التعذيب بين مصر وإسرائيل
التعذيب بين مصر وإسرائيل
أولا :
1 ـ شاهدت على الانترنت ( بوست ) لسيدة مصرية من مطروح تشكو ما حدث لابنها ، فقد إعتقلوه وعذبوه حتى أصابوه بالعمى ، ثم أعادوا إعتقاله وأعادوا تعذيبه حتى مات تحت التعذيب ، وبعثوا اليها لتستلم جثته فى المستشفى ، ورأت آثار التعذيب على رقبته وجسده . السيدة المكلومة ذكرت أسماء الضباط وإسم من حرّضتهم على ابنها وهى نائبة فى حزب ( مستقبل وطن ) ، وقالت إن كل شكاويها لم يلتفت اليها .
2 ـ مع الإكتئاب الذى حلّ بى بعد هذا الفيديو تذكرت حادثة وقعت قبيل هروبى من مصر ( القرية الظالم أهلها ). كانت هناك إمرأة تساعد زوجتى فى تنظيف الشقة مقابل أجر ، وكانت زوجتى تستأمنها ، وبحكم عملها كانت تعرف أين تضع زوجتى الحُلىّ الخاص بها . وفوجئنا بسرقة عقد ذهبى ومجموعة خواتم . ولم يكن أحد يدخل غرفة النوم من الأغراب سواها . حققنا معها فأنكرت ، فسكتنا . حكيت هذا مع صديق فقال إنه يعرف ضابط شرطة فى قسم المطرية ، وخلال نصف ساعة سيجعلها تعترف بالسرقة وتُحضر المسروقات . يعنى بالتعذيب . فزعت ورفضت .
3 ـ الدستور المصرى يحظر التعذيب حظرا مطلقا ، كان هذا فى الدساتير السابقة وظل فى دستور 2014 ، الذى إعتبره فى المادة 52 جريمة لا تسقط بالتقادم . وتكفّلت القوانين بتفصيل ذلك . ولكن هذا كله لا قيمة له ، لأن التعذيب قائم على قدم وساق ، منذ أن حكم العسكر عام 1952 ، وحتى الآن .
4 ـ حكم عبد الناصر بسهولة ، وتمتع بتأييد شعبى جارف لم يحدث من قبله ولا من بعده فى تاريخ مصر الحديث ، أى لم يكن محتاجا الى تعذيب أحد ، وكان خصومه من السياسيين والمثقفين قليلين مستضعفين يخافون أن يتخطفهم الناس ، ومع ذلك إعتقلهم وتفنّن فى تعذيبهم فى ( السجن الحربى ) وغيره . ليس فقط ليخرس أى صوت يعارضه قبل أن يعارضه ، ولكن أيضا لكى يقضى على النُّخبة التى كانت فى مصر الليبرالية معتادة على حرية الرأى والفكر ، ويؤسس محلها طبقة مطيعة من المتعلمين الموظفين . خفّ التعذيب قليلا فى عصر السادات ، ولكن إغتيال السادات أمام عينى حسنى مبارك جعله يستخدم التعذيب على أوسع نطاق . ثم أفرزت المؤسسة العسكرى السيسى فتحول التعذيب فى عهده الى إدمان وهواية وطريقة حياة ، واصبح من حق الشرطة تعذيب من يشاءون ، والضابط الذى يقوم بالتعذيب والقتل له حصانة معلنة على لسان السيسى الذى تكونت طبقة ( الأسياد ) من الشرطة والمخابرات والقضاء ووكلاء النيابة وكبار العاملين فى الحكومة ، وأصبحت مهمة الشرطة حماية ( الأسياد ) وقهر وتعذيب ( العبيد ) أو ( المواطن العادة ). لم تعد مهمة ضباط الشرطة حماية المواطن العادى ، فهذا لا يتفق مع كونهم أسياده . وأصبحوا يبيعون نفوذهم وسلطتهم لمن يملك المال والجاه ، فيعذّبون له من يريد ، بل ويحرصون على نشر فيديوهات التعذيب لارهاب الناس . ضحاياهم ملايين المصريين الأبرياء من نشطاء ومثقفين ونساء وأطفال . قادة الغرب يتوسلون للسيسى أن يترأّف بهم ، والسيسى يستخدم ضحاياه ورقة فى التفاوض معهم . أصبحت مصر ضمن أسوأ الدول فى سجل حقوق الانسان ، تنافس بشراسة كوريا الشمالية .
ثانيا :
1 ـ بغض النظر عن الدساتير الرائعة التى يصدرها المستبد فإن التعذيب أساس فى بقائه ، إذ لا بد له أن يُرغم الناس على الاستسلام له ، وأنه الذى يملك الأرض ومن عليها . بالتعذيب يكون الشعب هو الذى ( يخاف ) الحكومة .
