكد من قِبَل الإله.
وكعادة تشكل الفرق السياسية تأخذ فترة حتى تتبلور فكريا وفقهيا، طالت هذه الفترة قرابة من 300 إلى 400 عام تجلت فيها بعض الفرق بصورتها النهائية، حتى شجع ذلك الفقهاء والمؤرخين على نوع جديد من الكتابة وهو "الفرق والملل" من موقف شخصي ومذهبي انتصارا للذات، وقد كانت هي الضربة القاضية التي صنعت أزمة هوية بين المسلمين إلى اليوم، فشرح الفرق يحدث بمنطق يعزز الافتراق أصلا، أي كلما ناقش السني فرقة شيعية انفصل عنها وجدانيا قبل الكتابة..والعكس صحيح حتى ترسخت حقيقة مطلقة في الإسلام أن الدين لم يعد دينا واحدا..بل مذاهب مختلفة كفرت بعضها، ولم يعد المتعبدين بالإسلام إلا قلة نادرة تفعل ذلك على استحياء.
بدأ أبو الحسن الأشعري في الكتابة عن الفرق بمقالات الإسلاميين مطلع القرن الرابع الهجري، تبعه فقهاء شافعية كأبي الحسن المالطي في "التنبيه والرد" ثم عبدالقاهر البغدادي في "الفرق بين الفرق" ثم ابن حزم في "الفصل والملل والأهواء" والشهرستاني في "الملل والنحل" والإسفراييني في "التبصير، مع العلم أن عمدة شرحهم للفرق كان قائما على حديث الفرقة الناجية ، مع أخطاء وأوهام أخرى وأحداث مختلقة من جراء ضعف التواصل، وإلى الآن ما زال هذا التأسيس يسيطر على عقلية ذوي المذاهب رغم التواصل في عصر التكنولوجيا، وهو ما يطرح أسئلة مهمة.
هل الفرق الإسلامية المذكورة في التراث لا زالت موجودة بأصولها المتعارف عليها؟..وما حقيقة ما صنفه هؤلاء في الفرق..ألا يستند على حقائق موضوعية وتجارب وشواهد أم على أوهام وأكاذيب؟..وهل المسلمين في حاجة لرؤية جديدة خارج قصة الافتراق هذه، على الأقل لفهم دوافع وكيفية الفقهاء الأوائل وظروفهم الخاصة المنتهية.
سأتناول في هذه الدراسة جانبا آخر رؤية الافتراق ربما لم يلحظه المؤرخون وأتباع المذاهب، وأعذر من يخالفني في هذا التناول كونه لا ينبني على رأي الخصوم في بعضهم، بل على قراءة عميقة للتراث والتاريخ، وسأوجز أولا معاني وبيان تلك الفرق بشكل بانورامي لوصف ما حدث منذ 1400 عام مع بيان طبيعة وهوية كل فرقة.
أولا: جميع الفرق الإسلامية ظهرت بعد موت النبي بعشرات السنين، فمن يدعي أن السنة أو الشيعة كانوا على عهد الرسول..هو كذاب، فالافتراق كما قلنا بدأ بعد موت الرسول وليس في حياته.
ثانيا: أغلب تسميات الفرق حدثت لأسباب سياسية، فالخوارج سموا بذلك لخروجهم على الخلفاء الأربعة، والشيعة سموا بذلك لتشيعهم أي لانحيازهم للإمام علي في معركتي صفين والجمل، والسنة والجماعة سموا بذلك بعد تنازل الإمام الحسن لمعاوية عن الخلافة في عام الجماعة، والزيدية سموا بذلك لاتباعهم الإمام زيد حفيد الإمام الحسين، أما تسمية الرافضة فلم تطلق على رفض الإثنى عشرية للصحابة كما هو شائع، بل لرفضهم الإمام "زيد بن علي زين العابدين" كبير الزيود ومؤسس المذهب الزيدي، أي أنها تسمية شيعية خالصة لا علاقة للسنة بها، وأستغرب وصف السعوديين في عاصفة الحزم لسكان اليمن بالروافض، هذه تسمية مضحكة تنم عن جهل بأصول الفرق، فاليمنيين الزيود هم الذين وصفوا مخالفيهم بهذا الوصف.
