من ف 4 ، من ج 1 ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية ):
إبن القيم في كتابه ( إغاثة اللهفان )

آحمد صبحي منصور Ýí 2019-11-03


                  إبن القيم في كتابه ( إغاثة اللهفان )

من ف 4 ، من ج 1 ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )

1 ـ إذا اضطربت عقيدة ( لا إله إلا الله ) في القلوب تزعزعت التقوى، وهى أساس الالتزام بالشرع ، وإذا تزعزعت تقوى الله وخشيته أضحى الالتزام  بالشرع الإسلامي شكلياً مظهرياً , وتم تقنين الانحراف عن الشرع والبحث عن وسائل فقهية لتسويغه وهو ما عرف تحت اسم (الحيل الفقهية ) التي بدأت مع بداية الانحراف العقيدي عن ( لا إله إلا الله ) ، واستشرت مع انتشاره حتى إذا جاء العصر المملوكي صار لعلم الحيل فقهاء يدعون له علانية ولا يتحرجون من سوق الأدلة والبراهين بالأحاديث المكذوبة وتأويل آيات القرآن . وإذا كان هذه حال الفقهاء الذين يزعمون أنهم حُرّاس الشرع فغيرهم كان أضل سبيلا ، خصوصا من كان أساس البلاء ، وهم سدنة الأضرحة والدُّعاة لها من أولياء الصوفية ومريديهم، ثم تتسع الساحة لتشمل طوائف أخرى من فاسدي العقيدة من شراذم الشيعة والفلاسفة واليهود والنصارى .

2 ـ وقد امتلأ قلب العصر المملوكي بتقديس الأولياء والأضرحة ، واضطهد من يعترض على ذلك ، وكان اضطهاد إبن تيمية ومدرسته شاهداً على عقيدة العصر وتدينه ، وسار على طريقه تلميذه إبن القيم فى مؤلفه الضخم ( إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ) ، وقدم فيه علاجاً للأمراض المعنوية التي حلت بقلوب الناس في العصر المملوكي ، وقد أكد فيه على أن القرآن الكريم هو الدواء الشافي لعلاج أمراض القلوب،  وعقد لذلك بابا خاصاً في كتابه . ثم أفرد معظم كتابه في ( مكائد الشيطان التي يكيد بها بني آدم ) .

3 ـ ويمكن أن نحدد ثلاثة محاور لإبن القيم في كتابه ( إغاثة اللهفان ) كان يثرثر من خلالها بتفصيلاته الفقهية والتاريخية على نهج الوعاظ الذين يتكلمون في أكثر من موضوع في موقف واحد . فقد تحدث عن الصوفية والفقهاء والفلاسفة وأهل الكتاب .

4 المحور الأول: الإنكار على الصوفية

4 / 1 : وهو الذي ألح عليه إبن القيم ودار حوله ثم عاد إليه مراراً وتكراراً ، وقد عاب عليهم الكثير من تصرفاتهم وأقوالهم ، كالشطحات والانقطاع في الزوايا والخوانق وترك العمل والالتزام بزى واحد والغناء والرقص – أو السماع الصوفي – على أساس أنه ذكر الله ، والوقوع في الشذوذ الجنسي وتشريعه واعتماده دينا وحلالا , وتفضيلهم للولي على النبي , بالإضافة على إسهاب طويل عن تعظيمهم للقبور والتوسل بها والغلو فيها وإقامة الموالد والأعياد عليها .

4 / 2 : يقول عما يفعله الناس عند القبور المقدسة ( فمن المفاسد اتخاذها أعياداً ، والصلاة عليها ، والطواف بها ،وتقبيلها ،واستلامها ،وتعفير الخدود على ترابها ،وعبادة أصحابها ،والاستغاثة بهم ، وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الديون وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان ، وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم. فلو رأيت غُلاة المتخذين لها عيداً ، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد فوضعوا لها الجباه وقبلوا الأرض وكشفوا الرؤوس وارتفعت أصواتهم بالضجيج.. حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين .. ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيها له بالبيت الحرام ... ثم أخذوا في التقبيل والاستسلام .. ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاقة .. وقربوا لذلك الوثن القرابين .. فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضا يقول : أجزل الله لنا ولكم أجراً وافراً .. فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحج المتخلف إلى البيت الحرام فيقول: لا ولو بحجك كل عام )[1] فإبن القيم في هذه القطعة من كتابه يصور جانباً من الحياة الدينية لعصره وهو مراسم الحج للقبور وتفضيلها على الكعبة.

5 ـ المحور الثانى : عن فقه الحيل .

5 / 1 : فى عصر سيطرة التصوف إنتشرت بلوى الشذوذ الجنسى التى جعلها التصوف دينا ، ووقع فى الشذوذ فقهاء ، وتعاون الصوفية وأولئك الفقهاء على الإثم والعدوان . الصوفية يجعلون الشذوذ  دينا وأولئك الفقهاء يتحايلون فى إباحته ، وقد كتب إبن تيمية فيمن أحل اللواط وجعله قُربة لله – كتاباً هو ( قاعدة في التنفير من المردان )[2] .

