التمهيد لكتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية ):
سيطرة التصوف على العصر المملوكي

آحمد صبحي منصور Ýí 2014-11-28


التمهيد : التصوف عقيدة وتاريخاً

  سيطرة التصوف على العصر المملوكي

1 ــ تكفى قراءة سريعة لبعض صفحات الحوليات التاريخية المملوكية لنتعرف على سيطرةالتصوف على العصر المملوكي، ولأن التصوف العملي يعني الاعتقاد في الشيخ حيا أوميتا فإن عبارة (المعتقد) بفتح القاف تتردد كثيرا في وصف الآلاف المؤلفة من الأشياخالذين حفل بهم العصر، وبنفس الطريقة يوصف الآخرون بأن  أحدهم (حسن الاعتقاد) أي( مؤمن مخلص ) بالأولياء الصوفية ، وهذا ما تعارف عليه العصر ورددته المصادر التاريخية دليلا على عمق التأثر بالتصوف وسيطرته .

المزيد مثل هذا المقال :

2 ــ ومع جبروت السلطة المملوكية  فقد كان السلطان المملوكى يؤمن بالتصوف ويخضع للشيخ الصوفي يلتمس منه البركات ، وتفصيل ذلك يخرج عن المطلوب ،ولكن نكتفي ببعض الأمثلة :

فالظاهر بيبرس بدهائه وسطوته واستبداده سمح بوجود نفوذ للشيخ خضر بل،وتغاضي عن انحلاله الخلقي لأنه يعتقد في ولايته وفى معرفته للغيب (59)، ومع حنكة برقوقالسياسية فقد كان يخضع للمجاذيب حتى أن أحدهم وهو الزهوري (كان يبصق فيوجهه )( 60 )، وعندما افتتح مدرسته الجامعة أعطاه مجذوب (طوبة ) وأمره أن يضعها فيالمدرسة ، فوضعها برقوق في قنديل وعلقه في المحراب ، وظلت فيه باقية ، يقول عنها ابن إياس في القرن العاشر (فهي باقية في القنديل حتى الآن )(61).

3 ــ ومن دراسة بعض المصادر الصوفية يتضح إلى أي مدى كان الولى الصوفي يتسلط علىمريده الأمير، وكان ذلك عاديا لا يستوجب عجبا ولا إنكارا ، وإلا ما قرأنا هذا الكلامللشعراني في تقعيد علاقة الشيخ بمريده إذا كان أميرا مملوكيا، يقول الشعرانى مفتخرا : ( وما منّ لله على إني لاأحجب أحدا من الأمراء إلا إن غلب على ظنه دخوله تحت طاعتي بطيبة نفسه ، بحيث يرىخروجه عن طاعتي من جملة المعاصي التي تجب التوبة عليه منها فورا ..) ( وكل أمير لاينشرح صدره ويفرح بقلبه بالخروج عن جميع وظائفه وماله ونسائه ورقيقه ودوره وبساتينهإذا أمره شيخه بذلك فلا يصلح للفقير ـ أي الصوفي - أن يصحبه.) (... ومن أدب الأمير معالفقير أن يراه في غيبته أعظم حرمة من  بعض ملوك الدنيا) . وفى مقابل خضوع الأميرالذليل لشيخه الصوفى كان الشيخ لا يلتزم بشيء تجاه الأمير، يقول زكريا الأنصاري للأشياخ( إياكم أن تتحملوا عن أميركم جميع الشدة التي نزلت به فتلحقوه بالنساء في العجز و الكسل والنقص  بل أمروه بالتوجه إلى الله تعالى في دفع تلك الشدة ) وعدّ الشيخالخواص (من جهل الأمير رمى حملته على شيخه ). ( الحملة تعنى المحنة ) ، ( ومن أدب الأمير ألا يطلب من شيخهأن يكون معه علي خصمه ، وألا يطلب مساعدة  شيخه ، وألا يرى الأمير فضلا له على شيخهبما يرسله إلي زاويته من أصناف الأطعمة  . وإذا طرده الفقير عن صحبته ألا يبرح بابه ولايجتمع بغيره من الفقراء ،  وعلى الأمير الخضوع والذلّة لشيخه ، وأن يوالى من يواليهويعادى من يعاديه ،( فمن عادى الشيخ فقد عادى الله )، وألا يطلب من الشيخ حاجة إلاوهو في غاية الذل والانكسار والفاقة ، وأن يأمن شيخه على عياله وحريمه ولو اختلى بهم ، ولا يخطر بباله أنه ينظر إلي إحداهن بشهوة ، وألا فقد أساء الأدب على الشيخ ، وأنيمرض لمرض شيخه ، وأن يحزن لحزنه ، وأن يرى النعم التي يعيش فيها من بركة شيخه ،وأن يرضى بحكم شيخه فيه كما يرضى العبد بحكم سيده.  والأمير مع الفقير كعبد السوءمع سيده الكريم الواسع الخلق .  وعليه أن يعرض على شيخه كل قليل أفخر ما عنده منالنقود والملابس والمطاعم والمشارب إظهارا لشدة محبته له وبيانا لكونه لا يدخر عنه شيئا ،وأن يخلص النية كلما أراد الخروج لزيارة شيخه فلا تكون لعلة دنيوية أو أخروية )(62) .!!