ثالثا: الخلاف بين الزيدية والإمامية سياسي أيضا..وكلاهما تنازعوا على شقيقين ، الإمام زيد والإمام الباقر أبناء زين العابدين ابن الحسين، فاتبع الإمامية محمد الباقر كإمام خامس واتبع الزيود الإمام زيد بن علي دون الإيمان بعدد معين من الأئمة.
رابعا: الخلاف بين الإمامية والإسماعيلية سياسي أيضا، وكلاهما تنازعوا على شقيقين، الإمام إسماعيل والإمام موسى أبناء جعفر الصادق حفيد زين العابدين..فآمن الإثنى عشرية بموسى ولقبوه بالكاظم، ثم آمن الإسماعيلية بإسماعيل وانتسبوا إليه..وهم الذين خرج منهم النسل الفاطمي وأسسوا ما عرفت بالدولة العبيدية الفاطمية وحكموا أغلب بلاد المسلمين عدة قرون..والإسماعيليون يصفون الإمامية (بالموسوية) ذما باتباعهم الإمام موسى الكاظم على حساب شقيقه إسماعيل؟..أي أن هذه التسميات (إمامية – موسوية – إثنى عشرية – جعفرية) هي لفرقة واحدة تشكل 80% من أعداد الشيعة حول العالم.
خامسا: المعتزلة هي التسمية الأشهر عقائديا، وهي تسمية متأخرة لم يعرفها المسلمين الأوائل خلال 200 عام، والبخاري لم يعرفهم بهذا الإسم رغم تكفيره إياهم مرة تحت اسم القدرية ومرة باسم الجهمية ، باعتبار أن الاعتزال لا يقول بالجبر الأموي المسيطر على أهل الحديث، والشبه بينهم وبين الشيعة كبير في العقائد خصوصا الفرع الزيدي لاعتبارات منها قرب واصل بن عطاء من أبناء الإمام علي وتربيته في منزل الإمام حقبة من الزمن،و أما رواية حسن البصري "اعتزلنا واصل" فهي متأخرة بغرض تفسير وصفهم بالاعتزال، وفي الحقيقة هذه التسمية تعني رفضا نفسيا لصراعات دموية أو فكرية تافهة..والأقرب أنها ظهرت وتفاخر بها أتباعها في عز اشتعال تلك الصراعات.
سادسا: الجهمية هي اتجاه فكري دخل عدة مذاهب كالمعتزلة والشيعة والأشعرية ، أي أنها ليست مذهب منفصل له أتباع، ويقولون بتأويل الصفات الخبرية في القرآن ثم إعطائها معنىً مختلف عن الظاهر، لذلك من سماهم الجهمية ذما هو اتجاه فكري آخر يسمى "بالتجسيم" الذي حمل هذه الصفات على الظاهر، كقوله تعالى "استوى على العرش" المجسمة قالوا بأنه جلوس واستقرار، بينما الجهمية أولوه بمعانٍ أخرى مختلفة، وبعضهم قال بالتفويض..أي يثبت منطوق اللفظ القرآني لكن يفوض معناه إلى الله..أي يدعي جهله بالمعنى.
انتسب الجهمية لأحد أكبر مفكري المسلمين الأوائل وهو "الجهم بن صفوان" وظلت هذه التسمية على المعتزلة حتى ظهور الأشعرية والماتوريدية في القرن الرابع الهجري الذين ورثوا التأويل وعلم الكلام من المعتزلة تقليدا للإمام الأشعري الذي كان معتزليا ثم انشق عنهم وخالفهم..لكنه لم يترك منهجه الكلامي، وبعد قولهم بالتأويل ثم انتهاء المعتزلة أصبح الوصف ينطبق عليهم..
