منذ قليل انتهيت من صالون الفنان خالد حمزة الثقافي وأثيرت فيه عدة قضايا لم يسعفني الوقت فيها لإبداء رأيي، واستمتعت بآراء الأساتذة في بعض القضايا.
من تلك القضايا التي لم أسعف فيها بالحديث هي .."المادية الجدلية"..ولأنها قضية مهمة أطرح فيها مقال للتقريب، وكالعادة لتبسيط الفكرة ألجأ لطريقتي في نقد الموروث وأربط بين الفكرتين كي تصل الفكرة للقارئ دون تعقيد.
المادية من اسمها تعني تقديم المادة للإصلاح، والمواد هنا قد تكون صناعية أو زراعية أو اقتصادية بالمجمل، واختصارها، أن البناء المادي الجيد (صناعة – زراعة –اقتصاد – عمران) سيؤدي إلى بناء فكري جيد وهو ما اصطلح عليه بالبناء التحتي مقدما على الفوقي، وهانشرح معنى هذين المصطلحين في ذيل المقال.
فالإنتاج الجيد إذن والاقتصاد المزدهر عند الماديون هو أصل للتطور وتقدم البشرية، لذلك اهتم هؤلاء بالعمال بوصفهم أساس ذلك الإنتاج وتبنوا مبدأ.."حق البروليتاريا"..أي حق العامل في الدخل والحياة المميزة، ولكي تستوعب حجم هذا المبدأ - أخلاقيا – فهو يمثل عقدة عند الطبقيين والأغنياء كون المطالبة بحق العامل يعتبر مقدمة لنقصان حق المالك، والطبقيين طبعا متضررين كونهم يصبحوا أسوياء أمام القانون والمجتمع مع العامل، بل يقدم العامل أحيانا بوصفه عنصر إنتاج.
أما كلمة.."الجدلية"..فهي وصف لهذا التفكير المبني على التطور الدائم، ولا تطور دون صراع، ولا صراع دون جدل علمي أو تجريبي أو عقلي، لذلك فالمصطلح عموما يدل على طريقة تفكير تؤمن بتأثير العامل الخارجي (المادي) في إحداث صراع (جدلي) يؤدي لتطور دائم أو صيرورة بالمعنى الفلسفي.
المهم: أن المادية الجدلية ترتكز على ثلاثة قواعد:
1- تغير الكم إلى كيف
ويعني أن تراكم الكم –دون تغيير- لفترة طويلة يتحول هذا الكم عند نقطة فاصلة إلى (كيف) بمعنى أن بقاء الشئ على حاله دون تغيير ينتج قيم سلبية تؤدي لظهور قيم منافسة لوجود نفس الشئ أو لمبادئه، وباختصار: تدعو تلك القاعدة لفكرة أن التجديد والتغيير ضرورة إنسانية لعدم الفناء.
مثال: التراث الإسلامي ظل مقدسا طيلة 1000 عام دون تغيير، وعندما تغيرت ظروف المسلمين بالاستعمار والانفتاح نشأت قيم سلبية من ذلك التراث وهي (التشدد والكراهية) في المقابل دعا العالم للتعايش والحرية، هنا أصبح وجود التراث نفسه مشكلة وتحول من حالة كمية إلى حالة معرفية سلبية.
2- وحدة وصراع المتناقضات
ويعني أن كل فكرة تحمل في داخلها بذور فنائها، يعني التغير والفناء من نفس الجنس، وكما يقال أن الجزاء من جنس العمل.
مثال: الإخوان نشئوا على فكرة الخلافة والأستاذية، ومن ثم الحزبية والتنظيم، هنا القاعدة طبيعي تنتج من نفس التيار – أي الخلافة – بذرة معارضة الإخوان وهي الطعن في صدقهم وإخلاصهم للقضية لتعدد المصالح ، فيحدث صراع داخلي يؤدي لفناء كل الأطراف، وأمامنا نموذج الإخوان والسلفيين..كلاهما مؤمنين بالخلافة، لكن كلاهما لديه مصالح مختلفة أدت لصراع داخلي ومساعدة السلفيين للثورة على الإخوان ، في المقابل مساهمة الإخوان في إسقاط شيوخ السلفية شعبيا كرد فعل انتقامي.
