الزمن هو زمن الافتضاح، المتغيرات المتلاحقة على أرض الواقع تفضح زيف ما عشنا عليه من أوهام وأكاذيب لم تعد هياكل أصنامها المعبودة تصمد أما سخونة تفاعلات الواقع، زيف أن إسرائيل هي العدو الأبدي الذي يهدد الأمن القومي المصري، وزيف ما نسجناه حول "قضية فلسطين"، وحول ما رفع راياتها من جماعات المقاومة الإرهابية، سواء العلمانية منها أو الدينية. . هو زمن تصدع وانهيار كل ما اعتبرناه ثوابت مقدسة.
ما شهدته الساحة أخيراً من نقاش وجدل وتبادل للاتهامات، تعليقاً على ما قيل أنه قيام طائرة إسرائيلية بدون طيار بتدمير منصة صواريخ وقتل أربعة من الإرهابيين داخل الحدود المصرية، يشي بالأزمة الفكرية التي تعيش فيها شعوب المنطقة وفي مقدمتها الشعب المصري، فالخطاب والثقافة السائدة بالمنطقة منذ أكثر من ستة عقود، هي أن دولة إسرائيل، أو "الكيان الصهيوني" كما نحب أن نسميه، هو كيان عدو، وأنه كيان معاد لشعوب ودول المنطقة، وأن تقدم شعوب المنطقة وسلامها مرتهن بإزالة هذا "الكيان اللقيط"، والذي يقف عقبة في طريق ازدهار وتنمية المنطقة.
اعتنقنا هذه الرؤية وهذا الخطاب في زمن مضى، فيما كانت فيروسات العداء لشعوبنا وللحياة بصورة عامة تنمو بين ظهرانينا، ونقصد تحديداً كل من الخطاب العروبجي والمتأسلم، وقامت الأنظمة الاستبدادية الرافعة لرايات العروبة بتبديد طاقات الشعوب، بدفعها لصدامات باردة وساخنة مع هذا "الكيان الصهيوني"، لتتبدد على صخوره كل آمال التنمية والرخاء، كما تبددت قيم الحرية والحداثة، لننغلق على أنفسنا، حماية لها كما قال زعماؤنا الأشاوس مما يتهددها من مؤامرات يحيكها لنا الغرب الشرير، مستعيناً بربيبته إسرائيل.
ظل هذا الخطاب رغم زيفه، متسقاً من ذاته المنغلقة على نفسها طوال الربع الثالث من القرن العشرين، وهي الفترة التي كانت أكثر من كافية لأن يشتد عود "الإسلام السياسي"، ليبدأ في التقدم لوراثة النظم الاستبدادية العروبية الرايات، وقد حان بعدها أوان بروز أنيابه المتعشطة لدماء "الكفار" في سائر أنحاء العالم، وبالأخص دماء "الكفار"، الذين هم كل من لا يتبع تنظيماتهم من شعوب المنطقة، التي تدين بالإسلام منذ أربعة عشر قرناً!!
بعد ذلك الربع قرن الثالث كانت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، ثم أعقبتها معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، واللتان أشارتا بوضوح فشلنا جميعاً في رؤيته أو استيعابه، أن هذا "الكيان الصهيوني" لا مطامع له في أراض الدول المجاورة، وأن أقصى ما يطمح إليه "الصهاينة"، هو العيش بسلام داخل حدود آمنة وقابلة للدفاع عنها، ومعترف بها من الجيران، وربما رداً على هذا الافتضاح لزيف ادعاءات التخويف من التهديدات الإسرائيلية للشعوب المحيطة، ظهر وازدهرت شعارات "تحرير الأقصى"، لتحول القضية التي بدأت قضية شعب وأرض وحياة إنسانية يجب توفير مقوماتها، إلى قضية دينية تشارك فيها الأمة الإسلامية بامتداد كل سطح الكرة الأرضية!!
وكما استغلت نظم الحكم الاستبدادية رايات العروبة وحملات العداء للكيان الكيان الصهيوني للتغطية على ممارستها المعادية للشعوب ذاتها، جاء الدور على تنظيمات الإسلام السياسي لتلعب ذات اللعبة، وبذات التكتيكات، مع تغييرات طفيفة في مفردات الشعارات المرفوعة، بما يعطي لها صبغة مقدسة، ويمد أيضاً من أجل الصراع ليصبح صراعاً أبدياً، لا ينتهي سوى يوم القيامة، حين تنادي الأشجار المسلم أن يقتل اليهودي التي يختبئ خلفها!!