لقدجعل أولئك الصوفية من أنفسهم آلهة على مريديهم من الأمراء والمماليك  وجعلوا لأنفسهمالغنم كله بلا مسئولية دينية أو إنسانية تجاه الأمير المريد، ولولا أن قلب العصر المملوكيكان ينبض بالتصوف لما جرؤ الصوفية على تقعيد مثل هذه العلاقة الغريبة بين الأميروشيخه الصوفي.

4 ــ والعمارة المملوكية التي لا تزال تزين القاهرة حتى الآن هي أصدق دليل علي ما بلغهالتصوف وأشياخه من منزلة وتأثير على المماليك مهما بلغت قسوتهم، وتلك العمارةالمملوكية آية من آيات الفن المعماري وقد خصصت كلها للتصوف وأنشطته الدينيةوالعملية.

5 ــ والحياة الفكرية والعقلية للعصر المملوكي إفراز لتأثير التصوف ، حيث دارت الحركةالعلمية بين شرح وتلخيص ونظم للمتون وإعادة شرح التلخيص والمتن دون ابتكار أوتجديد، وحيث فرض التصوف نفسه علما بين المناهج ، وحيث دارت الحياة العلمية فيالمؤسسات الصوفية ، وحيث تصوف العلماء وتقهقر مستواهم الفكري وطورد المجتهدونمنهم حين جرؤ على الاعتراض على الصوفية ،وليس التصوف ذاته  كما حدث لابن تيمية ومدرسته ، وبنفسالقدر الذي ازداد فيه تقديس الأولياء الصوفية الأميين ، وكان تقديس المجاذيب أكبر ما يعبر عن احتقار العصر المملوكي للعقل .

6 ــ والشارع المملوكي كان أصدق ما يعبر عن سيطرة التصوف على الناس ، فالتوسلبالأولياء كان  أبرز نشاط ديني واجتماعي للناس ، وليس مهما شخصية الولي الحي الذييتوسلون به ويقصدونه من كل الجهات ، فقد اشتهر (عبد اسود) بالولاية فتوافدوا عليه منكل مكان (63)، بل أن (طفلة صغيرة  ) بقليوب اشتهرت بالولاية فتوجه إليها الناس أفواجا(فبلغ كرى - أي إيجار - كل حمار من القاهرة إلى قليوب دينار اشرفيوتوجه إليها جماعة من الخاصكية والأمراء  والأعيان (64).

7 ــ ولا نجد أبلغ من وصف المؤرخ أبى المحاسن في اعتقاد الناس في المجذوب الشيخيحيي الصنافيري  يقول فيه ( اجمع الناس علي اعتقاده وهو لا يفيق من سكرته ، وكانالناس يترددون إليه فوجاً فوجاً من بين عالم وقاض وأمير ورئيس ولا يلتفت إليهم ، ولما زادتردد الناس إليه ، صار يرجمهم بالحجارة ، فلم يردهم ذلك عنه ، رغبة في التماس بركته ،ففر منهم وساح في الجبال (65).

وقيل فى بعض الأولياء الصوفية : (وكان شمس الدين الحنفي إذا حلق رأسه تقاتل الناس علي شعره يتبركونبه ويجعلونه ذخيرة عندهم (66)، واقتتل الناس على الشيخ الدشطوطي يتبركونبه (67)، وكان الشيخ محمد الديروطي لا يكاد يمشى وحده بل يتبعه الناس ( ومن لم يصلإليه رمي بردائه على الشيخ حتى يمس ثياب الشيخ ثم يرده  إليه ويمسح به وجهه )68)ورأى الشعراني ذلك المنظر ، وعلّق عليه  بقوله :( كما يفعل الناس بكسوة الكعبة (69) وذكرالشعراني عن نفسه أنه دخل الجامع الأزهر في صلاة جنازة فاكب الناس علية يقبلون يدهويخضعون له ،  وشيعوه حتى الباب حتى صاروا أكثر من الحاضرين في الجنازة (70).  وإذ مات الشيخ الصوفي تنافس الناس في الحصول على ماء غسله للتبرك به (71) .وشراء أثوابه التي مات فيها لأخذها حرزا ( 73 ) وحين مات الشيخ الشناوي  ( أقتتل الناسعلي النعش وذهلت عقولهم  من عظم المصيبة بهم ، وقد دفن في غفلة عنهم )71).

