أستطيع أن أوكد بشكل حاسم – و قد تتفقون معي في ذلك – أن خريطة المنطقة قد تغيرت للأبد بعد موجة الربيع العربي التي بدأتها تونس و تلتها مصر. فالصفائح التكتونية المكونة للمجتمعات العربية كانت تضطرب منذ فترة كبيرة و لزمها التغيير الذي تصاحبه أحياناً موجات قد تكون مدمرة و قد لا تكون ، تعتمد في هذا علي قدرة كل دولة علي صد الزلزال و احتواء توابعه.
على كل حال ، ما يهمنا أن هناك تغييراً قد حدث، و لا سبيل حتي الان لمعرفة حدوده .
استوقفتني عبارة صاغها الاخوان نولان في رائعة “فارس الظلام” عندما صرح الجوكر لباتمان أن ظهوره قد غير الأوضاع و إلي الابد ، و لا عودة للوراء مهما حاول قادة المافيا .
هل ما حدث اذن كان ذا فائدة ؟ .. هل حققت تلك الثورات اهدافها ؟ .. هل من ماتوا في سبيل ذلك تحققت امنياتهم و رغباتهم ام ذهبت دماءهم سدي ؟ .. هل ما حدث كان بمساعدة غربية كما يروج محبوا نظريات المؤامرة ام ان السيل قد بلغ الزبي ؟
لا اعلم الاجابة علي تلك الاسئلة ،و لا اظن ان هناك من يمتلك الاجابة الحاسمة لأسئلة معقدة كهذه، لكني اعلم شيئاً واحداً ، ان اي تغيير لابد و ان يكون له جانب جيد و جانب سيئ.. موضوع هذا المقال لا ينتمي للجانب السيئ و انما يُعد في وجهة نظري أحد الجوانب الايجابية التي خرجنا بها من آتون الثورات و الفوضي الملحقة بها .
منذ الصغر تربينا علي رواية واحدة، نسخة واحدة للحقيقة ، للتاريخ و للمعاملات و للجغرافيا ، معادلة واحدة لا تتغير ، بدأت من منزل الأهل مروراً بالمدارس المُتحكم فيها و في كتبها المعدلة و المنقحة بدقة؛ لضمان عدم تشتيت الطالب ، انتهاءاً بالاجابة الموحدة في الامتحانات التي قد تتطلب رأياً، فلم يعرف أياً منا اجابة يسرد فيها رأيه الشخصي ؛ مخافة ان يتعارض رأيه مع نموذج الاجابة .. فيفقد بضع درجات قد تحرمه من تفوق مزعوم .
الان تغيرت المعادلة قليلاً .. فقد زال بعض الخوف تدريجياً و اصبح واضحاً إمكـانية البحث و التفحص في التاريخ بعمق .. و لا يُعد هذا خيانة و لا فسق بل – و في الوقت الحالي تحديداً – هو فريضة واجبة علي كل عاقل بالغ ! ..
فقد أنبأتنا تلك الفترة ان هناك روايات عديدة للتاريخ تختلف بحسب دينك و مذهبك و موقفك السياسي ،فمن يضمن لي أن روايتك هي الصحيحة و ان الاخر مخطئ ؟ .. ليس لمجرد احتفاظنا بنفس الديانة ، معنـاه أن اصدقك في كل ما تذهب اليه بالطبع .. بل ينبغي المراجعة و الفحص الدائم و المستمر .
اذن ، ما هي المصادر التي ينبغي الاعتماد عليها في مراجعة التاريخ ؟
البعض يتوهم أن الاعلام المرئي و المسموع هما فقط الاعمدة الاساسية في تكوين رأي عام شامل عن موضوع معين. لا يوجد اعلام الآن دون تحيز لقضية معينة ، حتى لدرجة المحاولة لإعادة كتابة التاريخ بالطريقة التي تناسبه !
بالتالي يعتمد الناس احياناً علي مصادر متحيزة و قد تكون بلا مصداقية سوي لمتابعيها..يصعب في بحر الجنون الغارقة فيه جميع الاطراف أن تجد من يتحدث بمصداقية و بحكم رشيد سليم دون خضوع لأهواءه الشخصية،فالجميع يتحدث .. و الجميع لا ينصت .
ماذا عن الكتب ؟
لا يوجد إعلام عمره ثلاثمائة سنة !
لكن هناك كتب عمرها الاف السنين ، الغريب ان هناك من يخاف من قراءة مثل تلك الكتب التي تعيد النظر في ما يجري حولها من احداث.. البعض يخاف قراءة كتب تتحدث عن تلك الفترات، مرتعباً مما قد تحمله من أفكار و حقائق تغير وجهة نظره كاملة في الأمر و قد تشككه في دينه،و اذا حاولت تبصير البعض بما دار في تلك الفترة انقلب عليك و اتهمك بترويج روايات دينية مذهبية ( مسيحية أو يهودية ) ، او روايات مذهبية شيعية او سنية حسب موقعك من الإنتماء الديني والمذهبي.. و اذا كانت القضية تخص الفريقين ، فالناس تتأثر بمذاهبها أكثر مما تتأثر بحقائق التاريخ المُجردة !
