رسالة في التفكير

سامح عسكر Ýí 2013-06-09


كثيراً ما تخدعنا أفكارنا وما نصل إليه من نتائج لسبب بسيط وهو تفكيرنا بالمضمون لا بالأسلوب، والمعنى هو التركيز على الشئ نفسه لإثباته أو نفيه، أو التدليل عليه أو منعه أو وصله أو ما شابه من عمليات فكرية، والصحيح في هذا الأمر أن نتعامل مع الشئ بالأسلوب لا بالمضمون...كمثال:هو أن نحاول الربط ما بين الإنسان وأفعاله عن طريق إثبات صحة أو خطأ الفعل، فتُصبح عملياتنا الفكرية مُقيدة في دائرة الفعل ذاته، أي أنه ومن كثرة التركيز على الفعل نُخطئ في تفسير وشرح الإنسان نفسه، هنا لا يُمكن الفصل فلا نقاش للفعل دون التعرض للإنسان وشرحه ذاتياً من أبعاده الثلاثة.."المادة-الروح-السلوك"..فكان التفكير بالمضمون –حينها-مُخلّاً بماهية الإنسان أو أن يحاول كلٍ منا فهم نفسه أو فهم الآخرين.

الصحيح هو أن نفكر بالأسلوب ، والمعنى أن نتعرض بأساليب فهمنا للدين وللحياة وللكون للشئ فنحاول تفسيره كُلياً ولكن بمناهج الفهم التي تعلمناها بعيداً عن إصباغ صفة التقدير للشئ، ويعني ذلك أنه وكلما أضفنا القُدسية أو التقدير للشئ كلما ابتعدنا عن الفهم الصحيح، لأننا حينها أصبحنا نفكر في مضمون ما نحاول فهمه فانطبعت في ذاكرتنا صورة المضمون حتى تُصبح عقولنا عاجزة عن التعاطي مع المؤثرات أو الأبعاد المتعلقة به..النتيجة الحتمية تكون بتعدد الأخطاء في التفكير فإما يسترشد كلٍ منا طريقاً آخر بالمضمون فيزداد ضلالاً فوق ضلال..وإما يسترشد بطريق آخر بالأسلوب فيكتشف خطأه مبكراً أو أن معلوماته وطريقة تفكيره بحاجة لمراجعات.

المتعصب بالعموم لا يفكر إلا بالمضمون، لأنه يحاول إثبات وجهات نظره بعيداً عن الشكوك المتعلقة بها، أما المفكر والعاقل الراشد فلا يفكر إلا بالأسلوب ولا مكان في تفكيره أبداً للمضمون، وإلا حينها أصبح مقلداً أو متعصباً لديه أفكار مسبقة تشكل لديه حواجز وخطوط حمراء لا ينبغي تجاوزها بالأسلوب...وهذا منطق خاطئ تماماً..لأن طريق هداية العقل وقناعته الرئيسة يكون بالأسلوب ، أي أنه وبالأسلوب وحده يصل لمرحلة اليقين، والسبب أن الأسلوب يُعالِج بالخيال أي معتقدات أو أفكار متوارثة، فيضع تلك المعتقدات كمُنتجات عقلية قابلة للدحض، بينما التفكير بالمضمون لديه نتيجة اختبار مسبقة تفرض النجاح كختام للعملية التفكيرية، والسبب أن المضمون يقوم على معطيات يعتمدها المضمون نفسه وليس العقل، بمعنى أن كافة المعطيات التي أتعامل معها -حين أفكّر بالمضمون-لم يُجرَى معها عمليات تحري عقلية للتأكد من صحتها ،وهو ما يُعرف بالتسليم بصحة المعلومات دون إخضاعها للشك، وتقريباً أغلب الناس يفكرون بهذه الطريقة فالبشر في أغلبهم لا يتحرون من صحة معلوماتهم.

لنفترض أن المضمون غير موجود أصلاً أو أنه شيئاً آخر لدينا محسوس، حينها يعتمد العقل أي مدارك أو مُدخلات للمعلومة، ولكن أن يُوجَد المضمون فهذا يعني أنه سيُشكّل لدينا جزئاً من التفكير، ذلك أنه وعن طريق الصور والأشكال- المتعلقة بالمضمون- تحفظ لدينا في خيالاتنا صورة هذا الشئ بعد مفارقته للحواس، فتكون –حينها-العلاقة بين السبب والمُسبب في الذاكرة غير واضحة، فيجري البحث عن تفسير أو تبرير لهذه العلاقة فلا يجد العقل سوى هذه الصورة للمضمون ليضعها كمُعطيات للفهم فيحدث الخطأ.

البديل هو التفكير العقلاني أو المنهجي أو ما أعرفه.."اصطلاحا"..بالأسلوب، لأن هذا النوع من التفكير قليلاً ما يُحدِث أخطاءً منطقية، والسبب أن العلاقة بين الأسباب والمسببات لديه واضحة، وبالتالي فهو قادر بالأسلوب أن يفهم المقدمات والشواهد والظواهر بطريقة أقرب للمنطق السليم..هي طريقة كما قلنا لا تضع معاييرها للفهم خارج نطاق العقل، أي أنها لا تستسلم للموروث أو للخُرافة أو أنها تسعى أو تتأثر بالتقليد، فقدرات الآخر أو العالم الخارجي حينها تكون متواضعة بالقياس على قوة العقل في الرؤية والإبصار.

