الثورة المضادة..إلى أين؟
في أعقاب ثورة يناير في مصر تم تنفيذ الخطة الأولى التي تم التجهيز لها لسنوات وهي.."تهيئة الحكم للإسلاميين"..على غير مقاصد الثورة التي رفعت شعارات لا تتعلق بالحكم الإسلامي، وكأنها تجربة إيران ماثلة في الأذهان تريد العودة بأقل الأثمان..
في وقت كانت فيه المعارضة منقسمة لأول مرة..فانقسم الشيوعي مع الليبرالي، والعلماني مع الإخواني، والمسيحي مع السلفي، والمؤمن مع الملحد، والنظامي مع الفوضوي، وظهرت هذه الإشكالات دفعة واحدة حتى خلقت (برجلة ولخبطة) عند رجل الشارع العادي، الذي بات من أمره حيران لا يفهم ما يدور حوله.
كان الحكم الإسلامي يلزمه أولا بيئة (لا تعرف شيئا) ممسوح عقلها بأستيكة لكي تخلص من أوهام –وحقائق –الماضي، فالإسلاميين ليسوا ذوي سمعة جيدة ووصولهم للحكم يلزمه هذه السمعة، وعليه فلابد من إحداث الفوضى للوصول إلى مرحلة أنك (لا تعرف شيئا) كي يظهر الإسلامي كمُخلّص من الفوضى وداعي إلى الوحدة، وخرجت تصريحات بديع ومكتب الإرشاد تثني على الجيش وتعظم من الدولة وتدافع عن السلطة..بل والأكثر من ذلك تتهم حلفائها في الماضي بالخيانة..
سارت الخطة على أكمل وجه حتى صعد مرسي إلى الحكم، هنا تم الانتقال للخطة التالية وهي الضغط على الإسلاميين للانفتاح، فإذا لم ينجح الضغط يتم إقصائهم بتجربة حكم فاشلة وتاريخية لن تسمح لهم بالصعود بعد ذلك أبدا..ووقع الإخوان في الفخ..فلم يدر بخلدهم أبدا أن ما سار وتم الترتيب له من بعد يناير كان يقصدهم هم بالذات..وأن استيعابهم ضمن منظومة الديمقراطية كان بهدف الانفتاح واستيعاب أصوات المتدينيين وزيادة مسحة الاعتدال (كما في المفهوم الأمريكي) وبالتالي فشلهم في الانفتاح يعني نهاية أبدية.
تم إقصاء الإخوان وبثورة شعبية تم التخطيط لها بدقة، وأصبحت شعارات الحرية والديمقراطية تتعارض مع مفهوم الإخوان، باعتبارها شعارات ثورية ضد الإخوان بالأساس، فحكم العقل أن النقيضين لا يجتمعان، وعليه فلا حجة للإخواني بالحديث عن الحرية أو الديمقراطية، وعلى رأي من قال.."سقط القناع"..ونفس ما حدث للإخوان في مصر حدث للمعارضة في سوريا..حتى وقعت في كل ما أنكرته على بشار من قتل وطائفية واستقواء بالأجنبي وكذب وتحايل..إلخ..وهي خطة-ربما لم تكن مرسومة-كانت تعتمد على تثوير الشارع الديني، وهو الهدف عموما من ثورات الربيع العربي لإفساح الطريقة أمام نُظم جديدة تكسر القيد والجمود الذي أصاب العرب لعقود.
ظهر بعد ذلك أن ثورة يناير لم تكن سوى محطة من محطات التغيير في الشرق الأوسط، وأن المحطات الأخرى يلزمها السير بنفس الأسلوب في حال تشابه الأطراف والأحداث، أو ابتكار أسلوب جديد يُحسن التعامل مع أطراف أخرى صعدت لقبة الحكم لكن ليست بالقوة التي تنجح فيها بالتصدي أو باحتواء الهجمة..
ومثال ذلك في مصر
فنظام السيسي يقع فيما وقع فيه الإخوان بالحرف، اضطهاد وقمع لكل ما هو مخالف، تشويه الخصوم باستعمال أبشع الأساليب الدينية والأمنية، تهديد وإرهاب المعارضة حتى تكف عن النقد وتقنع بوضعها في سياق النظام الجديد..ومثلما كان الإخوان هم الثورة المضادة الأولى والتي سرقت الثورة الأصلية في يناير، فنظام السيسي هو الثورة المضادة الثانية والتي سرقت الثورة الأصلية في يونيو.