نعتقد ونؤمن أن الدين مصدراً للراحة و الفهم لكن نجد تعبيراتنا عنه تبذر بذور الانقسام .. يصعب العثور علي من يراجع ضميره او يتفحص ذاته علي جانبي خط التقسيم في الوقت الحالي.
الذين لا يذكرون الماضي ، محكوم عليهم ان يعيشوه مرة اخري !
مثال : هل يوجد بالفعل نموذج سياسي للخلافة الإسلامية ؟
كان الرسول هو الحاكم و يستشير في ذلك صحابته ، ثم مات الرسول و لم يستخلف احداً سوي أن أمّـر أبا بكر فصلّي بالناس و أصبح ابو بكر الخليفة و كان يستشير باقي الصحابة ايضاً.. ثم وصي ابو بكر بعمر بن الخطاب فأقام عمر العدل و انشأ الدواوين و عندما طُعن خاف من أن يولي حاكماً يتحمل هو وزر أفعاله لو أخطأ ، فاختار ستة يختارون من بينهم خليفة ، فنزع عبد الرحمن بن عوف نفسه و نزل الي الاسواق و الشوارع يسأل الناس فكانت المفاضلة بين علي و عثمان .. و استقرت الخلافة لعثمان في بدايتها ..
ثم ما لبثت الفتن أن بزغت و عارضه بعض الصحابة و اشتد عليه البعض حتي قُتل في بيته ، و تمت مبايعة علي وسط توتر عارم انتاب الدولة الاسلامية ، ثم قُتل علي و تولي معاوية غصباً و هكذا اصبحت الملكية هي الطريق..
مما سبق نري ان الجميع اجتهد في وضع نظام سياسي يناسب ذلك العصر ، لكن لا يوجد نظام سياسي ثابت و مستقر تسير عليه الدولة ، أما الدين – بشكل عام – فرسم حدوداً عامة و ترك للمسلمين تدبير أمورهم، في الماضي كانوا صحابة النبي و خاصته و قد اجتهدوا فأصابوا و أخطئوا ..
أما الان فلا يوجد صحابة ! .. و لا توجد تلك الثقة العمياء ، فعمر كان يعزل الولاة ممن بدرت عنهم شكوي ، و رفض عثمان اعتزال الخلافة عندما التهبت الدولة،فمن يضمن العدل في تعيين و عزل الولاة ؟ و من يقرر بقاء و عزل الخليفة ؟
ربما لو اتيح الوقت للتجربة السياسية الوليدة لكان لها شأناً آخر ، لكن الفتن المتصاعدة و الرغبات الدفينة في السلطة وأدتها سريعاً .
نتيجة لذلك ابتكرت بعض الدول النظام البرلماني أو الجمهوري و هي نظم ليست ديموقراطية بالكامل حتي ! .. و بعضهم اختصر الطريق الي ديكتاتورية تريحه .
مثال آخر : هل انتصـر العرب في حرب اكتوبر ؟
نتيجة بعض الظروف السياسية الاخيره في مصر وسـوريا اشتدت موجة من التشكيك تطال الجيشين و معركة اكتوبر و غيرها .. تقول أن العرب انهزموا – او علي اقل تقدير – انتهت المعركة الي تعادل او نصف نصر .
وجهة نظري بعد قراءة مطولة في الامر انه كان انتصاراً تثبت ذلك نتائجه السياسية ، فالحرب ليست سوي اداة من ادوات السياسة يستخدمها السياسيون للوصول الي مكسب مربح في النهاية ، و هو ما حدث في النهاية ،لكن تظل معركة الثغرة – على الجبهة المصرية – نقطة سوداء في الحرب نتيجة تقصير من قادة الحرب و تدخل سياسي خاطئ في القرارات العسكرية،فالأصل أن يصدر القرار السياسي و يُترك الامر للعسكريين في تقدير المعركة و وضع الخطط و السيناريوهات المتوقعة و ليس العكس .
في النهاية الامر متروك لك لتؤمن بما تشاء ، لكن تذكر ان ما تؤمن به قد يكون خاطئاً في النهاية .. المعرفة و البحث و التقصي الدائم هم وحدهم من قد يرشدوك في رحلتك ، حتي الدين يتم تسخيره حالياً في خدمة قضايا معينة ..
حاول ان تتمتع رحلتك الي اقصي درجة ، لتكن الحقيقة و الحقيقة وحدها هي هدفك بعيداً عن اي انحيازات مسبقة ، و لا تخف مما قد تجده في النهاية مهما كان !