من أشهر الأخطاء الفكرية هو أن يُسلم إحدانا بالموجود- ولو كان لا عقلانياً.. إما لأن التفكير العقلاني سيكشف لديه عيوبه ويضعه في مواجهة صريحة بينه وبين نفسه، وإما أن هذا الموجود يُمثّل لديه نتيجة سريعة تُريحه من عناء البحث والتفكير، والأخيرة هي سمة ضرورية للمجتمعات المتخلفة التي تعاني من الكسل أو التبرير، أما الأولى فهي السمة الغالبة للمجتمعات الغير مستقرة التي تنتشر فيها الحروب ويشيع فيها سفك الدماء وتُنتهك فيها كرامة وحُرّية الإنسان.

من يُخطئ بهذا الشكل فهو يفكر بالمضمون، أي أنه يحاول أن يُقنع نفسه بالمضمون..لا أن يكون العقل لديه وسيلة لتصوره ،وأشهر الأمثلة التي ينطبق عليها هذا السلوك هو من يُقنع نفسه بالحُكام والزعماء مهما فعلوا، فيلتمس التبرير لهم أو أن يتكاسل عن فهم ما استُشكل عند الآخرين، ولو أقدم على فهم هذا الشئ فيربطه بنتيجة عقلانية لديه تحمل تصوراً مضاداً للآخر، وهذا جانب آخر من سلوك المتعصبين ، أي أن هواة قد أجبره على عدم مفارقة المضمون مهما حدث.

في تقديري أن من أهم الطُرق المأمونة للتفكير بالأسلوب هو أن تُفكك القضية إلى عدة عناصر وهو ما يُعرف بالتفكير التحليلي، ثم يُعاد تركيبها بعد ذلك لاكتشاف زيفها والأخطاء المتعلقة بها..ولنأخذ مثال على ذلك وهو الأزمة السورية فيجري فهم الدولة أولاً بتفكيكها من كافة الأبعاد الداخلية الخاصة بالإنسان السوري وأرضه وتاريخه، ثم من الأبعاد الخارجية الخاصة بدول الجوار والنظام الدولي والإقليمي والظروف السياسية والاقتصادية والدينية لهذه الشعوب وتلك الأنظمة كمثال، وبعد هذا التفكيك نقوم بجمع النتائج وتصور الدولة والأزمة في ظلها كاملة.

من ناحية أخرى فالحالة المزاجية والوجدانية مهمة في عملية التفكير، لأن دورها في بناء الرأي كدور النار في إنضاج الطعام، فمن الخطأ الاعتقاد أن الرأي هو من العقل وللعقل دائماً، وكثيراً ما يلعب المدلسين والكاذبين أدواراً في توجيه الرأي -وعمليات التفكير في بعض المناطق أو التيارات- بالأصل تكون موجهة لأهداف معلومة ومُرتبة مُسبقاً، وهو ما يُعرف لدي بالأداء الإعلامي التحشيدي أو التوجيهي، وأغلب من يقومون بهذا الدور هم من القائمين على الإعلام الطائفي أو الحزبي أو الأيدلوجي بالعموم.

فأساس هذا الفكر القائم -أو المتأثر بالحالة المزاجية والوجدانية- أنه قائم على التقديس ابتداء، أي أنه- وكما قلنا- أنه متعلق أكثر بالمضمون ، ولا يُخضِع عقله للأسلوب في البحث والنَظَر..ليس لعدم إرادته فقد يكون ممن يعشقون هذا الأداء ،ولكنه من فرط مزاجه ومن قوة وشدة الخديعة-التي تعرض لها- يعجز عن التفكير ويسير في طُرق ممهدة له مسبقاً لم يصنعها بنفسه ولكن يصنعها له غيره، وربما حينها لا يشعر بأزمته حينها يكون ممن يُحظر عليهم السؤال وترتاح نفسه لهذا الطريق فيسير فيه إلى نهايته، وهو مع ذلك يُصبح مملوكاً لا يرى خارج دائرة الخطأ.

كذلك ومن نتائجه .."المصادرة على المطلوب".. وهي إحدى جوانب التفكير السلبي بالمضمون، بمعنى أن الشخص من ضيق عقله وعَطَن قلبه يخلط ما بين المقدمة والنتيجة لإثبات شئ أراد إثباته مقدماً، وما كان تفكيره إلا لإثبات صحة موقفه وليس للبحث عن الحقيقة، وهو ما يُشكّل تطويعاً للواقع لحساب الرغبة، وأكثر من يُصادرون على المطلوب هم المتناظرين أو العوام الذين تأثروا بشيوع هذه الآفة دون إدراكهم للجزء المغلوط، ففي تقديري أن العوام قادرون على رصد وفهم تلك المغالطات إذا ما حرص الإعلام على كشف هذه المسائل والتحذير منها،وبالكاد إذا ما لم يقم الإعلام –بكافة أشكالة-بهذا الدور يقع العوام أسرى لتلك المغالطات فتشيع الخلافات والاحترابات الداخلية.

