بعكس ما يدعيه بعض الغلاة، هنا أو هناك، لا يناصبنا، نحن المسلمين، العالم العداء أو الكراهية. إن العالم فقط يريد أن يفهم الإسلام والمسلمين المعاصرين، ولماذا بعض شبابنا غاضبون للدرجة التي يفجرون فيها أنفسهم وغيرهم من المسلمين (في العراق ومصر وإندونيسيا والمغرب وتركيا) وغير المسلمين (في نيويورك وواشنطون ومدريد ولندن)؟ وما هي التربية والتنشئة الاجتماعية التي تحول أي إنسان مسلم إلى جهاز للقتل والفتك والدمار، على النحو الذي شاهده العالم أو اكتوى به في السنوات الأخيرة؟
هذه وأسئلة مثلها صادفتها في جولاتي الخارجية في السنوات التي تلت تفجيرات واشنطن ونيويورك (2001)، وبالي في إندونيسيا (2002)، والدار البيضاء في المغرب (2003)، ومدريد في أسبانيا (2004)، وطابا المصرية (2004)، ولندن في بريطانيا (2005)، وأخيراً شرم الشيخ. وحينما وقعت هذه الأخيرة تصادف وجودي في إيطاليا للمشاركة في جلسة استماع للجنة الأمن والشئون الخارجية في البرلمان الإيطالي، ثم المشاركة مع أكثر من مائة مفكر وخبير من الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا في مؤتمر عقد في البندقية، بعنوان "التعددية السياسية والانتخابات الديمقراطية"، الذي نظمه عدد من المؤسسات الأوربية، أهمها منظمة "لا سلام بلا عدالة"، التي ترأسها البرلمانية الأوروبية النشطة عالمياً، إيما بونينو.
كان عليّ الإجابة على أسئلة الأوربيين والأمريكيين: نعم المسلمون غاضبون لما وقع عليهم، وما زال يقع، من مظالم وانتهاكات واستغلال وإذلال. وانظروا إلى جراحنا التي ما زالت تنزف ـ في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان، والسودان. وبسبب هذا الغضب العام بين جمهرة المسلمين، فإن بعضاً من شبابنا فاض به الكيل، فاستجاب للنداء المأثور "عليّ وعلى أعدائي"، أي فالأضحي بنفسي، ما دمت ساقتل آخرين من أعداء المسلمين!
كان الغربيون يستمعون، ويهز معظمهم رؤوسهم اتفاقاً مع مقولتنا أنه لا يمكن أن يستتب السلام ويسود الوئام دون حلول منصفة وتسويات عادلة للمشكلات المزمنة في بلاد المسلمين ـ من كشمير إلى فلسطين.
وكان البرلمان الإيطالي ينظر مشروع قانون يتشدد في قيود الدخول والخروج بالنسبة للوافدين غير الأوروبين. وكان الجميع يدرك أن المقصود بمشروع القانون هم أساساً المسلمين، خاصة أن المشروع الإيطالي قدم للبرلمان في أعقاب قانون مشابه، اعتمده البرلمان الفرنسي بعد تفجيرات لندن. وكانت أحد حججنا ضد مشروع القانون في جلسة الاستماع هو أن الجيل الجديد من الإرهابيين هو أوربي المولد والنشأة، وبالتالي لن تجدي كثيراً القيود المتشددة الجديدة والمقترحة. وأن الأفضل هو استراتيجية "الوقاية خير من العلاج". وبالتالي على الإيطاليين أن يقوموا بمجهود أكبر لإدماج المليون مسلم إيطالي في المجرى الرئيسي للمجتمع الإيطالي، حتى لا يشعروا أنهم "غرباء" بكل ما يصاحب مشاعر "الغربة" "بالدونية"، والسخط والحرمان، وهي نوافذ يدلف منها التعصب والكراهية، وبالتالي التهيؤ للتجنيد في صفوف التطرف ثم الإرهاب.
وفي أثناء جولتي الأوربية هذه، والتي شملت بلغاريا وألمانيا وفرنسا، إلى جانب إيطاليا، لم تغب مصر عن خاطري، فكنت أتابع أخبارها. وضمن ما صدمني من أخبار مصر ذلك الذي تناقلته وسائل الإعلام عن اعتزال المفكر الإسلامي الكبير د. سيد القمني، وتبرئه من كل كتاباته السابقة. وقد فعل الرجل ذلك بعد أن تلقى سلسلة من رسائل التهديد بالقتل، ما لم يفعل ذلك في غضـون أيـام معـدودات. وأبلـغ د. القمني كل الأجهزة الأمنية المعنية في مصر المحروسة. وألح الرجل على الأجهزة الأمنية، مع كل يوم يمر من المهلة المحددة أن تحميه. ولما أيقن هو وأولاده أنه لا حياة لمن ينادون من الأجهزة السبعة المسئولة عن أمن مصر والمصريين، لا بد وأن مشاهد الاغتيالات للمفكرين السابقين قد تسارعت إلى مخيلاتهم. ولا بد أنها أصابتهم بالفزع، فحاصروا أبيهم، وتوسلوا إليه أن يستجيب ويلبي طلبات الإرهابيين، الذين ادعوا أنهم خمسة من "أسود الإسلام"، الذين سيكفرون عن ذنوبهم بسفك دمه، مرضاة لله سبحانه وجلاله في الآخرة. واستجاب الدكتور القمني للإرهابيين ولأفراد أسرته ولإهمال الدولة المصرية.