 8 ــ.ومن نافلة القول أن نذكر أنه لا فاصل بينالتصوف كمبدأ والصوفية كأشخاص، لأن التصوف مذهب بشرى، والبشر هم المشرعونفيه ، وكل صوفي يمثل التصوف الذي يدين به ، والتصوف في النهاية هو مجموع آراءأتباعه وتشريعاتهم ، وما يعيب الصوفية يعيب التصوف ، أما الإسلام ـــ شرع الله جل وعلا ـــ فهومختلف، فشرع الله يحكم على البشر،  فالإسلام لا شأن له بأخطاء المسلمين ، لأن خطأالمسلمين راجع إليهم وهم محاسبون عليه في الآخرة ، وعليهم أن يسيروا بحياتهم وفقكتاب الله ، فإن أصابوا كان خيرا لهم ، وان أخطأوا كان عليهم . ونقول هذا حتى تتضح الفوارقبين الإسلام والمسلمين والتصوف والصوفية.

9 ــ ونقرر كما إتضح من هذا التمهيد ــ أن الاسلام غائب فى حمأة هذا الصراع بين أديان المسلمين الأرضية : السنة والتشيع والتصوف .

10 ــ ولقد تعاظمت سيطرة التصوف حتى تسيد العصر المملوكي وأثر تأثيراً بالغ السوء في الحياةالسياسية و الحضارية والدينية والأخلاقية .

وموعدنا الآن مع الحياة الدينية في مصر المملوكية وكيف تشكلت وتأثرت بالتصوف.

 

 

المصادر

1ـ الرسالة القشيرية ط صبيح : 217

2 ـ الحلبي : النصيحة العلوية مخطوط :88

3ـ عبد الحليم محمود : أبو العباس المرسى 7 رقمه بدار الكتب 1129 تاريخ تيمورية أعلام العرب عدد84 سنة 1969 .

4ـ نكلسون في التصوف الإسلامي وتاريخه ترجمة أبو العلا عفيفي 28: 41، 66 : 69 ط 1947

5ـ التفتازانى: مدخل إلى التصوف 10 دار الثقافة 1974.

6ـ أبو العلا عفيفي: التصوف الثورة الروحية في الإسلام 38 :39 دار المعارف 1963 .

7ـ قاسم غنى تاريخ التصوف في الإسلام ترجمة صادق نشأت جـ1/ 273. مكتبة النهضة المصرية 1970 .

8 ـ التفتازانى:3

9ـ التفتازانى : 7

10ـ التفتازانى :3

11ـ التفتازانى :5

 

12ـ الرسالة القشيرية 218

13ـ التفتازانى : 4

14ـ الرسالة القشيرية :  218

15ـ الرسالة القشيرية :  217

16ـ تلبيس إبليس: 156. لابن الجوزي ـ المطبعة المنيرية .

17ـ الصوفية والفقراء 3 ، الفرقان 29 .

18ـ رسالته للدكتوراة عن التصوف 24: 33 .

19ـ نيكلسون 66: 69 .

20ـ التفتازانى : 26

21ـ أحمد محمود صبحي عالم الفكر 6/2/ 338 .

22ـ التفتازانى : 31 ،34 ، 112 ، 37 ، 39 : 40

23ـ التفتازانى : 31 ،34  ، 112 ، 37 ، 39 : 40

24ـ التفتازانى : 31 ،34  ، 112 ، 37 ، 39 : 40

 

25ـ التفتازانى : 31 ،34  ، 112 ، 37 ، 39 : 40

26ـ التفتازانى : 31 ،34  ، 112 ، 37 ، 39 : 40

27ـ الخطط جـ1 / 63، 386، 387 ط 1324 .

28 ـ مروج الذهب جـ2 / 401 . نشر بارتيه ورمنيار .

29ـ 1/ 233 .

30ـ المقدمة 467 . ط المكتبة التجارية .

31 ـ أبو العلا عفيفي 59: 64 ، 57 : 59 .

