رجل غنى رجل فقير

السبت ٢٧ - يوليو - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً


نص السؤال:
كنت فى شبابى قد شاهدت المسلسل الأمريكى ( رجل غنى / رجل فقير ) ، وتأثرت به جدا ، ومن أيام كنت أقرأ فى سورة الكهف ، وقرأت فيها قصة مشابهة عن رجلين واحد منهم غنى والآخر فقير ، والغنى يتفاخر بمزرعته . أنا قرأت الآيات وفهمتها فهم سطحى ، بس حابب حضرتك تتعمق فيها . وشكرا جزيلا .
آحمد صبحي منصور :

الإجابة :

أولا :

قال جل وعلا : ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنْ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً (43) هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) الكهف ).

ثانيا :

تدبرا فيها نقول :

1 ـ هذه الآيات فى ضرب مثل على شكل قصة فيها حركة وحوار وديكور أقرب ما يكون الى السيناريو الدرامى . وبعده فى نفس السورة مثل آخر عن الحياة الدنيا ، ولكن بصورة تشبيهية : ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) .

2 ـ الأساس والهدف فى هذا المثل هو كيف تتحول نعمة المال بصاحبها الى الكفر ، أى كيف يصل كفران النعمة الى الكفر بالله جل وعلا . الرجل صاحب الجنتين يؤمن بالله جل وعلا ، ولكنه ليس إيمانا كاملا ، إذ كفر باليوم الآخر ، يظن أنه لا وجود لليوم الآخر ، ولو كان هناك اليوم الآخر فسيعطيه ربه جل وعلا ما خير من جنتيه . والكفر باليوم الآخر نوعان : إنكار له ، وإختراع يوم آخر يفوز فيه هذا الشخص مهما إرتكب من آثام . نتذكر قوله جل وعلا عن الانسان الضّال : (لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)   فصلت ). هذا الرجل قالها : (َ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً (36)) وهنا يعترف بالله جل وعلا ربّا له ، وكرّر هذا الاعتراف عندما دمّر الله جنتيه ، فقال متحسّرا نادما : ( يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42). أى يؤمن بالله جل وعلا إيمانا ناقصا . والكفر ـ وهو الشّرك ـ  لا يعنى إنكار الخالق ، ولكن إتّخاذ آلهة معه . قد يكون بشرا يقدسه من الأنبياء وغيرهم ، وقد يكون هوى ، وقد يكون مالا مثل بستان كما فى هذا المثل . لذا قال جل وعلا : ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) ( 36 ) النساءِ ) فلا تعبد أى شىء خلقه الخالق جل وعلا ، ولا تجعل أى شىء شريكا للخالق جل وعلا وهو الذى شيأ الأشياء .

3 ـ هناك وقفات فرعية نتوقف معها :

3 / 1 : الوصف الرائع للجنتين أو ( الديكور بالتعبير الدرامى ) : (  .. جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً (33). جنتان كل جنّة محفوفة بالنخل ، ويفصلها عن الأخرى زرع ، وبينهما نهر ، وفيهما ( الثمر ) يتدلّى . ومن الطبيعى أن صاحب الجنتين أنفق على ذلك الكثير ، يدُلُّ على ذلك فخره بجنتيه الى درجة أنه يظُن خلودهما : (قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) . وحسرته على ما أنفق فيهما عندما تم تدميرهما (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ).

3 / 2 : الجملة الاعتراضية : يؤتى بها فى الكلام العادى زيادة يمكن حذفها ولا يتأثر سياق الكلام . ولكن فى القرآن الكريم يكون لها دلالة توضيحية ضرورية . ونتوقف معها هنا :

3 / 2 / 1 : ( فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34). الجملة الاعتراضية هى ( وهو يحاوره ) . من الممكن أن يُقال ( فقال لصاحبه أنا أكثر منك مالا... )، ولكن الجملة الاعتراضية عن الحوار الذى داربينهما يعطى نبضا للقصة ، ففيها حوار ، وهما يدخلان البستان . وقد تكررت نفس الجملة الاعتراضية فى قول الصاحب لمالك الجنتين : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37).. ). فالحوار هنا أساس فى القصة ، سواء الحوار الكافر أو الحوار المؤمن .