سابعا: الأشعرية والماتوريدية تسميات متأخرة لفرقتين ورثوا منهج التأويل الاعتزالي وخالفوا الحنابلة في الصفات، فوصفهم الحنابلة في كتبهم (بالجهمية والمعطلة) أي عندما تقرأ هذا الوصف في كتب السلفيين أو على منابرهم فاعلم أنهم يقصدون الأزهر والزيتونة تحديدا باعتبارهم ورثة المذهب الأشعري، وأتباع هاتين الفرقتين هم عموم المسلمين لأسباب سياسية، فالدولتين الأيوبية والمملوكية دعيا للمذهب الأشعري، أما العثمانية فدعت المذهب الماتوريدي، أي انتشارهم حدث بفعل السياسة، وفي الأخير :هذه تسميات عقائدية لمذاهب فقهية بالأصل، فالأشعرية ذراع عقائدي للمذهب الشافعي في الفقه، بينما الماتوريدية ذراع عقائدي للمذهب الحنفي، أي بنشر الحنفية تنتشر الماتوريدية تلقائيا..وعندما يسود المذهب الشافعي يسود معه المذهب الأشعري.
ثامنا: الباطنية..وهي تسمية متأخرة لبعض صنوف الجهمية، وهي ليست فرقة بحيالها معروفة، بل اتجاه فكري دخل كل المذاهب الإسلامية دون استثناء، بل أغلب أديان العالم..والمشهور أن أصله فاطمي صوفي..بينما السنة قالوا به عند الغزالي والشهرستاني بدون إعلان، أي مارسوا المذهب دون تسمية ، والغزالي كما كتب فضائح الباطنية..كتب أيضا إحياء علوم الدين وبه لمحات باطنية كثيرة..مفادها ضرورة نفي الظاهر من النصوص لصالح تأويلات باطنة ، وكما كتب الشهرستاني في "الملل والنحل" ذما في الباطنية كتب أيضا "مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار" تبنى فيه الرؤية الباطنية في تأويل القرآن، مما حمل الشافعية المتأخرين على نفي نسبة هذا الكتاب له تنزيها، رغم أن البيهقي نسبه إليه وابن تيمية شنّع عليه واتهمه بالتشيع والميل للباطنية.
تاسعا: الحشوية: وهو اتجاه فكري أيضا ليس فرقة معروفة بحيالها، وقد دخل كل المذاهب الإسلامية دون استثناء بمن فيهم المعتزلة، وتعريفه البسيط "من يحشون الأحاديث الذي لا أصل لها في الدين" وهو تعريف يبدو أنه صادر من أهل الحديث وأهل الرأي معا، لكن جميعهم لم يلزموه دائما، فبعض المعتزلة المشتغلين بالرواية ساقوا رواياتهم موضع الحشو، وكذلك سائر أهل الحديث يجدر تسميتهم بالحشوية رغم استنكارهم ذلك الوصف، إنما الفارق بين (الفرقة) و (الاتجاه الفكري) أن الأولى قد تكون جماعة معروفة، أما الثاني فغير معروف لسلوك نمطي يلجأ له الإنسان عند الظروف ..بدليل ما سقناه عن الغزالي والشهرستاني..ذموا الباطنية كاتجاه وآمنوا بها في بعض مصنفاتهم دون وعي..
وثمة رابط بين الحشو واتجاهات فكرية أخرى مرتبطة بها كالجبر والتجسيم ، فحشو الأحاديث قد يكثر من احتمالات وضع أحاديث التجسيم والجبر الصريحة مما لا ينفع معه تأويل للنفي، وقد وقع في هذه الآفة أكثر علماء الحنابلة المعروفين ، وبظهور تلك الآفة عند الحنابلة بالذات لصقت بهم كتهمة مذهبية وعقائدية وسياسية معا لتعلق الحشو غالبا بروايات تمس مواضع الاتهام، خصوصا في مصنفات الحنابلة الأوائل للرد على الجهمية..فيها حشو لا يحصى عدده وتجسيم صريح وساذج لا ينطلي إلا على الأغبياء.