32ـ أبو العلا عفيفي 59: 64 ، 57 : 59 .

33ـ تلبيس إبليس : 155 .

34ـ التفتازانى : 113 ، 107 ، 106 ، 112 .

35 ـ أبو العلا عفيفي 59 : 64 .

36ـ الإحياء : 3/ 341 : 343 ، 199، 344 : 347 المطبعة العثمانية .

37ـ الإحياء : 3/ 341 : 343 ،199 ، 344 : 347 المطبعة العثمانية

38ـ عجائب الآثار 2/ 36   ط 1959 .

39ـ الرسالة القشيرية 94 الإحياء 4/ 97 .

40ـ الإحياء  4/ 195 :196 ،187 :188 ،189: 191 ،193 ، 197 ، : 198

41ـ الإحياء  4/ 195 :196 ،187 :188 ،189: 191 ،193 ، 197 ، : 198

42ـ الإحياء  4/ 195 :196 ،187 :188 ،189: 191 ،193 ، 197 ، : 198

43ـ الإحياء  4/ 195 :196 ،187 :188 ،189: 191 ،193 ، 197 ، : 198

44ـ تنتهي السلاسل الصوفية برواد الزهد ثم تصلهم بالنبي .

45ـ الرسالة القشيرية 15، 16 ،32 .

46ـ الرسالة القشيرية 15، 16 ،32 .

47ـ الطبقات الكبرى للشعراني 10 ، 13 ، 14 ط صبيح .

48ـ تلبيس إبليس 162، 158 .

49ـ الرسالة القشيرية 31 : 32 .

50ـ الرسالة القشيرية 31 : 32 .

51ـ تلبيس ابليس161 :162 ، 155 : 156 .

52ـ تلبيس ابليس161 :162 ، 155 : 156 .

53ـ الرسالة القشيرية 4، 5 .

54ـ الإحياء جـ3 / 343 وما بعدها ، 199.

55ـالاحياء جـ 3/ 301 : 302 ، 333 :341 ،257 : 258.

56 ـ الأحياء 3/23: 25 ، 242 :246 ، جـ4/14 ،17 ، 18 ،22 ، 23 ،26 ،28 ،68 ،74 ،75: 77، 83: 85 ،94 ،100 ،102 ،104 ،211: 214 ،221 ،225 ،227 :228 ، 254 :263 ،266: 267 ،269 ،271 ،277، 278 :279 ،281 ،288 ،291 ،292 ،298 :299 .

57 ـ الشعراني : الطبقات الكبرى 1/ 157 . ،153 

58ـ الشعراني : جـ2 /118.

59 ـ النويري : نهاية الأرب مخطوط 28 /41 ،119 ،120 ، تاريخ ابن كثير 13 / 265 ، 178 ،

60 ـ إنباء الغمر : جـ2/ 57 ، النجوم الزاهرة ج13 /10 .

61ـ تاريخ ابن إياس تحقيق محمد مصطفى 1/ 2/ 373

62 ـ الشعراني : إرشاد المغفلين . مخطوط 138 : 139 ، 233 : 237 ، 247 : 272 . رقمه بدار الكتب 921 تصوف طلعت .

63 ـ تاريخ ابن إياس تحقيق محمد مصطفى جـ2 /277 ، 4/ 165 .

64 ـ  تاريخ ابن إياس تحقيق محمد مصطفى جـ2 /277 ، 4/ 165.

65 ـ المنهل الصافي مخطوط جـ5 /481 ، النجوم الزاهرة جـ 11 /118 ، 119 .

66ـ الشعراني : الطبقات الكبرى جـ2 /183.

67ـ شذرات الذهب جـ8  /130 لابن العماد الحنبلي .ط 1351 هجرية .

68 ـ الغزي : الكواكب السائرة جـ1/84 : 85 بيروت 1945.

69 ـ الشعراني تنبيه المغتربين 93 : 94 ط 1278 .

70 ـ الشعراني :لطائف المنن 263 ط 1988 .

71ـ السخاوي : تحفة الأحباب 370 ط 1302

72ـ الدوادار : زبدة الفكرة مخطوط 9/ 475 مكتبة جامعة القاهرة برقم 24028 .السبكي طبقات الشافعية 6/ 127 الطبعة الأولى .

73 ـ الشعراني : الطبقات الكبرى جـ2 /117 .

اجمالي القراءات 9172

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5130
اجمالي القراءات : 57,289,543
تعليقات له : 5,458
تعليقات عليه : 14,839
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي