القبض علي هشام طلعت: شكراً للإمارات
كان من الصعب علي أكثر المتفائلين بدور الرأسمالية المصرية أن يتصور أن يأتي اليوم الذي يتحول فيه سلوك بعض رجال الأعمال المصريين إلي سلوك عصابات، ويتحول دور الرأسمالية في خلق منظومة قيم تحث علي العمل والجدية والابتكار، إلي سلوكيات مشينة تقدم أسوأ نموذج لعموم المصريين.
والمؤكد أن خطورة حالة هشام طلعت ليست في مناقشتها من زاوية أنها حالة فردية أم لا، إنما في كونها عاكسة لبيئة ونظام صنعها ودعمها حتي آخر لحظة، فالرجل من أركان مجموعة المال والسياسة الحاكمة، وهو قيادي في الحزب الحاكم ومقرب من مجموعة الفكر الجديد،
وبالتالي إذا كان اتهامه بهذه الجريمة أمراً فردياً فإن الظروف التي ساعدته علي الصعود المالي والسياسي لا تجعل جريمته مجرد حالة فردية، إنما هي جريمة نظام بأكمله صارت رموزه الاقتصادية تحمل كل هذا السواد تجاه البشر.
لقد وصلت غطرسة القوة إلي ارتكاب جريمة قتل خارج الحدود ليس فيها أي مهارة في التنفيذ، لأن من قام بها تصور أنه لن يمس وفوق القانون والمحاسبة، ولا يحتاج حتي لإخفاء آثار الجريمة، بل إنه تحدث عنها علنا عبر الهواتف النقالة.
ولأن الجريمة لم تقع علي أرض مصر، ولأن الضحية لم تكن مصرية أيضا، فصعَّب ذلك بالتالي من فرص تجهيز قاتل «مختل عقليا» ليشيل الجريمة، كما هي العادة في بلد لم يعتد محاسبة أي مسؤول كبير، إلا في حال وجود أوراق ضغط خارجية أو رغبة سياسية أو شخصية (لا تخضع لأي حسابات قانونية لمحاسبة هذا الشخص).
والخطورة أن حجم الدعم الحكومي لهؤلاء الناس كان مرعبا، ولولا تواطؤ الدولة معهم لما أصبحوا رأسماليين ولا رجال أعمال، فمواهبهم وكفاءتهم الحقيقية لا تضعهم إلا في مرتبة التجار الفشلة الذين تقف «إبداعاتهم» عند حدود القيام بسرقات صغيرة وفي «خَمّ» الزبائن بوضع ٨٠٠ جرام من السكر أو الطماطم بدلا من كيلو واحد وهكذا.
وعلينا ألا ننسي أن واحداً من مشاريع هشام طلعت الكبري بدأه من خلال المضاربة في أراضي الدولة، التي اشتراها بـ«ملاليم» وباعها بـ «ملايين»، فقد اشتري متر الأرض من الحكومة في مدينة الرحاب بـ١٠ جنيهات فقط، (يقدر حالياً بحوالي ٣٠٠٠ جنيه)، وحين قرر أن يبيع هذه الأرض كان سعرها قد وصل إلي ٢٥٠٠ جنيه، وهو ما حقق لمجموعته الاقتصادية فائض ربح قدَّره زميلنا محمد بصل بأكثر من ٤ مليارات جنيه.
وبعد «نجاح» هشام الاقتصادي أصبح عضوا في مجلس الشوري بدعم مباشر من لجنة السياسات، التي زكته كرئيس لجنة الإسكان بالمجلس، وبدأ صراعه مع رفيقه الآخر في الحزب أحمد عز علي النفوذ المالي والاقتصادي نظرا لاحتكار الأخير للحديد، والانعكاسات السلبية لذلك علي سوق العقار، بصورة اعتبرها طلعت تقلص هامش أرباحه الذي يقدر بالمليارات.
ولولا هذا التواطؤ الحكومي مع هشام طلعت ومع غيره من أبناء هذه الطبقة الجديدة، لما أصبح هؤلاء هم رموز المجتمع بالتحايل والفساد، فهم صنيعة الوضع السياسي الحالي الذي غابت عنه تقاليد مكافأة المبدع والمجتهد، لصالح الإغداق علي الفاسد والمنافق.