هكذا كان العداء "للكيان الصهيوني" هو الساتر التي يطمس العيون فلا ترى عداء تنظيمات الإسلام السياسي للشعوب وللحياة، فلا تتتمثل الشعوب الخطر الداهم الذي تشكله أفكار تلك الجماعات على حاضر البلاد ومستقبلها، فاقتنعنا أن "حزب الله" شيطاني الفكر والسلوك هو حزب مقاومة لبنانية أو إسلامية، وليس حزب تحويل الكيان اللبناني المتحضر الجميل إلى شظايا، وممارسة الاغتيالات السياسية بالغة الدناءة، وكذا صارت حماس الإرهابية التي مزقت الجسد الفلسطيني دون وازع أو رادع من ضمير، هي الأخرى طليعة مقاومة لإسرائيل، رغم أنها منذ انفردت بأبناء فلسطين في غزة لم نر لها مقاومة لإسرائيل، وإنما رأينا قتلاً لأعضاء منظمة "فتح"، وسيطرة جهنمية بوليسية على الشعب الفلسطيني.
الآن وبعدما حدث في مصر من تغيرات وتطورات طوال العامين والنصف الماضيين، زال ستار الزيف والأوهام، أو ينبغي أن يزول، وقد أسفر ذئاب الإسلام السياسي في مصر وغزة عن أنيابهم بوضوح وبلا استحياء، وقد تحالفوا معاً على قتل المصريين، وحولوا سيناء إلى ملاذ آمن للإرهابيين المستوطنين والقادمين من منافيهم في سائر أنحاء العالم، وبدأوا في استهداف الجيش المصري، ذلك الجيش الذي لم يقدم أي جيش عربي غيره مئات الآلاف من الضحايا من أجل ما سميناه "القضية الفلسطينية"، كما لم يقدم شعب بالمنطقة قوت يومه لدفع تكاليف الحروب العبثية ضد إسرائيل كما فعل الشعب المصري عن طيب خاطر!!
ولعلها ليست آخر الأثافي كما يقولون أن نرى التحالف الإرهابي في غزة وسيناء وقصر الرئاسة في القاهرة، وقد أسقط عن نفسه سائر سواتر التمويه، وهو يتحالف ضد الشعب المصري وجيشه، في محاولة يائسة لإعادة الإرهابيين الإخوان إلى عرش مصر، ليواصلوا مسيرة أخونتها وتدميرها على مذبح خلافتهم الإسلامية، وأملهم المهووس في أستاذية العالم!!
هنا ويا لهول ما نكتشف من زيف، نرى من نصر على تلقيبه بالعدو الصهيوني، والذي أقنعنا أنفسنا دون أي مقومات حقيقية على أرض الواقع، أنه مصدر الخطر الوحيد على أمننا القومي، وجدناه يستجيب للدولة المصرية، متجاوزاً اتفاقية كامب ديفيد التي تحدد عدد ونوعية سلاح القوات المصرية في المنطقة (ج) بسيناء، والملاصقة للحدود الإسرائيلية، لكي يتمكن الجيش المصري من مواجهة العدو المشترك، نكرر "العدو المشترك" للشعب المصري والإسرائيلي ولكل شعوب العالم.
هي مهزلة أن نرى حتى الآن علو صوت من مازالوا يرفضون إدراك أو استيعاب ما حدث من افتضاح لمنظومة أفكارنا القائمة على العداء للجار الإسرائيلي، فنجد الأفرقاء يتبادلون الاتهام لبعضهم البعض بتهمة "التنسيق مع إسرائيل"، دعاة الدولة المدنية يتهمون الإخوان بالتنسيق مع أمريكا وإسرائيل، والإخوان الذين تؤكد الكثير من المؤشرات أنهم قد عقدوا أكبر وأعجب صفقة لتصفية القضية الفلسطينية على حساب الشعب المصري وأرضه وحدوده القائمة قبل بدء التاريخ المكتوب، هؤلاء يتهمون الجيش المصري الآن بالتنسيق مع إسرائيل والسماح لها باختراق الحدود لضرب خلية إرهابية!!. . هو العجب العجاب، أن نصر على التمسك بمنظومة فكرية قد تصدعت بالفعل تحت ضربات حقائق الواقع، رفضاً للاعتراف بأن شعوب المنطقة كلها بما فيها الشعب الإسرائيلي، ومعهم كل شعوب العالم، يجب أن يقفوا جميعاً وقفة رجل واحد في مواجهة خطر الإرهاب المستتر زوراً بالدين الإسلامي!!
المصدر ايلاف
اجمالي القراءات
8269