(أبو العباس ثعلب) إمام مدرسة الكوفة النحوية
(أبو العباس ثعلب) إمام مدرسة الكوفة النحوية
مقدمة
بدأ علم النحو بالخليل بن أحمد الذي وضع قواعده ومناهجه ،وجمع مفردات اللغة واستخلاص قواعد النحو من مشافهة الأعراب في البوادي ، وقام تلميذه سيبويه بكتابة ثمرة أعمال الخليل في كتابه المشهور ، وقامت بذلك مدرسة البصرة في علم النحو وجاء الكسائي يأخذ علم النحو عن الخليل ثم رجع إلي الكوفة وأسس مدرسة الكوفة النحوية ، واشتعلت المنافسة بين مدرستي البصرة والكوفة وتناظر سيبويه مع الكسائي ، وغلب الكسائي بنفوذه ودهائه ومات سيبويه بحسرته فقيرا شابا ، وتأججت الخصومة أكثر بين المدرستين في القرن الثالث الهجري حيث عاش إمام مدرسة الكوفة وهو أبو العباس ثعلب (200ـ 291هـ) وإمام مدرسة البصرة محمد بن يزيد المبرد (210ـ 285هـ).. وكان العداء بينهما من أهم المعالم الثقافية في ذلك القرن .. وقد عرضنا للمبرد في مقالة سابقة ،
فمن هو ثعلب ؟
نسبه ومكانته عند أتباعه في مدرسة الكوفة النحوية
هو أحمد بن يحيي بن زيد بن سيار، من أصل فارسي مثل الكسائي وسيبويه ، وقد اكتسب ولاء بني شيبان ، واشتهر بلقب ثعلب ، كما اشتهر بكونه إمام الكوفيين في النحو واللغة .
بين ثعلب والكسائى
مات الكسائى عام 189 ، وكان مولد ثعلب فيما بعد ، أى عام 200 . أي لم ير ثعلب الكسائى ولم يلقه ، ولكنه تأثر بالمناخ الثقافي الذى ساد بتأثير الكسائى والدولة العباسية ، واستمرار مدرسة الكسائى بتلميذه الفرّاء ، وهو شيخ ثعلب .
ثعلب لم يكن مثل الكسائى في:
1 ـ انحلاله الخلقى وصلته القوية بالخلفاء العباسيين.
2 ـ وكان ثعلب أكثر تدينا من الكسائى بدينه السُّنّى ، كان يخاف أن يكون قد قصر في أمر دينه هذا ، حين ركّز في علم العربية واللغة ، على حساب القراءات والحديث والفقه ، فيقول لأبي بكر بن مجاهد : " يا أبا بكر اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا واشتغل أهل الفقه بالفقه ففازوا واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا واشتغلت أنا بزيد وعمرو فليت شعري ماذا يكون حالي في الآخرة"؟
وكان ثعلب مثل الكسائى في :
1 ـ ( رواية الحديث ) . سمع ثعلب الحديث ضمن علوم أخرى عن جملة من العلماء ، منهم إبراهيم بن المنذر الحزامي وابن سلام الجمحي وابن زياد الإعرابي وابن المغيرة الأثرم وسلمة بن عاصم وابن عمر القواريري والزبير بن بكار . ومثل الكسائى أيضا روى عنه اليزيدى وابن سليمان الأخفش وابن عرفة الأزدي وابن الانباري وعبد الرحمن الزهري وأبو عبد الله الحكيمي وابن كامل القاضي وأبو عمر الزاهد وأبو سهل زياد وابن مقسم .
ويقول ثعلب عن نفسه أنه سمع من ابن عمر القواريري مائة ألف حديث ، وأنه لقي أحمد بن حنبل فقال له ابن حنبل : " فيم تنظر ؟ " فقال : في النحو والعربية .
2 ـ مع دراسته للحديث إلا أن حبه للعربية ولغتها كان شديدا، يقول : " طلبت العربية واللغة في سنة 216، وابتدأت بالنظر في كتب الفراء وسني ثماني عشرة سنة وبلغت خمسا وعشرين سنة وما بقي مسألة للفراء إلا وأنا أحفظها وأحفظ موضعها من الكتاب ، ولم يبق شيء من كتب للفراء في هذا الوقت إلا قد حفظته "..الفراء هو أبرز تلاميذ الكسائي وهو الذي حفظ علمه . وعندما أتقن النحو أكب علي الشعر والمعاني والغريب ولازم ابن الأعرابي بضع عشرة سنة وامتاز بجودة حفظه حتى قال : " إنما فضل أبو العباس ثعلب أهل عصره بالحفظ للعلوم التي تضيق عنها الصدور ."