تأكدت من تفاصيل المشهد من مفكرنا الكبير نفسه، خلال حديث تليفوني طويل. ولم أكد أفرغ من الحديث حتى قرأت في صحيفة الهيرالد تربيون الدولية (27/7/205) تفاصيل الحكم الذي أصدرته محكمة هولندية على الهولندي المسلم من أصل مغربي، واسمه محمد بوعيري (27 عاماً)، في جريمة قتل بشعة لفنان هولندي اسمه ثيو فان جوخ، كان قد أنتج فيلماً توثيقياً عن معاناة المسلمات الهولنديات، اللائي نشأن في مجتمع ديمقراطي مفتوح على أيد أزواجهن الشرقيين الذين يصرون على معاملتهن معاملة الجواري والحريم ـ أي كمجرد أجساد للمتعة. اعتبر المغربي محمد بوعيري الفيلم إساءة للإسلام والمسلمين، فقام وحده بمحاكمة الفنان المسئول عن الفيلم وأصدر، ونفذ بنفسه حكم الإعدام. لقد فزع الرأي العام الهولندي خصوصاً والغربي عموماً لتفاصيل الجريمة البشعة. من ذلك أنه بعد أن أطلق محمد بوعيري الرصاص على الفنان الهولندي الكبير (2/11/2004) وأرداه قتيلا، هجم عليه وحاول قطع رأسه، كما تذبح أي شاه أو دجاجة. أنكى من ذلك أن محمد بوعيري أثناء المحاكمة اعترف بكل ذلك ولم يبد أي ندم أو استعداد للتوبة، بل وجاهر أنه إذا أفرج عنه فأنه سيفعل نفس ما فعله في المخرج الهولندي في أي شخص آخر يسئ في نظره إلى "الإسلام". وقال القاضي الهولندي الذي حكم على محمد بوعيري بالسجن مدى الحياه واسمه أودو وليام بنتنك، "أن هذا الرجل (مشيراً إلى محمد بوعيري) أساء إلى الإسلام والمسلمين، بدعوى أنه يدافع عنهما. وقد أصبح وجوده وأمثاله حراً بيننا خطر داهم على الإنسانية جمعاء...".
إن الأسود الخمسة الذين كلفوا من أمرائهم بقتل د. سيد القمني، لا يختلفون في كثير أو قليل من حيث التركيبة العقلية والنفسية عن المغربي محمد بوعيري، ولا عن المصريين الذين قاموا بتدميرات طابا في 6 أكتوبر، وتدميرات شرم الشيخ في 23 يوليو الماضيين، ولا الباكستانيين الإنجليز الذين قاموا بتفجيرات لندن في 7 يوليو، ولا أولئك الذين قاموا بتدميرات قطارات مدريد في 11 مارس 2004، أو قبلها في أمريكا في 11 سبتمبر 2001، ولا عن الذين حاولوا اغتيال كاتبنا الكبير نجيب محفوظ قبل عشر سنوات، ونجحوا في اغتيال د. فرج فودة في يونيو 1992.
إن أصحاب هذه العقلية التكفيرية الاقصائية لا تعترف بمن يختلف معها، وتنفي كل من يختلف عنها ديناً أو عنصراً. ثم يتلو ذلك منطقياً التهيؤ لإبادة "الآخر" المختلف. وهو ما يفسر هذه الموجة التدميرية الانتحارية الإرهابية التي يقوم بها بعض الغلاة المتطرفين باسم الإسلام من بالي في إندونيسيا إلى الدار البيضاء في المغرب.
لقد جاءت مسألة د. سيد القمني لتمثل وتلخص محنة المسلمين المعاصرين، فهم بدلاً من دخول سباق التقدم مع الصينيين والهنود في القرن الحادي والعشرين، نراهم يولون الأدبار، في سرعة جنونية مرتدة إلى القرن الحادي عشر. وبدلاً من أن يحتفوا بمفكر مبدع مجتهد مثل القمني نجد الجهلاء والغوغاء والغلاة منهم يقيمون له محكمة تفتيش لشنقه أو قطع رقبته كما فعل أمثال لهم في عصور ظلام وانحطاط سابقة مع سقراط، والحلاج، وابن رشد، وجاليليو. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
اجمالي القراءات
14622
هى فعلا محنة ندعو الله أن ينجينا منها ومن تبعاتها انة على ما يشاء قدير.
ولا حول ولا قوة الا بالله
---------------------