ومن نتائجه أيضاً سلوك التعميم والتعميم ذميم، لأن أكثر الآفات التي تتعلق بطُرق التفكير هو التعميم، بمعنى أن يظن الشخص بأن المسلمين إرهابيين بمجرد ظهور أو شيوع مجموعة منهم بهذا السلوك، أو أن الشيعة سبّابون للصحابة بمجرد ظهور مجموعة منهم يفعلون هذا الفِعل، أو أن السنة يكرهون آل البيت بمجرد ظهور مجموعة منهم يُعظّمون قاتليهم وظالميهم، وربما لا يعلم البعض أن هذه الطريقة في التفكير تُسمّى.."بالقياس الناقص"..أي أن يقيس لإثبات شئ دون الحرص على تطابق نتائج القياس على الكل.

البديل في هذه الحالة هو ما يُعرف .."بالقياس التام"..أي أن يجري التأكد من صحة وصدق النتائج على الكل، فإذا أردنا إثبات أن الشيعة على خطأ في سبهم لأصحاب رسول الله فلابد من إثبات أولاً أن الشيعة جميعهم على هذا التوجه، فإذا لم يستطيع أحد تحقيق هذا العمل فالأسلم له أن يتوقف، لأن الاستمرار حينها يُوقعه في أخطاء ومغالطات ستؤدي حتماً إلى العديد من المُشكلات، فالقياس الناقص قد يُشكّل جانباً من المصادرة أحياناً إذا ما رافقته نزعات إقصائية تحرص على إرضاء الذات مهما حدث.

أخيراً فلا يمكن إنتاج رأي أو قرار صائب يكون نسبة صوابه 100% في ظل الالتزام الحرفي بالنصوص والقوانين، ذلك لأن التفكير السلبي في الغالب يقوم على أساس حرفي من البناء الفكري على القوانين، فكل قانون له بناء فكري يجيز هذا ويُحرّم ذاك، وعليه فحياة الإنسان ما بين الجواز وعدم الجواز، وأكثر من يفكر بهذه الطريقة يُفاجأ بأنه يتشدد في ما لا يلزم، والسبب أنه تغاضى عن الغرض والمقصود أو ما يُعرف بروح القانون أو النص، وإذا لم يفطن الإنسان لهذا السلوك فسيظلم آخرين وسيظلم نفسه حتماً، وربما إذا كشف هذا المقصود يبدأ في الشك.

وعليه فأنا لا أثق في ادعاء من يزعم بأنه على الحق المُطلق في أي شئ حتى في الدين،لا يمكن أن تقول بأن الله موجود وأنت تعبده هكذا دون أن تُحدِث عملاً عقليا وروحيا يحملك على هذا الاعتقاد، وإلا حينها تشوب أفكارك بعضاً من الظواهر السلبية كالتقليد والآبائية، لأن الشخص حينها إذا سأل نفسه لو كان قد وُلِدَ في مجتمع آخر أو على دينٍ آخر فهل سيبحث عن الحق بنفسه أم سيتعصب لدين قومه بنفس مقدار ما عليه الآن من مواقف؟!...الأديان بالعموم تخاطب العقول، لِذا فالعقل ضروري لتصور الدين، والدين بالعموم هو جزء من عملية التفكير بل ربما يكون هو الجزء الأهم والأكبر، وهو الذي ينبني عليه كافة القوانين والنصوص المنظمة لحياة البشر بعد ذلك.

فمن يزعم بأنه لا حاجة للتفكير في وجود الإله فقد كَذِب، وهذا يعود بنا لما قلناه قبل ذلك بأن من سمات المجتمعات المتخلفة التسليم بالموروث والتبرير له، أو الكسل في تفسير وفهم ما استُشكِل عليه من أمور الدين والحياة والكون، فالدين بحاجة إلى عقل متحرر كي يفهم حقائق الدين التي تتجدد وتتطور بتتطور الإنسان وبيئته، فمن أراد إخضاع الواقع للموروث فقد جعل موروثه مضموناً يحوم حوله لإثباته والدفاع عنه مهما حدث، والسبب أنه حرص على الانتفاع بسائر المكتسبات التي رافقته في جزء من حياته، فظن بجهله أن هذه المكتسبات هي الجائزة لهذا الاعتقاد ولا يحاول تفسير وجود مثل هذه المكتسبات في أيدي الآخرين، وهنا يكمن الخطأ في التفكير لأن تغيير الأفكار لا يلزمه الهدم بالضرورة، فالتغيير ضروري لاتساق هذه الأفكار مع التطورات التي تطرأ على حياة البشر، وبالتالي فالذي يحدث هو تطوير بمعنى تنمية وتجديد وليس هدم الفكر والشخصية بالكلية.

اجمالي القراءات 8457

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2012-09-25
مقالات منشورة : 788
اجمالي القراءات : 8,099,738
تعليقات له : 102
تعليقات عليه : 410
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt