فيما تحتفل مصر بتنصيب رئيساً لجمهوريتها، بعد استعادتها لنفسها من براثن ذئاب الإخوان المسلمين، كان هناك وسط المحتفلين بالمناسبة في ميدان التحرير، بقلب العاصمة المصرية، ذئاب بشرية من نوع آخر، قامت باغتصاب أكثر من فتاة، علانية وفي وضح النهار ووسط الحشود المحتفلة. وقد صدر عن 25 منظمة حقوقية تقرير، ذكر أنه "شهدت احتفالات يوم 8 يونيو 2014 في ميدان التحرير، بمناسبة حلف يمين الرئيس الجديد، اعتداءات جنسية جماعية واغتصابات جماعية وحشية، حيث تم توثيق 9 حالات، للاعتداءات والاغتصابات، بالآلات الحادة والأصابع، والتي يسفر عنها عادة إصابات جسدية بالغة للناجيات. والجدير بالذكر أن الدولة استمرت في عدم قدرتها على التصدي لتلك الجرائم نتيجة لغياب منظومة استراتيجية كاملة".
المواجهة الأمنية القانونية الصارمة للإرهابيين والمتحرشين والمغتصبين ضرورة، قبل أن تضيع مصر نهائياً، خاصة وأن هناك شبه غياب للدولة من الشارع المصري خلال أكثر من عقد مضى. لكن يبقى السؤال: كيف يكف المجتمع المصري عن إنتاج أمثال هؤلاء؟
هؤلاء ما هم إلا صديد يطفح على جلد الجسد المصري، وكما يحتاج لتطهير الجسد منه، يحتاج الأمر لعلاج أصل الداء، الذي أفرز ذلك الصديد. التحرش الجنسي، والعنف في المظاهرات وفي أسلوب قمعها، والاعتداءات الطائفية الغوغائية، والتفجيرات الإرهابية بمبررات سياسية، وتفاقم العنف اللفظي في التعبير عن الرأي، سواء عبر المفردات المستخدمة، أو في عنف ووحشية الأفكار والآراء، رواج أفكار وشعارات تحمل في مضمونها كراهية للآخر، سواء الآخر المحلي أو العالمي، هذه كلها مظاهر تحلل وفساد المجتمع المصري، لها جذورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحتاج لمعالجة علمية أمينة وشجاعة. فهذا التفاقم للعنف في المجتمع بصورة عامة، جاء نتيجة الضغوط المتنوعة التي تتعرض لها الطبقات الدنيا من المجتمع. وقد أدى إلى تشكل شخصيات وسيكولوجيات تعادي الحياة والأحياء، كما تعادي بصورة خاصة المرأة، نتيجة لحالة الحرمان والكبت الجنسي، وهذا يشير إليه أسلوب التحرش، الذي يغلب عليه النزوع للإيذاء البدني، وكأن المغتصب يروم الانتقام من الضحية، بأكثر من محاولة الابتزاز الجنسي لها. لعله ينظر إليها، لا باعتبارها إنسانة هي أخت وأم وابنة، لكن كبضاعة جنسية، لا تسمح له الظروف بامتلاكها، فإن لم يستطع تذوقها خلسة، فليحطمها ما استطاع. أيضاً لا تخفى العلاقة بين الإرهاب والعمليات الاستشهادية، وبين النوازع الجنسية المكبوتة، والتي تخرج في صور شتى من العنف، منها حوادث التحرش والاغتصاب والتفجيرات.
