المؤامرة والتراث (3-2)
في الجزء الأول ناقشنا معنى أن فهم الصراع بطريقة معينة.. هو الذي يؤدي إلى مفهوم المؤامرة لو كان ذا خلفية تراثية وأيدلوجية، فالصراع لذاته لا يمكن تفسيره بمعنىً واحد، وطريقة رؤيتنا له هي التي ستكشف كيفية تعاملنا مع الناس، وكيفية إدارة الأزمات وكيف نفهم المصلحة ونضعها في أي سياق، وأن هناك معنيان لفهم هذا الصراع الأول هو فهمه كأداة فنية وُعنصر للتواصل، والثاني أنه صدام أبدي بين الحق والباطل، فإذا حضر الاعتقاد الثاني أصبح الصدام مسألة وقت، وتخرج معه كل معاني السياسة.
مثال من يقول بأن الثورات العربية هي مؤامرة غربية إسرائيلية وكأن الشعوب العربية لم تكن لتثور دون إذن هؤلاء ، أو أن الأوضاع لا تستدعي الثورة، بل الأوضاع ما قبل الثورات كانت تنبئ عن قدوم هذه الثورات كمسألة حتمية لفساد الأنظمة وانسداد الأفق السياسي وانتشار الجهل والفقر، وقد أثرت هذه العوامل في الانطلاقة الأولى لما بعد هذه الثورات، فشاب عملها الأداء العاطفي بتمكين الجميع من العملية السياسية دون استثناء، وقد كان ذلك ضرورياً في نظري لمرحلة الفرز، أي أن الثورات وبعد قيامها بثلاث سنوات هي تسير في معدلها الطبيعي، وأن استقامتها هي مسألة وقت ولكن ليس في كل الثورات، بل في تقديري أن الأحوال السورية والليبية واليمنية هي أحوال خاصة مختلفة عن المصرية والتونسية.
والسبب أن الصراع في سوريا مثلاً قد وصل فيه معدل الاعتقاد بالمؤامرة إلى مستويات عليا تاريخية ربما لم تتكرر منذ زمن طويل،وهو ما تسبب في تلك الأزمة وتدمير الدولة السورية وقتل أبنائها ودخول الأجانب وتهجير شعبها، فأصبحت الثورة السورية هي ثورة ملعونة بفضل حماقة القائمين عليها وجهلهم بطبيعة الصراع في دولتهم، وهذا يُثبت أن الصراع بالأساس هو مادة فنية تواصلية عنوانها السياسة، فما من منطقة يكون فيها الصراع بهذا التفسير إلا وتكون السياسة حاضرة والتواصل قوي بين الناس.
ودليل آخر -يعتبره البعض دليلاً على وجود تلك المؤامرة في الثورات- وهو قصف ليبيا بحُجة خطر القذافي على الدولة والشعب والتهديد بقصف سوريا بنفس الحُجة، رغم أن الأوضاع في اليمن والصومال-مثلاً- تستدعي هذا القصف من أجل الحفاظ على الدولة ولم يحدث، أما من يزعم وجود المؤامرة بناءً على هذا السلوك أسأله لماذا قصفت أمريكا أفغانستان والعراق من قبل ولم تقصف باكستان والسودان، رغم أن بن لادن كان يعيش في باكستان كما يعيش في أفغانستان وطالبان كذلك ، والبشير لا يقل استبداداً عن صدام، القضية ليست قضية أنظمة معارضة للهيمنة الأمريكية أكثر من أن أمريكا تفهم الصراع على طبيعته الفنية أحياناً، وأقول أحياناً لأن أمريكا أخطأت بتفعيل منطق المؤامرة وادعت أن صدام وطالبان يتآمرون على أمريكا،، وقد ظهر بعد ذلك أن غزو بغداد وكابول كان جريمة سياسية واستراتيجية أفسحت المجال للدب الروسي والتنين الصيني بالتوسع، وصنعت فراغاً أمنياً في المنطقة ملأته إيران بنفوذ وتمدد لم يكن يحلم به الخوميني.
