أتصور أن العقل الجمعي من التربية، وأن صنوفه رهينة لمنشأة التربوي، كذلك فهو يخضع للمتغير باستمرار، فالعقل الجمعي الأيدلوجي يختلف عن الوطني بالعقل المتجدد والوجدان المتقلب، كذلك فالعقل الجمعي القومي يختلف عن الديني بالصراع بين الرغبة والدين..حقيقة أنا لم أقرأ كثيراً عن تفاسير العلماء للعقل الجمعي ولي صورة عنه أطرحها في السطور القادمة، وقبل البحث ..أقف على الفكرة الرئيسية لإيميل دور كايم في تعريف العقل الجمعي أولا وأبدي هذه الملاحظات:
1-يفصل دور كايم ما بين العقل الفردي كتصور وبين العقل الجماعي كشعور خارج عن تصور الفرد، وفي هذه لم يقف دور كايم على ثنائية.."التصور والشعور"..كما ينبغي، والمعنى أنه يجوز تطابق التصورات الفردية والجماعية معاً ولكن بشرطين:
الأول:أن يمس الحدث جانب الشعور الفطري والعفوي لدى الإنسان، وهو بذلك يخلق عقلاً جمعياً غير مقصود، والفرد جزء من الكل الجماعي وينطبق عليه من شعور فطري وغريزي ما ينطبق على المجموع، كمثال التعرض للعلم الحضوري. .
الثاني:أن يمس الحدث جانب الهوية الذاتية، فلا يمكن عزل شعور الفرد عن شعور الجماعة إذا شعر بالخطر من عدو متربص سواء حقيقي أم زائف.
2-إن التصور والشعور يندمجان في مفهوم واحد إذا اتحدت المعلومة للجماعة، وهذا يعني أن من يقوم بتوحيد الصورة المعلوماتية يقوم في نفس الوقت بخلق وعي جمعي وفردي متطابق..مثال الإعلام.
3-العقل الجمعي بالعموم غير ثابت حتى نُطلقه على المجموع، فلو كان ثابتاً ما قامت الحروب الأهلية بين شعوب تزعم وحدة عقلها الجمعي، مشاعر الغضب والكراهية المدفوعة بالرغبات هي العامل الذي يؤثر في أي عقل جمعي مهما كانت قوته.
مثال ما يحدث في مصر من تحريض للجماعات الدينية ضد الجيش المصري، كانوا قبل ذلك ضمن وحدة مجموعية ترى قواتها المسلحة حِصناً أميناً وحاجزاً أمام أي رغبات ترى مصالحها فوق مصالح الدولة، ولكن بالغضب والكراهية والرغبات المشحونة اختل العقل الجمعي وأنتج لدينا ما نسميه انقلاباً على العقل الوطني لصالح العقل الأيدلوجي.
أنا أشكك في وجود العقل الجمعي، فكل تصور –أو شعور-جماعي للنفس حظ فيه، بينما الفرد هو الذي يبني عقله الجمعي وهو الذي يهدمه، وأن السبب وراء "اختراع" العقل الجمعي هو ظن الأعراف عقلاً جماعياً ثابتاً له قوانين، وهذا خطأ من نواحٍ عدة:
1-أن العقل الجمعي- بمفهومه الشائع- يعني وجوده كقديم مع الذات الجماعية، وإذا لم يكن فما الحادث أو الحاكم الذي صنع هذا العقل عند الجمهور؟..وإذا كان فيجري دراسة طبيعة علاقة المجتمع بالفرد من جديد.
2-أن الأعراف تتغير بالمعلومة، فإذا شاع العُرف ليس دليلاً على استحالة ضده، بل يجوز رؤية هذا العُرف لصالح جهة قد يثور عليها من يدعي العقل الجمعي بعد ذلك.
3-أن تصور الأيدلوجيا يجري خارج الحدود الجغرافية بل والفكرية، وربما لموانع محددة تتوسع الأيدلوجيا لتشمل عقولاً جمعية مضادة، أي أنه باجتماع الأفكار والرغبات يُقتل العقل الجمعي ويُصبح أسيراً للأمنيات.
4-أننا لا نستطيع تعيين تاريخ العقل الجمعي بشكل دقيق، ففي العصور الوسطى كان العقل الأوروبي-بل والإسلامي أيضاً-يرون الدين والسياسة والدولة جزء واحد، بينما في القرون السابقة نهض المسلمون في الأندلس وغيروا بعض هذه المفاهيم، وفي الوقت المعاصر أصبح من المستحيل عودة هذا العقل لسبق التجربة وما حدث من ويلات.
باختصار فالسياسة أصل في تكوين ما يُسمى بالعقل الجمعي، كذلك والدين في جوانبه الإلهية والتعبدية، وبما أن السياسة والدين في حقائقهم سلوك أفراد فالعقل الجمعي هو فردي متغير، ولنا في انفصال العلوم عن الفلسفة بدءاً من الرياضيات ثم الفيزياء ثم الكيمياء ثم علوم الاجتماع ..دليلاً على أن العقل الجمعي هو أكذوبة تسبب فيها الخلل المنهجي والعجز عن وضع ضوابط لكل علم على حِدا، فلو كانت الفيزياء منفصلة عن الفلسفة لسَهُلَ على شعوب القرون الوسطى تفهم ما قام به جاليليو وكانوا أول من تصدوا لجريمة إعدامه.
ولكنهم انساقوا وراء الكُهّان والقساوسة وظنوا أن المسألة دينية نظراً لما شاع-وقتها- أن المذنبين فلاسفة، ولو فطنوا أن المسألة علمية لها ضوابط وعلوم ومناهج مستقلة لكان من اليسير أن يفهموا العلاقة بين ما قام به جاليليو وبين ما يرونه في السماء .
حقيقة العقل الجمعي أنه في ذاته عقل فردي ..ولكن ما شاع قديماً حول هذا الفصل أن الإنسان برؤيته الذاتية عاجز عن تصور دور الفرد ضمن حدود الجماعة، والسبب أن تلك الجماعة لديه مجهولة أو غير واضحة فكان له أن يعزو اختلاف الرؤى والتصورات إلى العقل الجمعي والذي كان في حقيقته اختلافاً بين الأفراد وليس بين الجماعات، لأن الفرد هو أساس المجموع فما يؤمن به المجموع يؤمن به الفرد بالضرورة.
وقد نتج عن هذا الخلط اختزالاً معيباً لحقوق الأفراد وبالتالي حقوق الجماعات، وذلك عن طريق إسقاط القيم والمعايير على ذلك العقل المتوهم، فيرى أن الرأي العام للمجموع هو معبر عن الأفراد وهذا غير صحيح، لأن الإنسان أحياناً ما يفصل بين مصالحه ومصالح مجتمعه، فإذا تعارضا سعى لتكوين مجتمع جديد، وإذا فشل يثور ويتمرد على القديم، وهو ما نعرفه بأزمة الهوية، هؤلاء يخلقون لهم وعياً أيدلوجياً لا يتقيد بقيد الزمان ولا المكان.
اجمالي القراءات
15649