معركة الوثائق السرية في مواجهة التاريخ الاستعماري المظلم لبريطانيا
في عام 2009، تقدم 5 كينيين مسنين بطلب رسمي إلى رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون، طالبوا فيه بالاعتراف بالانتهاكات الجسيمة التي تعرضوا لها خلال الحكم الاستعماري البريطاني لكينيا في خمسينيات القرن الماضي.
ورغم ضعف الأدلة المتوفرة في البداية، فقد وصلت القضية إلى المحكمة العليا البريطانية عام 2011، لتكشف عن مفاجأة مدوية، وهي أن بريطانيا تعمدت إخفاء وتدمير آلاف المستندات التي توثق ممارسات قمعية ارتُكبت خلال تلك الحقبة، خشية الإضرار بسمعتها أو فتح الباب أمام مطالبات قانونية قد تؤدي إلى مساءلة تاريخية.
ما بدأ كقضية قانونية محدودة فتح الباب واسعا على تاريخ طويل من القمع الاستعماري الذي مارسته بريطانيا في مختلف أنحاء العالم. فعلى مدار قرون، بسطت الإمبراطورية البريطانية نفوذها على مساحات شاسعة وتركت خلفها إرثا من الظلم والجروح والصراعات لا يزال يلقي بثقله على المشهد العالمي حتى اليوم.
رسم تصويري لمبان لشركة الهند الشرقية في بونديشيري الهندية أواخر القرن الـ18 (مواقع التواصل)
من التجارة إلى الإمبراطورية
بدأت الإمبراطورية بتأسيس شركة الهند الشرقية البريطانية التي سرعان ما تحولت من مشروع تجاري إلى قوة إمبريالية، تخوض الحروب وتفرض سيطرتها على مساحات شاسعة من جنوب آسيا، مما مهد لصعود بريطانيا كقوة عالمية، ومع احتكار التجارة في الهند والصين، عززت بريطانيا نفوذها الاقتصادي والعسكري، واضعة الأسس لإمبراطورية امتدت عبر القارات.
مع دخول القرن الـ19، أصبحت القارة الأفريقية ساحة جديدة لمشاريع بريطانيا الاستعمارية بعد احتلال مصر عام 1882 والسيطرة على قناة السويس، التي ضمنت لبريطانيا هيمنتها على أحد أهم طرق التجارة إلى الهند.
واجه سلوك بريطانيا الاستعمارية في أفريقيا مقاومة شرسة، لا سيما في جنوب القارة، ولكن بحلول أواخر القرن الـ19، كانت بريطانيا قد أحكمت قبضتها على أجزاء واسعة من القارة، محققة رؤيتها بإنشاء إمبراطورية تمتد "من كيب تاون إلى القاهرة"، كما في أدبيات تلك المرحلة.
وكانت الإمبراطورية حينها تضم ما يقرب من ربع مساحة اليابسة في العالم وأكثر من ربع مجموع سكانها، ولم تكن هيمنة بريطانيا مقتصرة على الأراضي وحدها، بل امتدت للسيطرة التجارية والسياسية في مناطق إستراتيجية أبرزها الصين.
في الصين، فرضت بريطانيا ما يُعرف بـ"المعاهدات غير المتكافئة" بعد سلسلة من الحروب سميت بحروب الأفيون الأولى والثانية، التي بدأت بسبب قيام بريطانيا بتصدير الأفيون إلى الصين لتعويض العجز التجاري المتزايد لديها بسبب الطلب الكبير على الشاي الصيني.
لكن مع تصاعد التغيرات الجيوسياسية، وظهور قوى دولية منافسة، بدأت هيمنة بريطانيا العالمية بالتآكل التدريجي. وفي محاولة لإعادة صياغة علاقتها بمستعمراتها السابقة، أُعلن عام 1931 عن تشكيل الكومنولث البريطاني، الذي ضم الكيانات التي حازت قدرا واسعا من الحكم الذاتي، لكنها استمرت في الاعتراف الرمزي بالملك البريطاني كقائد لهذا التجمع.
ظلّت هونغ كونغ الشاهد الأخير على التاريخ الاستعماري البريطاني حتى عام 1997، لتسلمها بريطانيا رسميا إلى السيادة الصينية، وتطوي بذلك آخر صفحات إمبراطوريتها المباشرة.
سلسلة طويلة من الانتهاكات
يروج بعضهم لفكرة أن الإمبراطورية البريطانية شكلت استثناء ملحوظا في القاعدة الاستعمارية، استنادا إلى ما يُعرف بـ"النهج الناعم" البريطاني، في إدارة مستعمراتها دون اللجوء إلى الفظائع التي ارتكبتها القوى الاستعمارية الأخرى، غير أن هذا التصور، بحسب عدد من الباحثين والمؤرخين، أدى إلى إضفاء سردية مُجتزأة تُخفي جوانب أساسية من العنف البنيوي الذي ميز التجربة الاستعمارية.
ووفقا لهذا الطرح، تم تقديم السياسات العسكرية البريطانية باعتبارها إجراءات "منضبطة" و"متحضرة"، بل وذات طابع إنساني، في حين جرى تبرير استخدام القوة على أنه ضرورة تهدف إلى فرض النظام بين شعوب توصف بأنها "بدائية" أو "متخلفة".
ورغم أن القانون الدولي وضع قواعد تضبط سلوك الدول "المتحضرة" في النزاعات المسلحة، فإن هذه القواعد لم تُطبق في الحروب الاستعمارية التي خاضتها بريطانيا، بل غالبا ما جرى تجاهلها وفق مختصين، مما فتح المجال أمام ارتكاب مجازر واسعة بحق السكان الأصليين تحت غطاء استعادة الأمن أو فرض الهيبة الإمبراطورية.