2 ـ فى الدول الديموقراطية تجد ولاة الأمور هم ( خدم للشعب ) بمرتبات يقبضونها من الضرائب التى يدفعها الشعب . وخدم الشعب ليسوا مؤبدين فى مناصبهم ، يتغيرون ، والويل لأحدهم إذا غضب عليه الشعب ، فالشعب هو ( مصدر السلطات ). ليس متصورا أن يقوم الحاكم بتعذيب الشعب الذى يملك عزله ومحاكمته .
3 ـ الشورى الاسلامية ــ التى اضاعها الخلفاء الفاسقون ـ تجعل ( الأمة ) مصدر السلطات . ألنبى محمد عليه السلام كان قائد الأمة . ولكن لم يكن يحكم مستبدا بتفويض إلاهى مع إنه كان يتلقى الوحى من ربه جل وعلا . كانت ( الأمة ) هى مصدر السلطة . قال له ربه جل وعلا : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) آل عمران ). أى جعله الله جل وعلا لينا فى تعامله مع المواطنين حوله . ولو كان فظّا غليظ القلب لانفضُّوا من حوله ، ولو إنفضُّوا من حوله ما صارت له سُلطة وقوة لأنه يستمد سُلطته من إجتماعهم حوله ، فهم مصدر السلطة ، لذا عليه أن يعفو عنهم إذا أساءوا اليه وأن يغفرلهم إذا أذنبوا فى حقّه ، وأن يشاورهم فى الأمر ، فهم أصحاب الأمر . وتردد فى سورتى التوبة والأحزاب أن بعضهم كان يؤذى النبى فيتحمل ، بل ويستغفر لهم . هذا هو النبى محمد القائد الحاكم . فكيف بالمستبد الذى يرفع نفسه فوق النبى عليه السلام . المستبد يزعم صراحة أو ضمنا أنه إله ، وأنه الزعيم الملهم والذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، كمثل الفرعون القائل ( مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) غافر). إن الله جل وعلا وحده هو الذى ( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) الأنبياء ) ، ولكن التعذيب الرهيب ينتظر من يتصور أن بإمكانه أن يسائل الحاكم المستبد . لذا فالتعذيب أساس فى أى دولة مستبدة .
ثالثا :
1 ـ هذا لا يعنى إنعدام التعذيب تماما فى الدول الديمقراطية . فهناك أفراد مجرمون من الشرطة ، والويل لهم إذا ثبتت التهمة عليهم ، لأن واجب الشرطة هى خدمة المواطن وحمايته ، وليس إرهابه والتنكيل به . والأكثر أن تحتل دولة ديمقراطية دولة أخرى ترسخ فيها التعذيب . الاحتلال جريمة كبرى يتفرّع عنها جرائم ، منها التعذيب . الذى يعجز عن مقاومة المحتل يلجأ الى القتل العشوائى للمدنيين ، وهى عمليات يصعُب ُ التنبؤ بها ، ولا بد للمحتل من إخضاع المتهمين للتعذيب لمنع ما يسمونه بالارهاب .
2 ـ حين إحتلت فرنسا الجزائر قام بعضهم بتفجير مقهى فى باريس ، وتورطت فرنسا فى التعذيب للحصول على معلومات . ودار جدل بين معارضين ومؤيدين . قال احدهم ببساطة للمحتجين : إذا أردتم منع التعذيب فلا بد من الانسحاب من الجزائر.
3 ـ حين إحتلت أمريكا العراق قامت بتعذيب عراقيين فى سجن ( أبو غريب ) والذى أصبح وصمة عار على وجه أمريكا . مع ملاحظة أن هذا السجن كان موجودا من قبل ترتفع فيه صرخات الضحايا الأبرياء . صدام حسين من أشرس المستبدين . أذكر أن صديقا حكى لى أنه كان فى العراق وقت أن خاصم صدام مصر السادات بعد إتّفاقية كامب ديفيد . كان يسير فى الشارع فاعتقلوه وعذّبوه ، وذنبه أنه مصرى .
رابعا :
1 ـ بمجرد الاعلان عن قيام دولة إسرائيل جرت فيها أول إنتخابات ديمقراطية ، وتأسّس فيها التداول السلمى السلس للسُّلطة ، وحقوق المواطنة . وبرغم أنها فى حالة حرب من عام 1948 فلم يحدث أن أعلنت حالة الطوارىء . ولكن كدولة محتلة فانه يسكنها هاجس الأمن والخوف وتوقع الشّر . وقد أصبح هذا مرضا بقيام المنظمات الفلسطينية التى ـ فى عجزها عن مواجهة القوة الاسرائيلية ـ قامت بالقتل العشوائى كيفما اتفق وبما يصعب التنبؤ به . ولأن إسرائيل قد أقامت لنفسها كيانا قانونيا حسب القانون الدولى فقد قامت بتشريع التعذيب ( المعتدل ) لتكون ممارسته قانونية . وكان هذا أساسا فى تعاملها ليس مع مواطنيها اليهود ولكن مع خصومها الفلسطينيين .