ورأيي أن أزمة المسلمين هي في هذا الاتجاه الحشوي بالأساس، فلشدة تعلق هؤلاء بالروايات قدموها على القرآن حتى قالوا بنسخ الحديث للقرآن، وقولهم أن القرآن أحوج للسنة من حاجة السنة للقرآن، وقولهم أن القرآن لا ينسخ السنة، هنا ينظرون لرواياتهم الحشوية على أنها سنة، بخطأين كبيرين عندما حصروا السنة في الحديث، رغم معناها القرآني والاصطلاحي بالطريقة والمنهج، وقد تتعدد طرائق الرجال في فهم الدين منهم من يقدم القرآن ومنهم من يقدم العقل ومنهم من يقدم العلم، ومنهم من يجمع بين كل ذلك في مفهوم خاص به أطلق عليه (السنة) حتى أصبحنا نتحدث عن عدة معان للسنة مختلفة عن بعضها تعمل فئة لها نفوذ سياسي ومالي على حماية تعريفها الخاص.
ومن يعلم تصريحات شيخ الأزهر الأخيرة الذي قال فيها نصا أن "السنة تمثل ثلاثة أرباع الدين" مما يعني أن القرآن لا يمثل سوى الربع الباقي، وهو ترجمة لمعتقد هؤلاء الحشوي الذي تم تأسيسه منذ عصور الوضّاعين، وبرغم أن شيخ الأزهر ينتمي لعقيدة أشعرية وفقه شافعي خصم لدود للحشوية ، لكن هنا يمارس الحشوية باجتراء سقنا نماذج له على غموض وانحراف منهجي لأسباب مختلفة..قد تكون من بينها شعور الأزهر بالخطر في أعقاب الصعود الأخير للتيار القرآني منكر الحديث، والقرآنيون هم أشد خصوم الحشوية ، ونشوئهم كرد فعل على شيوع هذا الاتجاه في أوساط الفقهاء من كل المذاهب كما أوضحت عاليه.
ولو فردنا الأمر على اتساعه سنرى عمدة مذاهب الجهاديين وأدلتهم قائمة على الحشو، أي داعش والقاعدة والإخوان أساس مذهبهم حشوي بدس الأحاديث المختلقة والمعارضة لروح الإنسان وصريح العقل فضلا عن تعارضها مع القرآن، فمعايير الحكم على الرواية لديهم مأخوذ من حشويين قدماء أصلا، وفساد المعيار يعني فساد الحُكم، فما يفسد شرطه يفسد موضوعه، وما يفسد جوهره يفسد وصفه، حتى أن الشذوذ الروائي لديهم غير مرتبط بمصادر تشريع أولى بل في عدم مخالفته لقواعد مذاهبهم الموروثة منذ قرون.
عاشرا: الجبرية، وهي أيضا ليست فرقة بحيالها..هذا اتجاه فكري دخل كل المذاهب الإسلامية..عدا أن المعتزلة والزيدية أقلهم تأثرا بالجبر من فرط إيمانهم بحرية الاختيار، والجبر باختصار هو "نفي الاختيار عن المُكلّف" أي لا خيار للإنسان في حياته، فهو مجبور على طاعة الله وعصيانه ابتداء، ومحل اعتراض خصوم الجبريين أن الطاعة والعصيان مسائل اختيارية تتفق مع حقائق الثواب والعقاب، فلو أجبرنا الإنسان على الخطايا لأصبح عقابه ظُلما، أما لو سار إليها بمحض إرادته فعقابه أصبح عدلا، وقد توسع الجبريون في تفسير دينهم لقضايا دنيوية خاصة بالحُكم، فقالوا بخلافة حكامهم من الله ليجبروا الناس على طاعتهم ظلما وعدلا.