3 ـ ومثل الكسائى أيضا اشتهر ثعلب بالقراءات ، فيذكرونه ضمن أصحابها ، وقالوا إنه روي القراءة عن الفراء عن الكسائي وأن له كتابا حسنا فيها ، وأنه روي القراءات عنه ابن مجاهد وابن الانباري وغيرهما..
4 ـ وقال أبو الطيب اللغوي في كتابه " مراتب النحويين " أن ثعلب كان يعتمد علي ابن الأعرابي في اللغة وعلي سلمة بن عاصم في النحو ، وأنه كان يروي كتب الأدب الشهيرة عن مجموعة من العلماء.
بين ( ثعلب :(200ـ291هـ) وخصمه ( المبرد : 210ـ 285هـ)
1 ـ مثل المبرد تنوعت مؤلفات ثعلب ، لتشمل علوم اللغة والتفسير والأدب . فكتب في النحو واللغة :" المصون في النحو"، " اختلاف النحويين"، " الوقف" ، " الابتداء"، " التصغير ، الهجاء "، " الأمالي "، " الفصيح "، " الموفقي في النحو " ، " الشواذ في النحو "،"ما ينصرف ومالا ينصرف "،" ما يجري ومالا يجري " ، " استخراج الألفاظ من الأخبار "، " حد النحو"، " الأوسط " ، " لطيف المسائل". وكتب في التفسير والقراءات :" معاني القرآن"، " القراءات "،" غريب القرآن". وله في الأدب :" معاني الشعر "، " الفصيح "، " تفسير كلام ابنة الخس ".
2 ـ ويذكرون أن المبرد سئل عن أعلم علماء أهل الكوفة ، فقال : ثعلب ، فقيل له عن الفراء ، وهو أستاذ ثعلب ، فقال إن الفراء لا يبلغ عشر ثعلب .
3 ـ ويروي الخطيب البغدادي أن مناظرة حدثت بين المبرد وثعلب في مجلس الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر ، وحضر المجلس عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وهو يشارك في علم النحو ، وقد أراد أن يحكم بينهما في المناظرة، وبعد قليل تركهما عبيد الله وقال لأخيه أنهما تناظرا فيما أعرفه ، فكنت أشاركهما فيه فلما دققا ودخلا في أغوار النحو لم أفهم ، ولا يعرف الحكم بينهما إلا من هو أعلم منهما ولست ذاك الرجل .
3 ـ وهناك أوجه شبه كثيرة أخرى بين المبرد وثعلب ، ليس فقط في الكنية " كلاهما يكني بأبي العباس" ولكن في الشخصية الإنسانية والعلمية ..
كلاهما اتجه للنحو واللغة ولكن كتب في التفسير والأدب وغيرها .. وكلاهما قال الشعر وحاور به خصومه ورفاقه ، وكلاهما كانت له صلة بالحكام وذوي السلطان ، وكلاهما كان يميل إلي الفكاهة وخفة الظل ، وكلاهما عاش طويلا " عاش ثعلب 91 عاما وعاش المبرد 75 عاما" ، وكلاهما كان له تلاميذ ومريدون يتعصبون له ضد الآخر ، وكلاهما كان محبا لجمع المال لا يستنكف من جمعه إلا قليلا كان أم كثيرا ؛ فالمبرد كان يأخذ درهما كل يوم من الزجاج في نظير أن علمه النحو، وما استنكف من ذلك إلي نهاية عمره ، وما كان يعلم أحدا إلا بأجرة وافية. وثعلب كان يحب المال إلي درجة البخل فترك أموالا جمة بعد وفاته ورثتها ابنته الوحيدة وقد قالوا عنه إنه كان ضيق النفقة مقترا علي نفسه .
.وكان المبرد وثيق الصلة بالبلاط العباسي ، وقالوا إنه كان يجلس مع الخليفة المعتضد العباسي، وكانت لثعلب صلات بمحمد بن عبد الله بن طاهر الوالي العباسي ، وقد كان يؤدب ابنه طاهر وقد أجري عليه رواتب عينية من الخبز واللحم وألف درهم كل شهر ، وظل كذلك ثلاث عشرة سنة . ويروي أن محمد بن عبد الله بن طاهر كان متعودا أن يكتب " ألف درهم واحده" بالهاء وإذا رأي مكتوبا " ألف درهم واحدة" أصلحه " واحده " وكان كتاب ديوانه يهابون أن ينبهوه إلي ذلك الخطأ ، فقام ثعلب بتنبيهه إلي الخطأ فأقلع عنه .وإلي جانب ذلك كانت لثعلب صلة بالخليفة الناصر العباسي ، وقد توسط أبو الصقر بن بلبل لدي الخليفة الناصر حتى أجري على ثعلب راتبا سلطانيا ، فعاش أبو العباس ثعلب لا يخشى الفقر وإن كان يعيش فيه باختياره حيث كان بخيلا .
