أول فرقة موسيقية مع القصبجي
يمثل لقاء ثومة بالقصبجي أحد أهم التحولات في تاريخها الفني على وجه الخصوص، وفي تاريخ الموسيقى العربية بوجه عام؛ فقد انطلق محمد القصبجي في إعداد أم كلثوم فنياً ومعنوياً مشكلاً لها فرقتها الخاصة، وقام بتأسيس أول تخت موسيقي، بديلاً لبطانة المعممين التي جاءت معها من قريتها طماي الزهايرة، وهو الأمر الذي تسبب في هجوم سيدة الصحافة الكبيرة "روز اليوسف" عليها وعلى بطانتها –طبقاً للعدد التذكاري من مجلة "فنون" تحت عنوان "أم كلثوم" الصادر عن هيئة الكتاب المصرية "ديسمبر 2019م"-، وكان من الممكن أن تتسبب حالة التنمر هذه في إجهاض مسيرة سيدة الغناء العربي وهي لا تزال في المهد، لولا تدخل القصبجي، الذي لعب دور رجل الإنقاذ.
في ذلك الوقت كان والد أم كلثوم، قد قرّر أن يتخلّى عن دوره كمنشد وينسحب هو والشيخ خالد من المشهد. وبعد ذلك بقليل جاء دور القصبجي، الذي أقنع ثومة بأن عليها مجاراة التطوّر والمجتمع القاهري الجديد الذي تعيش فيه والمختلف عن طماي الزهايرة، فخلعت أم كلثوم العقال والعباءة وظهرت في زي الآنسات المصريات، وتركت القصبجي يصنع ملحمته الموسيقية الخاصة خلفها، لتحلق معه درّةُ الفن إلى العرش.
إن كنت أسامح وأنسى الأسية
أعاد القصبجي إنتاج أم كلثوم في قالب جديد يليق بها، ليواجه حالة الهجوم التي قابلتها بسبب فرقة المعممين خلفها، وجاءت نقطة التوهج عام 1928م، عندما غنت "ثومة" مونولوج "إن كنت أسامح وأنسى الآسية" من ألحان القصبجي، حققت الأسطوانة أعلى مبيعات على الإطلاق في ذلك الزمان، ودوي اسم أم كلثوم بقوة في الساحة الغنائية، وصعدت إلى القمة للمرة الأولى.
أقنع القصبجي أم كلثوم بأن عليها مجاراة التطوّر والمجتمع القاهري الجديد الذي تعيش فيه، فخلعت أم كلثوم العقال والعباءة وظهرت في زي الآنسات المصريات، وتركت القصبجي يصنع ملحمته الموسيقية الخاصة خلفها
في نفس العام قدمت أم كلثوم أول ألحانها، عندما لحنت أغنية "على عيني الهجر" لنفسها. وعندما جاء يوم 31 مايو 1934م وافتتاح الإذاعة المصرية، كانت أم كلثوم وفرقتها أول من يتردد صدى موسيقاهم عبر الأثير. وأسرار تلك الخلطة الناجحة تحملها "ثومة" مع "قصب" والشاعر أحمد رامي، ومن قبلهم الشيخ أبو العلا محمد، الأب الروحي لكوكب الشرق.
تركيبة "قصب" المعقدة والتمثيل
رغم كلّ ما تردد عن خلافات أم كلثوم والقصبجي في السنوات التي تلت الانطلاقة الأولى، إلا أن القصبجي بقي ركناً أصيلاً في فرقة الستّ، وظلت الانطلاقة الأولى تشهد على مجدهما سوياً. حالة فرقة الست الفنية خطفت قلوب البعض في أوساط الدراما والفن التشكيلي، حيث قام الفنان التشكيلي د.إبراهيم الدسوقي، بتوثيقها في إحدى لوحاته.
الفنان المصري الراحل أحمد راتب تحدّث في أحد لقاءاته التلفزيونية عن المعاناة التي قابلها مع أداء دور القصبجي في المسلسل التلفزيوني "أم كلثوم"، وقال إنها شخصية صعبة على المستوى الدرامي، موضحاً أنه تقمص الشخصية ودخل في تفاصيلها. يقول راتب في أحد أحاديثه التلفزيونية: "كنت أشاهد صور القصبجي ومقاطع من حفلات الست أم كلثوم، ومن هنا كنت أذهب إلى البيت وأحاول تقليد شخصيته وطلته. فكنت أقوم بتجميع شعري إلى الخلف ولصقه بمادة تجعلني أبدو مثله تماماً، وبالتالي حاولت أن أغوص في أعماق الشخصية من نظرة وحركات القصبجي".