3 / 2 / 2 : عن صاحب الجنتين هذا : ( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) ) . من الممكن أن يُقال ( ودخل جنته فقال ما أظن ..) . ولكن الجملة الاعتراضية ( وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) تفسّر نفسيته وما قاله ، ثم ما حدث له عقابا . فهو ( ظالم لنفسه ) ، يستحق العقاب .

3 / 2 / 3 : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) . الجملة الاعتراضية هى : ( وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ) من الممكن أن يقال : ( فأصبح يقلب كفيه ويقول .. ) لكن الجملة الاعتراضية تعطى المشهد حيث الخراب ، بما يفسّر حسرته وندمه .

3 / 3 : مصطلح ( الصاحب ): قلنا إن الصاحب من الصُّحبة فى الزمان والمكان ، ليس مهما وجود صداقة أو إتفاق فى الدين ، فقد جاء وصف النبى محمد عليه السلام بأنه صاحب المشركين . وهنا وصف بطلى القصة بالصاحب ، كل منهما صاحب للآخر ، مع إختلاف الدين .

3 / 4 : ثم تأتى العبرة فى نهاية القصّة أو المثل . قال جل وعلا : ( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً (43) هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) الكهف ).

3 / 4 / 1 : لا يستطيع أحد أن يحميك من غضب الله جل وعلا وإنتقامه ، فمنه جل وعلا وحده النُّصرة والولاية ، ومنه جل وعلا الثواب وخير العواقب . فلا تغترّ بالمال والجاه والجنات والحقول والأثاث والرياش .

3 / 4 / 2 : فى هذا المثل رجلان . أحدهما إبتلاه الله جل وعلا بالنعمة بجنتين وأتباع فإغتر وتطاول على صاحبه : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) . والآخر إبتلاه الله جل وعلا بالفقر فلم يياس ، بل وترجى خيرا من ربه جل وعلا . الله جل وعلا يبتلينا بالخير والشّرّ فتنة ، يبتلينا بالنعمة والنقمة . قال جل وعلا : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) (35) الأنبياء )  والذى ينجح فى إختبار النعم عليه أن يحمد الله جل وعلا ويشكر فضله : ( وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ ) (39). وفى النهاية سنترك كل هذا بالموت ولا يستمر معنا يوم الدين إلّا كتاب أعمالنا . 



مقالات متعلقة بالفتوى :
اجمالي القراءات 1964
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5241
اجمالي القراءات : 62,495,331
تعليقات له : 5,497
تعليقات عليه : 14,895
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي


أهل الذكر : احبك و احترم ك جدا و متابع كل مقالا تك و...

إنفجار البعث : من الداع ي في قوله تعالى :(يَوْ مَئِذ ٍ ...

سؤالان : السؤ ال الأول : قرأ الفتو ى عن هارون...

أرض العنوة: أقرأ تعبير ( أرض العنو ة ) هل له صلة بما تكتبه عن...

الإخوان والشرعية : عندما يفتي رجال الكهن وت بشرعي ة الزوا ج ...

مسألة ميراث: توفى رجل و لم يترك بعده سوى أبناء إخوته الذور...

العادة السرية: السل ام عليكم ابى الفاض ل اسف على السؤا ل ...

أربعة أسئلة: السؤ ال الأول : برجا ء أن تكتب لنا عن تحدى...

أعظم تقدير للقرآن: ما هو فى نظرك أعظم تقدير للقرآ ن الكري م ؟...

زواج المسلمة بغير ال: What is the real reason the majority of scholars say that a Muslim woman can't marry a...

سؤالان: السؤا ل الأول : السؤ ال من الاست اذ نجم...

فاطر 37 : في اية 37 من سورة فاطر سيقول الكفا ر أهل النار (...

إبتلاء ابراهيم: سلام علیکم والرح مة الله وبرکا ته : انا...

وكانوا مستبصرين : ما معنى مستبص ر في الاية الكري مة ( ...

سؤالان: السؤا ل الأول : ماذا تعنى ( بغير عمد ترونه ا )...

more