تاريخ نشأة علم التاريخ فى حضارة المسلمين
يقصر أغلب المؤرخين معني التاريخ علي بحث واستقصاء حوادث الماضي , وفي اللغة العربية فالتأريخ والتاريخ والتوريخ يعني الأعلام بالوقت ( وقد يدل تاريخ الشيء علي غايته ووقته الذي ينتهي إليه زمنه ، ويلتحق به ما يتفق وقوعه من الحوادث والوقائع الجليلة ) ( وهو فن يبحث عن وقائع الزمان من ناحية التعيين والتوقيت وموضوعه : الإنسان والزمان ومسائله : أحواله المفصلة للجزئيات تحت دائرة الأحوال العارضة للإنسان وفي الزمان) .. هذا ما ردده المؤرخون العرب ..
وإذا أردنا أن نعبر عن معني التاريخ بمفهومنا العصري فالتاريخ هو رصد حركة الإنسان علي الأرض. وحركة الإنسان علي الأرض منذ وجد تتلخص في كلمة واحدة هي ( الصراع ).. صراع الإنسان مع أخيه الإنسان وصراعه مع عناصر الطبيعة من ظروف أحاطت به وتمكن من استخدامها لمصالحه ..
وصراع الإنسان مع نفسه بدأ منذ هبوط آدم للأرض إذ قال له ربه (قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ )( الأعراف 24 ) . وعداء الإنسان لنفسه تجلي في قتل قابيل بن آدم لشقيقه هابيل حيث كانت أول حادثة قتل وأول حرب عالمية عرفتها الكرة الأرضية . ثم تكاثرت ذرية آدم وتكاثر معها الصراع بين أبناء آدم وهو صراع أثبت أن أعدى أعداء الإنسان هو الإنسان ، ولا يزال الصراع الإنساني محور التاريخ الإنساني ، والحرب هي قمة الصراع الإنساني ، ولا تكاد تنطفيء نار الحرب في مكان إلا وتدق طبولها في مكان آخر .
وصراع الإنسان ضد عوامل الطبيعة يتجلى في محاولته المستمرة لاستخدامها في منفعته وتحويلها إلي صالحه تجسيدا لمعني التسخير . فالله تعالي قد سخر للإنسان الأرض وما عليها من مادة جامدة ومادة حية بل وسخر له السماء وأجرامها , والإنسان بما أوتي من عقل وذكاء واستخلاف في الأرض يمكنه أن يستخدم عناصر الأرض والسماء في الخير والبناء ، ولكن الزيغ عن منهج الله تعالى جعل الإنسان في تقدمه العلمي يستخدم طاقته المبدعة في التدمير؛ تدمير الطبيعة وتدمير أخيه الإنسان . ولكن صراع الإنسان مع الطبيعة ومع أخيه الانسان هو الذي مكنه من الاختراع ، وبالاختراع كان البناء والتقدم .
وهكذا فعلم التاريخ هو الذي يرصد حركة الإنسان علي هذه الأرض منذ أن وجد ، سواء أتحرك بالعداء والحرب مع أخيه الإنسان أو تحرك بصراعه نحو إخضاع الجبال والمناخ وبناء المدن وشق الطرقات والأنفاق وتأسيس الحضارة . وتجمع دراسة التاريخ بين الجانبين معا إذ لا يخلو الإنسان من نوازع الخير والشر معا ، فحين نبحث تاريخ أمة نتعرض لعلاقاتها بالأمم المجاورة إما سلما وإما حربا ونبحث أيضا حضارتها المتمثلة في نشاطها المعماري والعلمي والثقافي .
ومن ناحية أخري فالتاريخ هو الذاكرة البشرية ،إذ يمتاز الإنسان عن باقي المخلوقات في هذا الكوكب بأنه يختزن المعلومات الماضية في عقلة ويستفيد بها ويتعلم منها ، فقد وصل الإنسان للأرض متأخرا عن الأجيال المتنوعة من الحيوانات ، ومع ذلك فقد سيطر عليها وهي أشد منه قوة وبأسا ، بل لم يلبث أن سيطر علي كوكب الأرض نفسه وتطلع للمزيد ، وهذا لان الإنسان لا يعيش فقط حاضره وإنما يستفيد بمنجزات ماضيه ويعمل من أجل تطوير مستقبله .
أما الحيوان فمنذ أن وجد فهو يعيش في الحاضر فقط ولا يدري شيئا عن الماضي أو المستقبل ، فالأسد مثلا منذ ملايين السنين لم يتغير أسلوب حياته , والفأر لا يزال يسقط في المصيدة التي سقط فيها أسلافه منذ مئات السنين , وبهذه الخبرة التي يكتسبها الإنسان ويطور بها حياته تحكم في الحيوان الذي لا يعيش في أكثر من حاضره ..
والتاريخ هو التجسيد الفعلي للخبرة الإنسانية ؛ فالتاريخ هو رصد حركة الإنسان في الماضي ليستفيد منها الإنسان في الحاضر والمستقبل . ويقرر التاريخ الحضاري للإنسان أنه استفاد من تجاربه السابقة فتطورت حضارته بالتجديد المستمر والاختراع بحيث تعاظم الفارق بين إنسان القرن العشرين والإنسان الأول البدائي في الغابات والكهوف .