ويقول فيه أبو بكر بن عبد الملك التاريخي يفضله علي المبرد ـ أبو العباس أحمد بن يحيي ثعلب فاروق النحويين والمعايير علي اللغويين من الكوفيين والبصريين ، أصدقهم لسانا وأعظمهم شأنا وأبعدهم ذكرا وأرفعهم قدرا وأصحهم علما وأوسعهم حلما وأتقنهم حفظا وأوفرهم حظا في الدين والدنيا . وكان محبو المبرد يمدحونه بمثل ذلك .
نوادرهما وخفّة ظلّهما
وكالمبرد كان ثعلب ظريفا سهل المعاشرة خفيف الظل له نوادر وحكم وأقوال مأثورة ، إذ كان ثعلب لا يتكلف الإعراب والتحذلق في الخطاب ، كان يدخل المجلس فيقوم له الناس فيقول لهم باللهجة العادية " اقعدوا " بفتح الألف . وكان في ردوده يميل إلي السخرية والفكاهة ، روي الصولي في أوراقه ، قال : كنا عند ثعلب فقال له رجل : " المسجد هذا معروف فما هو المصدر "؟ فقال : " مصدره السجود "، فقال الرجل : " فعرفني مالا يجوز من ذا " ، قال له ثعلب : " لا يقال مسجد بفتح الجيم "، وضحك ثعلب ، وقال : " هذا يطول إن وصفنا مالا يجوز وإنما يوصف الجائز ليدل علي أن غيره لا يجوز ، ومثل ذلك أن ماسويه ( الطبيب ) وصف دواء لانسان ، ثم قال له : " كل الدجاج وشيئا من الفاكهة "، فقال له الرجل : " أريد أن تخبرني بالذي لا أكل "، فقال : " لا تأكلني ولا تأكل حماري ولا تأكل غلامي واجمع كثيرا من الورق لأكتب لك مالا تأكله."
وحدث أن قرأ عليه القطربلي بيت الأعشى القائل :
فلو كنت في حب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم ..
فقال له ثعلب : " خرب بيتك .. أرأيتك حبا بلغ ثمانين قامة ؟ إنما هو "جب" وليس " حب".
وسئل ثعلب عن شيء فقال : " لا أدري " فقال له السائل : أتقول " لا أدري " وإليك يأتي الطلاب من كل البلاد ، فقال له ثعلب : لو كان لأمك بعدد " لا أدري " روث بعير لصارت أغني الناس !!
وكانت للمبرد أقوال حكيمة وأشعار ، وكذلك كان لغريمه ثعلب .. قال أبو محمد الزهري إنه كان لثعلب عزاء في بعض أهله فتأخرت عنه لأنه خفي عني ثم قصدته معتذرا فقال لي : يا أبا محمد ما بك حاجة لأن تتكلف عذرا فإن الصديق لا يحاسب والعدو لا يحتسب له . وحضر عند ثعلب أبو العباس بن الفرات فقال له ثعلب : أنت في البر بر والبحر در .. واستشاره الزهري في الانتقال من مسكنه بسبب سوء جيرانه فقال له : يا أبا محمد صبرك علي أذي من تعرف خير لك من استحداث ما لا تعرف .
أخيرا :
كلاهما كان يمثّل نفس العصر ، نفس الثقافة العباسية . وكلاهما إختلف عن الخليل وسيبويه . وربما كان الفارق الوحيد بينهما أن ثعلب كان فارسي الأصل بينما كان المبرد عربيا صريح النسب من الأزد.
نهايته
وعاش ثعلب حتى جاوز التسعين ، وأصابه صمم في أواخر حياته ، فانصرف يوم الجمعة من الجامع بعد العصر وكانت دواب تسير خلفه فلم يسمع أصواتها ، فصدمته فسقط علي رأسه في حفرة لم يقدر علي القيام فحملوه إلي منزله ومات يوم السبت 10 حمادي الأولي 291هـ ودفن في مقبرة باب الشام في بغداد ، وكان قبره معروفا حتى عصر الخطيب البغدادي ، أي بعد موت ثعلب بنحو قرنين من الزمان .
اجمالي القراءات
5015
أكرمك الله وبارك الله فيك وفى عمرك وعلمك استاذنا دكتور -منصور - وجزاك خيرا على جهادك السلمى بالقلم لإصلاح المُسلمين باقرءان ،وبكتاباتك الرائعة التى نتعلم منها كيف نقرأ تاريخ المُسلمين وكيف نُحلل شخصياته ،سواء كانوا من الحُكام أو من الفقهاء أو من عُلماء اللسان العربى وعلم الكلام .... وأنأ أعتقد أن سلسلة الكتابات عن النُحاة تستحق أن تُترجم وتتحول إلى أعمال درامية لتتعلم منها الأجيال الحالية والقادمة تاريخ علماء اللسان العربى بحيادية وبما لهم أو عليهم .