لعل الشبق المكبوت بالخطاب الديني، هو المسؤول الأول عن تفاقم ظاهرة التحرش. ما يجسد بؤس أمة ترى العالم، وتستطلع طريقها بعيون أصحاب اللحى، الغارقين في غياهب الماضي البدائي الوحشي. لنا أن نتساءل عن كيف يصور الخطاب الديني الشائع المرأة للمجتمع، هل يصورها كإنسانة تسعى في الأرض، لتحقيق حياة كريمة لها ولأسرتها، أم يصورها كجذوة شهوة جنسية عارمة، وكمبعوثة للشيطان، يغوي بها الرجال، الذين ما هم إلا ذكور شبقة وذئاب جائعة، من حقها التهام أي فريسة تقع بين أيديها؟. . فحتى ستينات وسبعينات القرن الماضي، قبل هذه الهجمة البدائية على المجتمع المصري، كانت شواطئ الإسكندرية تزخر بالمصيفات بلباس البحر، يتمددن على رمال الشاطئ، ليستمتعن بالشمس، ولم نشهد أو نسمع أيامها، حتى عن مجرد متطفلين، يقفون على مقربة منهن، لاختلاس نظرات غير بريئة. قد يبدو مثل هذا الكلام للشباب المصري الآن، وكأنه حديث طوباوي خرافي من وحي الخيال!!
لاشك أن المعالجة والحلول الجزئية لسلسلة الظواهر السلبية المترابطة بالمجتمع المصري كل على حده مطلوبة، ولو للحد منها مرحلياً. لكن هذا لن يغني، ولن يكون بذات شمول وتأثير تغيير السياق ذاته، والذي أدى بالمجتمع المصري إلى السير عبر هذا المنحنى الهابط إلى هاوية.
من أجل أمانة الرسالة التي نحملها تجاه شعبنا، لابد في هذه المقاربة، من اقتحام حقيقة لا يتجاسر أحد على النطق بها، وهي أن أحد عناصر التعامل مع حالة الهياج والكبت الجنسي لدى قطاع عريض من الشباب المصري، خاصة من الطبقات الدنيا من المجتمع، هو تقنين البغاء. البغاء مقنن ومباح في الكثير من البلاد المتقدمة. فله وظيفة اجتماعية وفسيولوجية، تماثل على حد تشبيه القديس توما الإكويني، تلك التي للمراحيض في مختلف الأنحاء والميادين. فانعدام المراحيض العمومية، كما هو حادث الآن بأغلب الأنحاء في مصر، يؤدي إلى ما تشهده شوارعنا، من التبول على الجدران هنا وهناك. تقنين البغاء تحت رقابة الشرطة ووزارة الصحة، لن يؤدي إلى إنهاء، ولكن إلى الحد من ظاهرة التحرش في الشوارع ووسائل المواصلات، كما يؤدي لاختفاء ظاهرة خطف الإناث واغتصابهن وقتلهن أحياناً. سيؤدي أيضاً لاختفاء مراكز الدعارة في الأبنية التي تقيم فيها العائلات المحترمة، وهو ما يعرفه المجتمع والسلطات المسؤولة جيداً، وتتكتم وتتستر عليه. يؤدي أيضاً إلى محاصرة تفشي الأمراض الجنسية ومنها الإيدز. هذا هو الحل الجزئي العلمي الصحيح لما تعانيه مصر الآن. والذي تحول دونه أخلاقيات النفاق والتستر والإنكار. دائماً نجد الطبقة المتوسطة، هي قاطرة أي شعب نحو الحضارة والتقدم. كما نجدها المروج لأخلاق النفاق والتستر والإنكار، إذا ما كانت الأمة في طريقها إلى الفساد والتحلل. ما أسوأ أن تستخدم مبادئ الفضيلة، لتتستر على تفشي الرزيلة!!
من الواضح أن السماح بالبغاء وتقنينه، لا يعني "تثمينه قيمياً". لا يعني بالتأكيد تثمين عملية "شراء" و"بيع" المتعة الجنسية. فالأديان التي تعرفها شعوب منطقة الشرق الأوسط لم تحرم البغاء، لكن تعاليمها ووصاياها تذهب باتجاه الارتقاء بهذه الغريزة الإنسانية، وتوجيهها لتكوين الأسرة التي هي نواة المجتمع. ورغم أن هذه العملية يطلق عليه "أقدم مهنة في التاريخ"، إلا أنه مازال حتى الآن، تفضي بنا النظرة "العلمية والعملية" لواقع المجتمعات، إلى وجوب السماح بما يمكن اعتباره، على حد تعبير القديس توما الإكويني "شر لابد منه".