في عام 1898، ارتكب الجيش البريطاني بقيادة الجنرال هربرت كتشنر مجازر واسعة ضد قوات المهدية السودانية في معركة كرري (أم درمان)، استخدم البريطانيون أسلحة حديثة مثل المدافع الرشاشة والبنادق المتطورة، في حين كان غالبية المقاتلين السودانيين مسلحين بأسلحة بيضاء وأسلحة تقليدية.
فتحت نيران البوارج، واستخدمت القوات البريطانية رشاشات مكسيم المحملة بذخائر "دوم دوم" المتمددة، وكانت القذيفة الواحدة تخلف عشرات القتلى، وهي من أوائل الأسلحة الآلية في التاريخ العسكري الحديث، وفرت هذه الرشاشات كثافة نارية غير مسبوقة، مما جعلها واحدة من أقوى الأسلحة في الحروب الاستعمارية.
تصف المصادر والشهادات المعركة بأنها كانت إبادة جماعية أكثر منها مواجهة عسكرية متكافئة، إذ واصل الجنود البريطانيون إطلاق النار حتى بعد هروب أو استسلام العديد من السودانيين، وأعدموا الجرحى على أرض المعركة. أسفر ذلك عن مقتل ما يقدر بين 10 آلاف إلى 26 ألف مقاتل سوداني في غضون ساعات، بينما لم تتجاوز خسائر البريطانيين 100 قتيل.
وقد أثارت وحشية المجزرة انتقادات واسعة في الصحافة البريطانية في ذلك الوقت، واعتبرها كثيرون رمزا لهمجية الإمبريالية البريطانية واحتقارها لحياة الشعوب المستعمَرة.
ورغم الانتقادات الدولية الواسعة، استمرت بريطانيا في استخدام هذه الذخائر حتى عام 1902، ليس بسبب اعتبارات إنسانية، بل خوفا من أن تُستخدم ضد قواتها من قبل خصومها، بحسب ما ذكره متخصصون.
كرري أم درمان 1898
معركة كرري أم درمان 1898 (مواقع التواصل)
وفي عام 1919، شهدت الهند واحدة من أسوأ المجازر، حين فتحت القوات البريطانية نيرانها على حشد من المتظاهرين المدنيين في حديقة جاليانوالا باغ بمدينة أمريتسار في إقليم البنجاب، قُتل في ذلك اليوم نحو 400 شخص، وأصيب أكثر من 1000 وفق الأرقام الرسمية، بينما تشير مصادر مستقلة إلى أن الأعداد الحقيقية أكبر بكثير.
لم تكتف القوات البريطانية بإطلاق النار، بل منعت أيضا تقديم الإسعافات للمصابين، في خطوة أثارت موجة غضب عالمي.
لم تكن هذه الحادثة سوى واحدة من سلسلة طويلة من الانتهاكات التي ارتكبتها بريطانيا في مستعمراتها، فقد استخدمت السلطات الاستعمارية سياسة الأرض المحروقة في مواجهة أي مظاهر مقاومة، شملت إحراق القرى وتهجير السكان، كوسيلة لفرض السيطرة وإخماد التحركات الشعبية.
وكان أحد أكثر أساليب الإعدام الوحشية التي استخدمها البريطانيون ضد المتمردين في الهند هو تفجير الأسرى من أفواه المدافع، وهو أسلوب دموي تعمّد انتهاك الشعائر الدينية لدى المسلمين والهندوس معا، جعلت من المستحيل دفن أو حرق الجثث وفق الشعائر الدينية، مما أضفى طابعا رمزيا يهدف إلى تحطيم الروح المعنوية والدينية للمجتمعات المُستعمَرة.
ووفقا للمؤرخين الرسميين، شهدت الهند خلال الحكم البريطاني إعلان الأحكام العرفية، حيث كان الجنود والمدنيون البريطانيون يعقدون محاكمات دموية صورية أو يعدمون السكان الأصليين دون أي محاكمة، بغض النظر عن الجنس أو العمر.
وكان ونستون تشرشل وزيرا للدولة لشؤون الحرب والطيران -مازال يُحتفى به باعتباره رمزا للمقاومة البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية– من أشد المدافعين عن الحفاظ على الإمبراطورية البريطانية حتى باستخدام أساليب قمعية مثيرة للجدل.
ففي عام 1919، كتب تشرشل صراحة أنه "يؤيد بشدة استخدام الغاز السام ضد القبائل غير المتحضرة"، وفي العام التالي أصدر أوامر باستخدام القوة المفرطة لقمع الانتفاضة في العراق، حيث نفّذ سلاح الجو الملكي أكثر من 4 آلاف ساعة من الطلعات القتالية، وأسقط ما يزيد عن 97 طنا من القنابل، وأطلق ما يزيد عن 184 ألف طلقة ضد المدنيين العراقيين، مما أسفر عن دمار واسع وسقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين.
وخلال الثورة الفلسطينية الكبرى بين عامي 1936 و1939، واجه البريطانيون المقاومة الفلسطينية بأساليب وحشية، تمثلت في الإعدامات العلنية دون محاكمة، وهدموا المنازل كعقاب جماعي، وفرضوا عقوبات جماعية على القرى المشتبه بدعمها للثوار، كما مارست قوات الانتداب التعذيب المنهجي في مراكز التحقيق بحق مئات المعتقلين الفلسطينيين خلال التحقيقات مع الفلسطينيين المشتبه بهم.
اجمالي القراءات
19