وأشهر الجبريين في التاريخ الإسلامي هو "الحجاج بن يوسف الثقفي" وأصوله الجبرية تعود للفتنة الكبرى ومقالات عثمان ومعاوية في ادعاء خلافتهم من الله، قال الصحابي عثمان بن عفان "لا أخلع قميصا سربلنيه الله" ورغم جبرية الكلمة لم يتعرض فقهاء السنة لها خشية تعريضهم بالصحابي المصنوع له قدسية خاصة مذهبية في وجدان السنة، وأحاديث الجبر كثيرة في كتب الصحاح تحت عنوان "الإيمان بالقدر" ومفادها أن أفعال الإنسان من عمل الله وليست من عمل الإنسان، وفيها صنّف البخاري كتابه "خلق أفعال العباد" كفّر فيه المعتزلة وأهل الرأي الذين قالوا بخلق الإنسان أفعاله لنفسه ليحق له الاختيار الموجب للحساب.
وقديما أحلت الخلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث إلا قضية الجبر والاختيار تحديدا، فقصة خلق القرآن وهل هو قديم أم حديث هذا شأن عقائدي ليس له مردود دنيوي يخص مصالح الناس، مجرد فكرة نظرية قد يرجئا البعض ليوم القيامة، أما خلق أفعال العباد وقضايا الجبر والاختيار هذه تمس الحكومة وأحوال الناس المعيشية بشكل مباشر، منها ما ورد عن الحجاج بحبس وتعذيب الخصوم ثم ادعائه بحكم الله النافذ لما فعله، أي أن الله هو الذي يحبس ويعذب، وفي ذلك وقع فقهاء المسلمين الخطأ الأكبر إلى عصرنا هذا، فرأينا الإخوان جبريين حين زعموا أن الدكتور مرسي رئيس الجمهورية الأسبق هو "قدر الله وقضائه" ولا راد لحكم الله، أي يلزمون خصوم الرئيس بالطاعة على أساس أن مرسي عين من قِبَل السماء.
ونفس هذه الجبرية وقع فيها بعض فقهاء الأزهر حين زعموا قديما لمبارك والسادات بمنازل كاذبة، وقول أحدهم للسادات مشهور "لا يُسأل عما يفعل" وإلى الآن يقعون في نفس المصيبة مع السيسي، ورأيي أن ما كان لفقهاء الدين أن يقعوا في تلك المصيبة الجبرية إلا بتراث وحشو وروايات وحُرمة تشغيلهم لعقولهم التي أعلنوها في منهجهم بأن الدين ليس بالعقل بل بالنقل..التي أرادوا بها البقاء على خط الأقدمين في الحشو والجبر.
وللأشعرية محاولة للهروب من الجبر مشهورة ب "نظرية الكسب" ومفادها أن الله يخلق الفعل في نفس العبد، ثم إذا أراد الإنسان خيرا أو شرا يكسبه بيده، وهذا تفسير قوله تعالى "ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون".. [البقرة : 281] وللوهلة الأولى فالناظر لا يفهم شيئا منها، لأن الكسب القرآني يعني العمل، قال تعالى "ليجزي الله كل نفس ما كسبت "..[إبراهيم : 51] يعني سيحاسب الله كل نفس ما فعلت، وهنا الأشعرية يفرقون بين العمل والكسب..على ما يبدو أن الفعل لديهم مقدمة والكسب نتيجة، وهذا رد على عدم ذكر الفعل محل الكسب.