هنا من السهل المزايدة والمتاجرة بالمبادئ، وادعاء الدفاع عن الفضيلة، وفي نفس الوقت سد جميع المنافذ، أمام تنفيس الغرائز الإنسانية الطبيعية، لدى الآلاف من الشباب، غير المؤهل تربوياً وسيكولوجياً واقتصادياً، لكبح جماع غريزة طبيعية، تصرخ فيه طلباً للإشباع، فتنفجر هنا وهناك، ولتصبح الداء المتوطن، الذي لا براء منه، طالما نفضل أخلاقيات النفاق، على النظر للطبيعة الإنسانية بصورة رحيمة وعملية وعلمية.
حدث منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً، أن كنت راكباً في وسيلة مواصلات عامة، مزدحمة حد الاختناق بمن فيها من الركاب. وفجأة حدث هرج ومرج وصياح، وإذا ببعضهم ينهالون ضرباً على شاب. ولما استفسرت عن الأمر، قيل أنه كان يتحرش بأنثى. ولما كانت الجريمة شنيعة لا تحتمل أي مبررات، وجدت نفسي تلقائياً أندس بين الضاربين، لأنال شرف الدفاع عن الفضيلة والأخلاق. لكنني ما أن وصلت إلى المجرم المتحرش، وهممت بأن أؤدي واجبي الإنساني، ممثلاً في عدة لكمات وركلات له، حتى ردني منظر الشاب. مكتنز قصير القامة فقير الملبس، ذو جسد قوي عفي، يطفح بالحيوية الجسدية. بدا لي أشبه بالحيوان المشحون بقوى جسمانية عاتية.
تأملت هذا المخلوق البائس، الذي لم يختر تكوينه الجسدي، ولا يد له فيما يعصف ويهدر في جسده من غرائز ورغبات. لم يختر كذلك وضعه الاجتماعي والاقتصادي والتربوي. هو إنسان ضمن القبيلة البشرية، أسير وضحية لحضارة سن قيمها وأخلاقياتها القديسون، الممتلئة بطونهم بالطعام والشراب، ويرتدون أفخر الثياب، ولديهم من الإمكانيات ما يحصلون بها على أي شيء وكل شيء. عندها رأيت هذا الشاب كضحية لنا جميعاً، قبل أن يصير ضحية جمع اللاكمين الراكلين، وهو ملقى ينزف الدماء، على أرض الأتوبيس المشحون بأشباه البشر. يحدث هذا عندما يتجرد رعاة الأخلاق والفضيلة من الإنسانية. ما بين وحشية مرتكبي جرائم التحرش والاغتصاب، وبين ما أسمعه من رعاة القيم والأخلاق الرفيعة، الذين يتوعدون المجرمين بتعليقهم على المشانق، والتقطيع من أجسادهم قطعة بعد قطعة، أصاب برغبة في التقيؤ، وتوق للفرار، من مجتمع تدنى عن مستوى أشد الكائنات وحشية!!
أعرف أن بعض ما سطرت هنا، قد يفتح علي أبواب جنهم. أعرف أيضاً أن لا أمل في أي إصلاح جذري، مادام الجهل هو الذي يحكم المدينة. ما أسهل أن تقول للناس ما يعتقدون في صحته، فيرفعونك على أعناقهم، وما أصعب أن تواجههم بحقائق ينفرون منها، فيلعنونك ويرجمونك. فقد أدمنت الجماهير الرقص على أنغام المطلبين والمزمرين، ليستديروا بين الحين والآخر، ليرجموا أصحاب الرسالات الإنسانية، بالقليل أو الكثير من الأحجار المقدسة!!