اكتفى القصبجي من الفن بدور الملحن، إلا أنه شارك ممثلاً سينمائياً لمرة وحيدة في عام 1944، في فيلم "ليلى في الظلام". لعب عبقري الموسيقى دور الرجل الكفيف في الفيلم الذي شارك في بطولته ليلى مراد وأنور وجدي وحسين صدقي وأمينة رزق. كما أثرى القصبجي الأفلام السينمائية بموسيقاه التصويرية، وشارك في أكثر من 30 عملاً سينمائياً، كان آخرها "حدث ذات ليلة" عام 1954.
الشخصية المعقدة التي تحدث عنها الفنان أحمد راتب، ضحت بكلّ غال ونفيس من أجل الفن. ورغم كل المجد الفني الذي حققه القصبجي منذ تأسيسه لفرقة أم كلثوم، وتقديمه ألحاناً شغلت الأفئدة العربية بمصاحبة صوت أم كلثوم، كتب القصبجي، صاحب "رقّ الحبيب"، في نهاية أيامه مقالاً بمجلة "الاثنين والدنيا" يرثي فيه نفسه، وسوء أحواله المادية، بعد أن أصبح لا يملك من المال إلا القليل، فلم يكن له مصدر دخل إلا من عمله عازفًا في فرقة الست، داعياً المسئولين في الدولة إلى النظر في حاله بعد أن أصبح يشعر بالندم على عمله في الفن.
تأثيرات "فرقة الست" التي وضع القصبجي حجر الأساس لها في عشرينيات القرن الماضي فاقت كلّ التوقعات، ونجحت الستّ وفرقتها في حجز مواقعهما (الستّ والفرقة) كأيقونة مقدسة في حياة المصريين. الناقد الفني الشهير، جودون جسكيل، وصف الحالة الكلثومية في مجلة "لايف" الأمريكية قائلاً: "إن تغييراً يشمل حياة الناس في الشرق الأوسط على اختلاف طبقاتهم وأعمارهم وعقائدهم مرّة في كلّ شهر، ودائماً في العاشرة مساءً، فالمرور يكاد يتوقف في القاهرة، وفي مقاهي الدار البيضاء تختفي الطاولة، وفي بغداد يترك الأغنياء تجارتهم والمثقفون كتبهم، وتفرغ الشوارع من المارة، وكلهم آذان تتركز على إذاعة القاهرة في انتظار أم كلثوم".
احتفظت فرقة أم كلثوم بتشكيلها الأساسي عبر عقود طويلة، منذ التأسيس على يد محمد القصبجي في العشرينيات، وحتى نهاية مشوار كوكب الشرق في السبعينيات، من أبرز أسماء الأعضاء التاريخيين في فرقة أم كلثوم -كما يوثقهم كتاب "معجزة الغناء العربي" للدكتورة رتيبة الحفني-، كلٌّ من محمد عبده صالح، عازف القانون ورئيس الفرقة، وأمامه القصبجي على العود، ويجاوره أحمد الحفناوي، عازف الكمان الأول، وسيد سالم على الناي، ومدحت طه عازف الأكورديون، وعباس فؤاد على آلة الكونترباص، ومجدي بولس عازف التشيللو.
كما شهدت الفرقة دخول العديد من الوجوه الجديدة خلال الخمسينيات والستينيات وحتى وفاة أم كلثوم منتصف السبعينيات، منهم عمر خورشيد وعبده داغر، ومجدي الحسيني عازف الأورغ، وكتكوت الأمير عازف الطبلة، و أحمد فؤاد حسن، خلفاً لعبده صالح، على ألة القانون.
وقف هذا الفريق خلف أم كلثوم لعقود، وأشعل المسارح العربية وصولاً لأوروبا، ولا تُنسى أبداً الليالي الكلثومية على مسرح الأوليمبيا في العاصمة الفرنسية باريس، ومعها سلسلة من ليالي الخميس الأول من كل شهر، ذلك الحدث الخالد في تاريخ الفن العربي، والشعب العربي ينتظر أم كلثوم والقصبجي ورامي ورفاقهم الذين حكموا المزاج العربي لعقود تحت راية "سلطنة فرقة الست".
اجمالي القراءات
2044
جاء فى المقال أن أحمد فؤاد حسن خلف محمد عبده صالح على آلة القانون وهذا غير صحيح بل الذى خلف عبده صالح هو عازف القانون عبد الفتاح منسى.أحمد فؤاد حسن كان عازف الناى العبقرى الذى أرغم أساطين الموسيقى على إدراج هذه الآلة الشجية ضمن آلات الأوركسترا.