ولا يزال الإنسان في عصرنا يواصل مسيرته في الاختراع ليصل بها فى المستقبل للكواكب الأخرى ، وحينئذ سيتعاظم الفارق بيننا وبين إنسان المستقبل ، ولولا أن الإنسان يستفيد بتجارب السابقين ويبني عليها لما وصل إلى هذا التقدم المستمر ، والاستفادة بتجارب السابقين تعني دراسة التاريخ الحضاري للسابقين ومحاولة تطويره ودفعه للأمام . وهكذا فالتاريخ وثيق الصلة بالتقدم الحضاري .
ومع الآسف فان الإنسان استفاد كثيرا في صراعه مع الطبيعة من خبرته وذاكراته وتاريخه الحضاري بينما لم يستفد مطلقا من تجارب السابقين في تحسين علاقته بأخيه الإنسان والتخفيف من صراعه مع أخيه الإنسان ؛ فلا تزال الحرب هي نشاطه الأساسي الذي يحشد في سبيلها كل امكاناته بل ويستخدم تقدمه العلمي في اختراع المزيد والمزيد من أسلحة الدمار التي ستقضي عليه وعلي إنجازاته بل وربما علي الكوكب الذي يعيش عليه .
ويرجع ذلك إلي ابتعاد الناس عن منهج الله حين استخلف أبناء آدم علي الأرض وسخر لهم امكاناتها وأعطاهم العقل المفكر ثم أرسل لهم الرسل ليستغلوا العقل والامكانات للخير فكان أن استخدموها للتدمير والظلم وحرب الله تعالي..
ووظيفة المؤرخ أن يذكر الناس دائما بما حاق بالسابقين حين عتوا وظلموا وكفروا ، فالمؤرخ هو ضمير المجتمع والحارس علي الفضائل فيه ، فواجب عليه أن يدعو الناس للاستفادة من عبر الزمان في عصرنا الذي تتكدس فيه وسائل التدمير التي تهدد بالقضاء علي حضارة الإنسان وتراثه وتاريخه ..
هذا ..
ولقد عرف الإنسان الأول البدائي علم التاريخ بمعناه البسيط حين أخذ يقص علي أبنائه قصص أسلافه ممتزجة بالأساطير والخرافات , ثم تطور التعبير عن تاريخ الأسلاف ليأخذ شكل التدوين البدائي بالرسم والنقش علي الكهوف إلي أن اخترعت الكتابة حيث سجل بها العظماء مآثرهم ومفاخرهم ، ثم إذا نشأت الحضارات القديمة والمباني الضخمة كان التاريخ هو الذي يرصع جنبات هذه المؤسسات يحكي عن أمجاد الحكام وتقديسهم ومختلف أحوالهم ..
وتمضي الحضارة قدما وينتشر العلم والمؤلفات ويتعين علي التاريخ أن يصحب تقدم الإنسان في كل عصر يسجل أعماله وأقواله . وهكذا يزداد الاعتماد أكثر وأكثر علي تدوين التاريخ بينما تتضاءل الرواية الشفهية كلما ازداد تقدم الإنسان .
إلا أن التقدم الإنساني لا يعني أن تنعدم الرواية الشفهية للتاريخ جملة وتفصيلا ، فالتقدم الحضاري العالمي يتفاوت بين مجتمع وآخر ؛ ففي عصرنا الراهن لا تزال هناك جماعات رعوية أو تعيش علي الصيد في أواسط أفريقيا وغابات أمريكا الجنوبية لم تتغير حياتها كثيرا عن أسلافها الأوائل ، بل إنه في الدولة الواحدة تتفاوت درجة الحضارة بين الريف والمدن وبين المدن بعضها البعض ، وفي ربوع ريفنا لا تزال تسمع الأب يحكي لأبنائه الصغار سيرة آبائه الأوائل وما كان لهم من فضائل ومآثر ،وهو بذلك لا يختلف كثيرا عن الإنسان البدائي الذي لم يعرف غير هذا الطريق في سرد تاريخ السابقين ..
وتبقي الرواية الشفهية للتاريخ ما بقيت هناك مجتمعات متخلفة علي ظهر الأرض وقد جاء لها وقت كانت هي الطريق الأساسي لرواية التاريخ كما كان في العصر الجاهلي الذي عاشه العرب قبل الإسلام .
وفى هذه السلسلة سنتعرض بايجاز لنشأة علم التاريخ وبدايته فى تاريخ الحضارة العربية الاسلامية ؛ من الرواية الشفهية الى بدء التدوين التاريخى ومراحله ومدارسه وانواعه . وهى دراسة مبسطة تعطى لمحة عن نشأة الحياة العلمية فى تاريخ المسلمين .
والله جل وعلا هو المستعان .
هذه المقالة تمت قرائتها 417 مرة
التعليقات (1)
[25591] تعليق بواسطة خالد حسن - 2008-08-13
مقدمة رائعة
مقدمة رائعة دكتور أحمد جزاك اله خيرا
نرجو أن نتعلم من أخطاء السابقين ولا نقع في الخطأ نفسه
اجمالي القراءات
18436