نعم الإعلام له مهمة تنويرية، في شعوب مثل شعوب منطقة الشرق الأوسط، لكن هذا لا يمكن أن يعني أن يتحول الإعلام بالكلية إلى مجرد بوق للحاكم، وأن يتلاشى دور الإعلام الأساسي، في عرض حقائق الواقع العيني للجماهير بأمانة وشفافية. كما لا يمكن أن يعني اختصار التنوير المزعوم، في تحويل رؤية الحاكم إلى دوجما سياسية، تضاف إلى أخواتها من صخور الدوجما، التي تعترض سريان نهر التنوير الحقيقي بالمنطقة.
أفهم أن يجتمع رئيس جمهورية مصر بقيادات السلطة التنفيذية التي يرأسها، لبحث الخطوات القادمة، لتحقيق الإنجازات المنتظرة، فهؤلاء هم "أهل الفعل". أما اهتمامه الذي يبدو زائداً بالإعلاميين "أهل الكلام"، فأمر مثير للقلق. فالمفترض أن "أهل الكلام" يلهثون خلف "أهل الفعل"، لمتابعة إنجازاتهم ونشر أخبارها، لا أن يلهث "أهل الفعل" وراء "أهل الكلام"، لتجييشهم، باسم "إعادة تشكيل الوعى العام لدى المواطنين"، فهذا شعار براق وسيف ذو حدين. قد يستخدم في نشر ما عرفته شعوب العالم من تنوير، كما قد يستخدم لخلق عالم مواز، من الانتصارات والإنجازات الوهمية، تعمي العيون عن حقائق الواقع الفاشل. عفواً، لا أظن الوطنية حفلات طبل وزمر جماعي، فلقد جربنا هذا، وانتهى بوكسة 1967. الوطنية احترام للنفس، وعمل جاد وشاق ومدروس، من أجل إنتاج حقيقي، كاف لتوفير ما نصبو إليه من حياة أفضل. نعم تجييش الإعلاميين وتوظيفهم في عملية حشد ديماجوجي، قد يراه الحاكم أمراً ضرورياً، لكي يستطيع تجميع الشعب خلف هدف نبيل يقول أنه يسعى إليه، بعد حالة التشظي والتشرذم، التي ترتبت على "هوجة 25 يناير 2011". لكن هذا الحشد الإعلامي الكاسح، قد يستخدم أيضاً للتعتيم على ما يحدث حقيقة على أرض الواقع، وعلى خنق أصوات التنوير التي نحن في أمس الحاجة إليها.
المصريون وسائر شعوب الشرق يحتاجون بالفعل إلى "إعادة تشكيل الوعى العام لدى المواطنين"، فالحادث أننا أسرى أفكار وقيم ومفاهيم الماضي، التي وإن افترضنا أنها كانت صالحة في حينها، إلا أنها الآن كما نرى، صارت بمثابة أغلال تقيد أيادينا وأرجلنا، بل وتسحبنا إلى السقوط في هاوية الوحشية البدائية البشرية الأولى، وفق ما نراه من مهازل وجرائم دولة داعش الإسلامية. الحاضر هو ابن للماضي، ويحمل صفاته الوراثية. ويتطلب التقدم أن نحاول قدر المستطاع الفكاك من أسر الماضي، لنغرس نبتات جديدة، تثمر مستقبلاً مختلفاً. إذا سد علينا الماضي كل السبل، فليس أمامنا للوصول للمستقبل الأفضل، إلا أن ننسف هذا الماضي، كما ننسف الجبال لشق طريق جديد.
في مصر التي هي أكثر دول مجموعة "الربيع العربي" استقراراً، بعد نجاح شعبها وجيشها في القيام من كبوة السقوط تحت أقدام ذئاب الظلام وجمهوريتهم الدينية، لا يبدو الحال مبشراً، بالسعي الجاد نحو تجديد فكري، يجفف مستنقعات إنتاج فكر الإرهاب وذئابه، ممثلة في أعرق مؤسسات الدولة المصرية. فمازالت مقررات الأزهر الدراسية على حالها، تلقن النشء أفكاراً مفارقة للزمان والمكان. ومازالت دعاوى الحسبة سيفاً مسلطاً على دعاة التنوير وتنقية التراث، رغم الظن بأن النائب العام، الموكل إليه رفع قضايا الحسبة، لابد وأن يفرق بين الآراء التي تتضمن ازدراء للأديان، ما يجرمه القانون، وبين اختلاف الرؤى الدينية، لدى أصحاب العقيدة الواحدة. تجري الآن محاولات مستميتة، لسد الثقوب التي يصنعها بعض المارقين في جدار الظلمة.
في بلادي محظور أن تقلب الأرض السبخة. محظور أن تتأفف من رائحة العفن. محظور أن تفتح النوافذ فيتسلل النور. محظور أن تزعج المنطرحين على أرصفة المقاهي وأعتاب أوكار الحشيش والأفيون. في بلادي من حقك أن تأكل وتشرب وتتناسل. من حقك أيضاً أن تكره وتُكَفِّر وتُخَوِّن وتَسُبَّ الآخرين. لكن إحذر من عدوى التفكير، فهي توردك موارد الهلاك. أعتقد أن ما ينقص الشعب المصري، بأكثر من القدرة على التفكير، هو شجاعة التفكير. ربما نحتاج لأن نكنس من جماجمنا تلال من النفايات. وأن نغسلها بالماء والصابون. ثم نبدأ من نقطة الصفر. نقول هذا في مقابل ما يروج بالساحة المصرية الآن، ويشير إلى أن لسان حال أصحاب الفضيلة والقداسة في المؤسسات الدينية المصرية يكاد أن يقولها لنا صريحة، أنه "من البلاهة أن تطبخ طعامك، في حين يمكنك طلبه جاهزاً من المطعم. ومن الحماقة أن تعمل عقلك، ولديك مؤسسات دينية تعطيك إجابات جاهزة لكل المشاكل والأسئلة". هذا التمسك "بالنقل"، والإصرار على عدم إعمال "العقل"، أيرجع بالدرجة الأولى إلى عجز طبيعي في قدرات العقل، أم هو الاعتياد والتنشئة منذ الصغر، أو أن العقل المصري قد ضمر من عدم الاستعمال، وأصبح أشبه بالزائدة الدودية؟
لن نجد تسامحاً وحرية رأي، طالما لم يتوصل الناس لرؤاهم بأنفسهم، وظلوا يعتمدون على النقل وليس العقل، فيرددون ثوابت أصحاب الفضيلة والقداسة، بلا وعي حقيقي بما يرددون. الإنسان المفكر يتقبل عادة النقد والمراجعة، أما الناقل عن أسياده أصحاب الفضيلة والقداسة، فيعتبر النقد لما يردد، جريمة ترتكب في حق نواب الإله على الأرض، وليس غريباً عليه هكذا أن يلجأ إلى رجم الناقد بأحجاره وبذاءاته. عبثاً تنتظر من دولة دينية أو شبه دينية، ذات النتائج التي لا تتحقق إلا في ظل دولة علمانية صريحة مستقيمة.