وبدأ التعامل المصري مع قضية هشام طلعت بفرض طوق من التعتيم الإعلامي عليها، وبغسل الجريمة تليفزيونيا من خلال البرنامجين الحكوميين «صباح الخير يا مصر» و«البيت بيتك»، اللذين ظهر فيهما هشام طلعت باعتباره داعماً للعفاف والطهارة ونصير الفقراء وأحد صناع نهضة مصر الاقتصادية في مشهد مخز ومخجل لما آل إليه حال الإعلام الحكومي.
ودشن الرجل حملة إعلانية ضخمة تردد أنها كلفته عشرات الملايين من الجنيهات في محاولة لإثبات أنه لا علاقة له بهذه الجريمة، وطالب بتبجُّح ـ نحسده عليه ـ بسن قانون لمكافحة مروجي الشائعات.
ولم يسأل أحد عن رأي من هللوا للرجل ودافعوا عنه بطريقة فجة تفوح منها روائح كريهة عن رأيهم الآن بعد أن دخل «العامل الإماراتي» في القضية وأحيل للمحاكمة.
والمؤكد أن دور الإمارات في محاكمة الرجل واضح، ليس فقط بسبب الأنباء التي تناثرت حول الضغوط الإماراتية (الاقتصادية والسياسية) علي الحكومة المصرية، إنما لأننا لم نعتد مثل هذا النوع من المحاكمات لأي مسؤول كبير، إلا إذا غضب عليه الحكم لأسباب لا علاقة لها بمخالفة القانون أو حتي ارتكاب جرائم.
إن المهنية الشديدة التي تعاملت بها شرطة دبي مع الجريمة تكشف حجم الانهيار الذي حدث في مصر، فالإمارات ليست دولة ديمقراطية، ولا يوجد فيها أحزاب ولا تداول للسلطة، ولكنها دولة قانون، ونخبتها عرفت مبكرا أنه لتحقيق أي نجاح مالي واقتصادي في تلك الإمارة الصغيرة، التي جذبت بنجاح استثمارات من العالم كله، لابد أن يكون هناك قانون،
وأن تكون هناك مهنية وشفافية في إدارة النظامين الاقتصادي والسياسي، علي عكس الحالة المصرية التي فرطت الدولة في تقاليدها العريقة، وحولت دولة القانون إلي دولة مواءمات تحسب موازين القوة والضعف والثراء والفقر، قبل أن تحاسب أي شخص، وتنحاز دائما لكل من يمتلك سطوة مالية أو سياسية أو إدارية حتي لو كان مثلا لا يحتذي في الفساد وعدم النزاهة.
المؤكد أن اتهام هشام طلعت مصطفي بتحريض أحد ضباط الشرطة الفاشلين علي ارتكاب تلك الجريمة، هو اتهام لمجمل الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي نما وترعرع فيها الرجل، وأنه لا يمكن أن نتحدث عن رأسمالية حديثة أو رأسماليين إصلاحيين دون تغيير الأوضاع السياسية والاقتصادية،
لتصبح مصر دولة قانون تحاكم من يمتلك السطوة قبل أن تحاكم المواطن الضعيف، وهو أمر من المستحيل تخيله في ظل نظام احترف الفشل وحافظ عليه ببراعة يحسد عليها، علي مدار ما يقرب من ثلاثين عاما،
فالفشل في إطفاء حريق مجلسي الشعب والشوري، والفشل في التعامل مع كارثة الدويقة والفشل في حل مشكلات المرور والمجاري وانقطاع التيار الكهربائي والعشوائيات والمواصلات، وغيرها، لن يستطيع أن يطبق القانون علي مسؤول كبير دون حسبة ما، لا علاقة لها بالقانون والعدالة.
وتعليق
رحل المشير أبوغزالة في صمت، وفقدت مصر واحدا من ألمع وأهم رموز المؤسسة العسكرية الأوفياء، رحل رجل من أبرز عقول مصر الاستراتيجية، قبل أن تتاح له فرصة الحديث عن العهد الحالي بصراحة وشفافية، تاركا لهم الدنيا ليودعوه بصمت وفتور.
دخل أبوغزالة التاريخ حتي لو لم يرض البعض، لأن التاريخ سيقول كلمته حين يتحرر من قيود السلطة، وسيعترف حتما بالرجل كقيمة فكرية واستراتيجية، امتلك حساً سياسياً مرهفاً وطموحاً لإصلاح أحوال هذا الوطن، لايزال الناس يحلمون به ويأملون أن يتحقق يوماً ما. وكما قالت صحيفة «البديل» في وداع أبوغزالة إنه كان «قدر مصر الذي لم يأت».
elshobaki@ahram.org.eg
اجمالي القراءات
7955