ربما تكون إدارة أوباما كشفت هذا الخطأ الإستراتيجي وبدأت ولايتها بخطاب معتدل لحين استعادة الخطاب الأمريكي الطبيعي القائم على أن الصراع في حقيقته هو فن وأداة تواصل أكثر من أنه حالة صدامية أبدية، لقد كان انحراف جورج بوش عن هذا الخط الطبيعي له جذور أيدلوجية، كما سبق وأن عرّفنا بأن وهم المؤامرة مبني على قواعد العقل التراثي والبدائي، وظهر ذلك في ألفاظ الرئيس الأمريكي واستدعائه للحروب الصليبية في الأذهان، نتج عنه تفتت القدرة الأمريكية وعجزها عن السيطرة، بل وفي تقديري أن ما فعله جورج بوش هو ما أدى للفشل الأمريكي في التعامل مع ثورات العرب بعد ذلك، أو التنبؤ بأحداثها مستقبلاً، وقد كانوا يعتقدون أن الضرورة الليبرالية ستُفرض على مجتمعات العرب إن آجلاً أو عاجلاً نزولاً إلى تحقيق تلك الضرورة وانتشارها في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية.
سوء التقدير هذا فرض على أمريكا أن تدعم الجماعات الأصولية الدينية في المنطقة والتي تدعي أن علاقتها بواشنطن هي علاقة احترام وليست عداء، كمثال جماعة الإخوان، وبقيت على تواصل مع الجماعات الأخرى تطبيقاً لمفهومهم عن الصراع، من ناحية يُعلنون فيه موقفهم أنهم ليسوا ضد الإسلام بل ضد المتطرفين ،ومن ناحية أخرى يُفرغون طاقات هؤلاء بدلاً من مواجهتهم في ساحات الحرب على الإرهاب يواجهونهم على موائد السياسة، ومن ناحية ثالثة يستخدمونهم كورقة ضغط لمن لا يفهم حقيقة الصراع في الشرق الأوسط، وهذا يُثبت أن أمريكا وسائر الحكومات الغربية تفهم طبيعة الشعوب العربية وتتعامل معهم على هذا الأساس، فعندما يُعلنون عن قلقهم من .."الهلال الشيعي"..فهذه رسالة مباشرة وغير مباشرة لتعميم هذا المصطلح في المنطقة واستخدامه ضد إيران وحزب الله، وعندما يدعمون الإرهابيين تحت عناوين الحرية والديمقراطية فهي رسالة للإرهاب بأن أمريكا ليست خصماً لهم.
إن من يستسلم لعقيدة المؤامرة هو أكثر من يرفع الشعارات، لذلك عَمَدت أمريكا إلى إطلاق هذه الشعارات -المبنية على الحقوق-لجلب تعاطف الإرهابيين معها في صراعها ضد روسيا والصين وإيران، لأن منطق التوظيف لا يتعارض مع كون الصراع مادة فنية، والإنسان في كثيرٍ من أحواله يوظف آخرين لمصلحته، كلُ حسب مفاهيمه وقدراته العقلية، ولأن العقل المؤامراتي-كما سلف-هو عقل بدائي ويسهل خداعه باليوتوبيا والفكر الطوباوي الخيالي، وهذا العقل شديد التأثر بتلك العناوين المرفوعة، ومن شدة الأزمة الثقافية العربية انخدع المحسوبين على تيار التنوير والليبرالية بهذه الشعارات، ونسوا أن حكومات ما قبل الثورات كانت تسمح لهم بالحرية الدينية والفكرية نوعاً ما، وهذا لن يتحقق مع من تدعمهم أمريكا بعد الثورات، وظنوا أن واشنطن تريد للعرب الحرية، وستنفق ما لديها لهذا الغرض ،وستدافع عن هذا الحق في كل المحافل الدولية والثقافية والاقتصادية.
عموماً هذه الجزئية ناقشتها في دراستي عن تطور الثورة المصرية تطوراً طبيعياً منذ شهور فيُرجى العودة إليها، وإلى اللقاء في الجزء الأخير.
اجمالي القراءات
9326