هذا يعود بالأساس لضعف حركة المعارضة في الشارع المصري، واعتماد السلطة على قوى غير حزبية وجمهور أمي في التمكين، حتى بات هذا الجمهور الأمي هو الذي يحكم بالفعل..والمعروف اصطلاحا.."بحزب الكنبة"..فهو حزب لم ولن يشارك في السياسة إلا لتمكين بعض الجهات، وهذا يعني أنه حزب من غير برنامج ولا رؤية مطلقا، وكل ما يريده ويردده.."سمعا وطاعة يامولاي"..وما من سلطة تصعد على أكتاف هذا الحزب إلا وتُصاب بداء العَظَمة بعد اقتناعها التام أنها الزعيم الأوحد والمنقذ والمخلص لهذه الأمة المقدسة..!
فطبيعة حزب الكنبة أنها تنطلق من مفاهيم أممية .."كالدولة والأمن والاستقرار"..وهي مفاهيم قيمية مقدسة، وطالما قلنا مقدسة يعني يمكن استعمالها ضد أي مخالف، بحيث لو اختلفت مع فلان يمكنك اتهامه بتهديد الدولة والأمن والاستقرار، بالضبط كما لو اختلفت مع فلان يمكنك اتهامه بالكفر والبدعة ، وقد حدث ذلك أيام الإخوان ضد جبهة الإنقاذ ورموزها كحمدين صباحي والبرادعي، ويحدث الآن في زمن السيسي ضد نفس الرموز السابقة إضافة إلى بعض النقابات كالأطباء والصحفيين..
ومع ذلك هذه المفاهيم جيدة للحفاظ المجتمع من انخراطه في الفوضى، أو ضياعه-بغير قصد منه-في آتون الفتنة، يعني في المحصلة هو حزب شعبي له مرحلة تاريخية ينشط فيها، لكن في نفس الوقت وجوده يؤدي للإفراط في الشوفينية والطائفية الدينية والانغلاق ويؤدي كذلك إلى القهر والاستبداد..وهي معالم الآن موجودة في نظام السيسي بشدة..بحيث لم يعد في الإمكان الاختيار بين بديلين أحدهما الفوضى..فحتى لو كان البديل مجرد وهم فمجرد رفعه في الشارع والحديث عنه في الإعلام كافٍ جدا للحشد..
النتيجة المؤكدة لكل ذلك هو استقطاب سياسي يؤدي بالتدريج إلى اقتتال داخلي بأي شكل، ليس بالضرورة أن يحدث عسكريا..ولكن حتى لو حدث في الإعلام ومواقع التواصل فهو يكفي كمرحلة، فالحالة الاستبدادية تجعل من الشعب المقهور عدة فرق تتصارع على الفوز بحقيقة هي بالأصل وهمية، لأن الاستبداد لا يسمح للشعب بمعرفة الحقيقة، ويحرص دائما على تضليله بشتى السبل، بحيث لو اقترب من الحقيقة ينتفض النظام الأمني مكشراً عن أنيابه ليقتل كل نوزاع التمرد ، وكذلك يقتل كل البدائل المتاحة
لذلك أؤمن أن التغيير في مصر لن يحدث من صندوق الانتخاب لعدم السماح بوجود البديل من قوة أعظم كالجيش..ولدينا تجارب..لقد أصبح هذا الصندوق أداه بيد الاستبداد تم اختباره مرتين بعد ثورتي يناير ويونيو، وقد أنتج في الحالتين نظاما متشابها في السياسة..وإن اختلف في الطبيعة والأهداف، فنظام مرسي كان ديني يهدف لأسلمة المجتمع وقيام الخلافة، بينما نظام السيسي يهدف للسيطرة والحكم العسكري، رغم أن الدين مكانه المسجد والقيم والأخلاقيات، والجيش مكانه في الحدود للحماية، وهما القوتان اللتان تتصارعان الآن في مصر بوصفهما انعكاس لأزمة شعب كامل مع السياسة منذ زمان عبدالناصر.
الثورة المضادة تعتمد على أكاذيب ومبالغات وبروباجاندا، بحيث أن خبرا كمقتل 6 جنود مصريين في سيناء ليس بأهمية مقتل مواطن مصري على يد أمين شرطة، وهذا يعني أن الثورة المضادة تسير بمشروعها في الاتجاهين ضد النظام والمعارضة معا، فهي –كثورة مضادة-تعني قتل كل أهداف ووسائل الثورة الأصلية، ومع ذلك هي سهم نافذ ومسموم ضد السلطة خصوصا في عصر الإعلام الذي ينقل الآن كل صغيرة وكبيرة..حتى لو كانت كذب بغرض التشويه والإنجاز..
اجمالي القراءات
6653