وحتى هذا التفسير للكسب غير مقنع، فخلق الله المقدمة يطرح سؤال، ماذا لو كانت المقدمة من فعل الإنسان..أفلا يكون حراً في اختياره؟..بمعنى أن لا ضرورة للكسب عقليا فهي كما أراد أن يفسر الماء بالماء، أرادوا حل معضلة الجبر فأضافوا صورة أخرى للجبر، ورأيي أن الأشاعرة ما كان لهم أن يقولوا بالكسب لولا تورط أسلافهم في ذم القدرية والمعتزلة واستعدائهم بشتى الطرق، فعندما أرادوا نفي رؤية الاختيار للمعتزلة تورطوا في الجبر، وهذه من مثالب الفكر ، أن الردود على النقيض في الغالب تخرج بشكل مناقض ولو حرص أتباعها على التوسط، وهذا حدث في كتب الرد على الجهمية، كل من تورط في الرد على الجهمية وصنّف فيها كتبا ومؤلفات وقع في التجسيم، وكل من تورط في الرد على حب الشيعة لآل البيت تورط في النصب..أي في احتقار وازدراء أئمة آل البيت.
ولم ينتبه الأشاعرة وغيرهم أن تفسيرهم للقدر هو المعضلة الكبرى، فالقدر باختصار هو "قانون الكون" فإذا قفزت من الطائرة ستقع على الأرض وتموت، وإذا ضربت نفسك بالرصاص ستموت، وإذا عملت كثيرا تربح الأموال، فالفاعل هنا هو الإنسان..لا يعني أنه خلق فعله ليتساوى في الإيجاد من العدم مع الله، فعلى ما يبدو أن مفهوم الخلق أيضا معضلة عند الأشعرية، فليس كل خلق إيجادا من العدم، بل هناك تعبيرات نفسية لاإرادية كالفرح والحزن، هل معنى فرح الإنسان أنه (خلق سعادته) ؟..كذلك هناك تعبيرات إرادية كعبوس الوجه وانبساطه، هل معنى أن يعبس إنسان في وجه آخر أنه خلق عبوسه؟..وماذا تسمون عبس النبي في وجه ابن أم مكتوم؟
المعتزلة رأوا أن حل معضلة الجبر في الاختيار الحر كما قلنا، وهي مفهوم الليبرالية المعاصر، ولكي يصبغوها برؤية دينية كلامية قالوا أن الله يخلق (القدرة في نفس الفاعل) وليس الفعل نفسه، أي يعطيك القدرة على العمل ، فإذا فعلت شرا أو خيرا وجب حسابك، وهذا شرط الأصل الديني الثاني لديهم (العدل)
توجد مسائل خلافية كثيرة وكبيرة بين أهل الحديث وأهل الرأي بخلاف الجبر، وليس هذا مقامها ..إنما نرجئها لدراسات أخرى كجواز رؤية الله يوم القيامة والتحسين والتقبيح ومسائل كلامية كالخلاف حول صفات الذات وصفات الحدوث والقدرة على فعل الضدين..وغيرها، وبعض من تلك الخلافات مرتبط بتفسير الأشعرية للجبر ونظرية الكسب تحديدا..
حادي عشر: المرجئة..وهو أيضا اتجاه فكري دخل كل المذاهب، وإن اشتهر به بعض الأحناف لقولهم (بإرجاء) الحكم على الناس ليوم القيامة، وهو اتجاه فاضل يمنع تكفير الناس وتأخير الحكم عليهم لرب العالمين، واشتهر قولهم " لاتضرّ مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة" وهذا يعني أن الإيمان لديهم قول وتصديق قلبي دون الحاجة لعمل، ورأيي أن هذا التفسير مكذوب عليهم، فالإرجاء ظهر في عصر شاع فيه التكفير على الرأي السياسي، وتحديدا في زمن الثورات العباسية والعلوية، وجذوره ممتدة منذ عصر الفتنة الكبرى، وانزواء البعض عن الحكم المباشر على الناس خشية تعرضهم للأذى من ناحية أو طلبهم للعدل من ناحية أخرى.