2 ـ وفى عام 1990 تكونت فى اسرائيل ( اللجنة العامة لمناهضة التعذيب ) والتى تؤمن بأن التعذيب وسوء المعاملة بكافة أشكالهما وحيثياتهما تنافيان كل من القيم الاخلاقية والديمقراطية وسيادة القانون. وهى تعمل من أجل القضاء على ثقافة التعذيب السائدة وإسقاط الحصانة المُطلقة الممنوحة للجُناة في إسرائيل. وتقدم خدماتها لكافة الافراد المقيمين في كل من إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة على حد سواء، وبغض النظرعن اختلاف العرق ودون تمييز . وبسبب جهودها قررت محكمة العدل العليا عام 1999 حظر استخدام الأساليب الجسدية في التحقيقات، مما خفض مستوى التعذيب في إسرائيل ، والتى توصف بالضرورة . ودُعاة حقوق الانسان الإسرائيليون يصفون حالة ( الضرورة ) بأنها قنبلة موقوتة. إذ تخضع للتفسيرات والأهواء .
خامسا :
1 ـ نحن ضد الظلم والتعذيب وضد أكابر المجرمين ، ونحن مع العدل والحرية وحقوق الانسان وكرامته ومع المستضعفين فى الأرض .
2 ـ ونحن ايضا ضد الكيل بمكيالين . قامت الدنيا ولم تقعد ـ بعدُ ــ بسبب مقتل مراسلة الجزيرة شيرين أبو عقله من بضعة أيام ، وكتبنا نترحم عليها . ولكن لم يهتم أحد بمقتل الشاعرة والناشطة المصرية شيماء الصباغ ، والتى جاءت من الاسكندرية الى القاهرة تحمل الورود لإحياء الذكرى الرابعة لثورة 25 يناير ، فقتلها فى الشارع يوم السبت 24 يناير 2015 ضابط شرطة بلا أدنى مبرر . لا يزال العالم كله يذكر مصرع الطفل محمد الدرة فى تبادل لاطلاق النار فى غزة فى 30 سبتمبر عام 2000 ، بينما طوى النسيان مقتل المئات من المصريين رجالا ونساءا وأطفالا ــ بلا أى مبرر ــ فى مذبحة رابعة فى 14 أغسطس عام 2013 . والقائمة تطول ، تثبت أن الدم المصرى والعربى رخيص لا ثمن له ، أما الدم الفلسطينى فغال ، وهذا بسبب أن القاتل هو اسرائيل وليس المستبد المصرى والعربى .
3 ـ ليس من الانصاف السكوت عن جرائم المستبد العربى فى قتله المواطنين وتعذيبهم ثم الصراخ ضد إسرائيل ووصفها بأنها تجيز التعذيب فى تشريعاتها وتمارسه وسط إحتجاجات فى الداخل الاسرائيلى . لا وجه للمقارنة بين وحشية بشار الأسد وأبيه فى سوريا أو القذافى فى ليبيا أو صدام فى العراق أو السيسى فى مصر وبين ضحايا إسرائيل فى فلسطين . نحن ضد ظلم الفلسطينين ، وأيضا ضد الكيل بمكيالين . إسرائيل أقل شرّا من عباس وحماس . هل نسيتم أن عباس أبا مازن قتل تحت التعذيب معارضا فلسطينيا مُسالما هو نزار بنات يوم الخميس 24 يونية 2021 ؟ هل نسيتم أن حماس تقيم محاكمات فى الشارع وتقتل خصومها الفلسطينيين بلا محاكمة ؟ من عهد عرفات وحتى الآن قتل القادة الفلسطينيون وعذبوا من الفلسطينيين أضعاف ما قتلهم وما عذّبهم الاسرائيليون . الاسرائيليون يلجأون لحماية أنفسهم من عدو لهم ، أما القادة الفلسطينيون فيرتكبون أى شىء للبقاء فى السُّلطة ، شأن أى مستبد عربى يظل متمسكا بالكرسى فوق جثث المواطنين .
4 ـ المستبد العربى يسحق رأس المواطن العربى بحذائه ويستبيح جسده تعذيبا وإغتصابا ، وهذا المواطن العربى يصرخ يلعن .. إسرائيل ..
أخيرا : هيا بنا نلطم ... وبقسوة !!
اجمالي القراءات
3143
من المفارقات أو الغرائب أن الأغلبية الساحقة من الحكام المستبدين ( وهل هناك غيرهم ) ؟ أن شعارهم الوحيد هو التعذيب هو اساس الملك، بعد أن اعتقلوا واتهموا وعذبوا وأخيرا اغتالوا ( العدل أساس الملك ) . وطبعا قبل ذلك سبق لهم أن فعلوا فعلتهم بالنسبة للتعليمة الربانية : ( ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) آل عمران )