3- نفي النفي
وهذا قريب من المبدأ الثاني وحدة وصراع المتناقضات، ويعني أن صراع المتناقض يكون عن طريق النفي ، ثم نفي النفي، وهكذا حتى يصل الإنسان لأول فكرة منفية ثبت باليقين القاطع عدم صلاحيتها بالتنظير الجدلي، تصبح هذه الفكرة مستقرة في ذهن الإنسان أنها قديمة بحاجة للتغيير
حدث هذا مع قضايا فقهية أصبحت من الماضي كالختان وحكم الموسيقى وشهادة الكافر على المسلم، كل هذا انتهى شعبيا بالتنظير الجدلي ودعم التجربة لنتائج الديالكتيك، وبالقياس يمكن التنبؤ من الآن بأن القضايا التي يتم التنظير لها الآن والنقاش فيها -كقدسية البخاري والثوابت وازدراء الأديان - ستتحول في المستقبل لفكرة قديمة (ومستقبحة) بيد أن المهم في تلك القاعدة هي بدء التنظير والنقاش الجدلي..حتى لو بأشكال مختلفة وعنيفة كما يحدث أحيانا في الإعلام.
يرجى العلم أن المادية الجدلية استفادت جدا من نظرية داروين ، والسبب أن المادية الجدلية افترضت تطور الإنسان والظروف المحيطة به زمنيا ومكانيا، وأن الكون في حركة تقدم وتطور دائم، لذا عرف المفكرون تلك المادية (بالتقدمية) ويعني أن الثبات والرسوخ على مبدأ وفكر واحد لا يتغير هو رجعية بالأساس، وأن هذا الثبات يحمل في طياته عوامل فنائه إذا لم ينتبه القائمون عليه بالإشكال ، ومن ثم يعالجوه..
كذلك فالمادية تؤمن بتأثير المادة على الفكر وهو ما يسموه بتأثير (البناء التحتي المادي) كالصناعة والزراعة والمنشآت، في (البناء الفوقي المثالي) كالفلسفة والدين والفن، العكس مع المثاليون الذين يؤمنون بأن المادة نتاج فكر بالأساس..ويقال أن حضارة الغرب في هذا الجانب مثالية، أي يهتمون بالفكر لإحداث التغير النوعي، بينما في صناعتهم وامبرياليتهم ماديون..وفي رأيي هذا غير صحيح، فالحضارة الغربية هي مزيج معقد بين المادة والمثال وتطور طبيعي لحركة الفكر منذ هيجل وفيورباخ، وطبيعي تأثروا بمحاسن المادية والمثالية معا.
أشير إلى أن المادية الجدلية عليها مشاكل كثيرة، وأكثر تلك المشاكل في الجانب الأخلاقي، فالمعارضون لها يقولون أن الأخلاق حالة بشرية وليست مادية مكتسبة من عوامل شتى كالدين والبيئة والعرف وأحيانا الجينات الوراثية، والقول بأسبقية المادة يعني الاعتقاد بتأثيرها على الأخلاق وهو لم يثبت من الناحية التجريبية، واستدلوا طبعا بجرائم الشيوعيين القدامى كلينين واستالين وماو وغيرهم، وأن محاولة فرض نظام أخلاقي مبني على المادة هو مستحيل عمليا، أما نظريا فهو شئ آخر، لذلك يمتنع البعض عن نقاش الماركسيين في هذه النقطة ويقولون أثبت لي بالتجربة أولا..
والماديون بالطبع لديهم ردود على هذه الإشكاليات منها مقنع ومنها دون ذلك، لكن ينقصهم عامل التجربة، بيد إن مفيش تجربة مادية جدلية حدثت وارتقت بالأخلاق أو حققت مبدأ العدالة بشكلها المطلوب، لكن لديهم تفسيرات جيدة لنشأة الأخلاق كأن المجتمع الصناعي أخلاقه كذا وكذا..والزراعي..كذا وكذا، والصحراوي كذا وكذا، يعني إثبات لنظريتهم بطريقة عقلية فيها استقراء واستنتاج صحيح
أخيرا: وبعيدا عن تلك الإشكاليات فكل فكرة أو فلسفة طبيعي عليها مشاكل، حتى تصور الناس للأديان ينتج عنه مشاكل، ورأيي أن المادية الجدلية حركة تطور فكري وفلسفي هامة جدا لفهم الكون، وهي رغم عيوبها إلا أن مميزاتها لا تُحصى وبسببها حدث الضغط لارتقاء العالم والإيمان لأول مرة بالمساواة وحقوق الكادحين والانتباه لمعاناة الفقراء، فلولا هؤلاء الماديون ما رأينا مظاهرات العمال ولا حقوق الفقراء..ولا نهاية حالة الإقطاع المتفشية في القرون الوسطى، ويبقى مبدأ وجودهم إنساني في الأخير، أي حتى لو فشلت تجاربهم لكن وجودهم ضروري ورأيهم راجح لعلاج بعض الحالات، ومع التطور الذي يقولون به سيتطورون حتما، وربما نرى تجربة مادية جدلية ناجحة يشار إليها كنموذج.
اجمالي القراءات
11108