ورأيي أن المرجئة – كاتجاه فكري – هو نقيض الخوارج بتكفيرهم لمرتكب الكبيرة، ونقيض الجبرية بتكفيرهم للأحرار ، فالإرجاء كامتناع عن إصدار الأحكام الدنيوية في حق البشر يحملهم على عدم مصادرة حق الآخرين في الرأي، وهذا سبّب لي – شخصيا – معضلة في فهم متأخري الأحناف الذين بالغوا في تلك الأحكام والمصادرات على الحريات واقتربوا كثيرا من الجبريين بل والخوارج أحيانا، ولم يكن هذا ليحدث لولا انتشار الوهابية التي أحيت دين الحشوية والجبرية وبعض معتقدات الخوارج مرة أخرى..
إنهم يعدون المرجئة من فرق النار رغم قولهم بالتسامح والامتناع عن الأحكام الشخصية ومصادرة الآراء ،ورغم أنه يعد سلوكا أحيانا (للجبناء) لعدم إثارة المشاكل والحرص على المنافع..لكن حتى هذا من الناحية البراجماتية مفيد وشئ صحي جدا، وياليت الجميع يفطن لمصالحه أحيانا ويحسب خطواته بميزان الربح والخسارة، إنما الذي شدد على الناس وأفسد عليهم حياتهم هي الأيدلوجيات والطموحات المجنونة الغير سوية..
أخيرا: كان هذا استعراضا لماهية الفرق الإسلامية ، وقد تعمدت مناقشة بعض الفرق جزئيا من الناحية الفكرية لأهميتها وتأثيرها المباشر على المسلمين، أما الانشقاقات السياسية فلم أهتم بها واكتفيت بمجرد العرض، فالكلام المكرر ثرثرة لا داعي لها، والسياسة لا حل لها إلا بالتواصل، ورأيي أن مآزق الفرق الإسلامية لن تنتهي إلا بالتواصل والانفتاح، وقد تكفلت الحضارة المعاصرة بضمان هذا التواصل ليساهم في تقريب وجهات النظر، وما هذه الدراسة إلا محاولة لتقريب وجهات النظر.
اجمالي القراءات
5180
مقال مختصر وجميل وفيه نبذة عن كل فرقة من فرق المسلمين التى أسسوا عليها دياناتهم الأرضية ... وانا أتفهم تماما صدقك ونيتك المُخلصة فى الحديث عن المُسلمين الأوائل وخلافاتهم التى ضيعتهم وضيعت المسلمين من بعدهم وحتى يومنا هذا ... ولكن .. أعتقد أن هذه الجملة التى وردت فى مقالكم تحتاج إلى مراجعة منكم ..... ((( كل هذا لم يصنع فقط شرخا عميقا في جدار الإسلام الأول بل هدمه تماما على مدار 150 عام )))) . فكلنا يعلم أن هناك فرق كبير بين الإسلام وبين المُسلمين ، وان الشرخ أو الهدم والبناء ،او الضعف والقوة حدث ويحدث بين المسلمين وليس فى الإسلام ،فالإسلام هو ((القرءان الحكيم وحده )) وليس المُسلمين وفرقهم ومذاهبهم وتفرقهم وتنازعهم فيما بينهم على حُطام الدنيا . فالقرءان كامل وتام وثابت ومحفوظ بحفظ الله له منذ لحظة وبداية نزوله على النبى عليه السلام وحتى قيام الساعة ،فلم يتعرض ولن يتعرض لشروخ أو هدم أو بناء مرة أخرى حتى قيام الساعة . وقولك عن إلغاء عُمر بن الخطاب لبعض آياته (( وإلغاء بعضها كما حدث من الخليفة عمر بن الخطاب، )) فلم يستطع عُمر بن الخطاب ولا غيره ولن يستطيع أحد من الجن والإنس أن يزيدوا أو يُنقصوا أو يلغوا حرفا منه .... فما فعله وما يفعله المُسلمون بما فيهم عمر ومن جاءوا بعده بعده هو مدى قربهم أو بُعدهم من تطبيق احكامه وإطاعة أوامره ونواهية ....
وتحياتى مرة أخرى .