5 / 2 : وفيهم يقول إبن القيم :( ومن ابلغ كيد الشيطان وسخريته بالمفتونين بالصور ( أى بالشباب والنساء ) أنه يُمنّى أحدهم أنه إنما يحب ذلك الأمرد أو تلك المرأة الأجنبية لله تعالى لا للفاحشة ، ويأمره بمؤاخاته . وقد يبلغ الجهل بكثير من هؤلاء إلى أن يعتقد أن التعاون على الفاحشة تعاون على الخير والبر وأن الجالب محسن إلى العاشق جدير بالثواب ، وأنه ساع في دوائه وشفائه وتفريج كرب العشق عنه وأن : " من نفث عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفث الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.". ثم هم بعد هذا الضلال والغي أربعة أقسام : قوم يعتقدون أن هذا لله ، وهذا كثير في طوائف العامة والمنتسبين للفقر والتصوف وكثير من الأتراك – أي المماليك – ، وقوم يسلّمون في الباطن أن هذا ليس لله وإنما يظهرون أنه لله خداعاً ومكرا وتسترا ... القسم الثالث مقصودهم الفاحشة الكبرى .. وهم في هذه المخادنة والمآخاة مضاهئون للنكاح ، فإنه يحصل بين هذين من الاقتران والازدواج والمخالطة نظير ما يحصل بين الزوجين ، وقد يزيد عليه تارة في الكم والكيف .. ثم قد يشتد بينهما الاتصال حتى يسمونه زواجاً ويقولون : " تزوج فلان بفلان" كما يفعله المستهزئون بآيات الله تعالى ودينه، من مُجّان الفسقة ، ويقرهم الحاضرون على ذلك ويضحكون منه ويعجبهم مثل ذلك المزاح والنكاح  , وربما يقول بعض زنادقة هؤلاء : " الأمرد حبيب الله والملتحي عدو الله ", وربما اعتقد كثير من المردان أن هذا صحيح ، وأنه المراد بقوله ( إذا أحب الله العبد نادى جبريل إني أحب فلاناً فأحبه - الحديث ) وأنه توضع له المحبة في الأرض فيعجبه أن يحبه الناس ويفتخر بذلك ، ويعجبه أن يقال : " هو معشوق ". أو "حظوة البلد " وأن " الناس يتغايرون على محبته ونحو ذلك". وقد آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى ترجيح وطء المردان على نكاح النسوان ، وقالوا  : " هو أسلم من الحبل والولادة ومؤنه النكاح والشكوى إلى القاضي وفرض النفقة والحبس على الحقوق" .. وقسمت هذه الطائفة المفعول به إلى ثلاثة أقسام : مؤاجر ومملوك ومعشوق خاص . فالأول بإزاء البغايا المؤجورات أنفسهن ، والثاني بإزاء الأمة والسرية ، والثالثة بإزاء الزوجة أو الأجنبية المعشوقة .. وربما فضل بعضهم اتخاذ المردان على النساء من وجوه . وهذا مضادة ومحادّة لله ودينه وكتبه ورسله .  وصنّف بعضهم كتاباً في هذا الباب ، وقال في أثنائه : ( باب في المذهب المالكي ) ، وذكر فيه الجماع في الدبر من الذكور والإناث . وقد عُلم أن مالكاً رحمه الله تعالى من أشد الناس مذهبا في هذا الباب حتى أنه يوجب قتل اللوطي حداً ، بكراٍ كان أو ثيباً , وقوله في ذلك هو أصح المذاهب كما دلت عليه النصوص ، واتفق عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم[3] )  ونكتفي بهذا القدر من كلام  الإمام إبن القيم عن إنحلال العصر المملوكي خلقيا وتسويغهم لذلك الإنحلال بالإفتراء على دين الله , وإذ فسدت العقيدة فسدت الجوارح وصدق الله العظيم (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ: إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ: عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ..الأعراف28) .

5 / 3 :ـ وقد وضح في النص السابق أن فقهاء حللوا ما حرم الله من الزنا واللواط وذلك ما شاع في العصر المملوكي تحت أسم ( الحيل ) الفقهية التي استشرى خطرها لتصل إلى تحليل المُجمع على تحريمه الظاهر في خُبثه وإجرامه . وقد التفت إبن القيم إلى فلاسفة الحيل الفقهية ورد عليهم حُججهم . ومن خلال ردوده عليهم تعرف أبرز القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي عم في العصر المملوكي الخروج على الشرع فيها وتسويغه بالحيل الفقهية ،  وأبرزها المحلل أي الذي يتزوج امرأة طلقها زوجها الطلقة الثالثة التي لا يصح بعده أن يعود إليها إلا بعد أن تتزوج من آخر ثم تطلق منه بنص الآية القرآنية (إِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ .. البقرة 230 ). فاعتاد العصر المملوكي كثرة التطليق وكثرة استخدام المحللين بعد الطلقة الثالثة في صورة زواج شكلي للتحايل على شرع الله ، وكان لهم أنصار من الفقهاء ، فقام إبن القيم بالرد عليهم، ثم أفاض في مضار الحيل الفقهية ، وتتبع نشأتها عند اليهود الذين تحايلوا على الشرع فمسخهم الله ، وردّ تأويلات أصحاب الحيل ومزاعمهم، وذكر أمثلة للحيل الرائجة في عصره ورد عليها .

وحظيت المعاملات الاقتصادية بنصيب كبير من الحيل الفقهية مثل الإستئجار والشفعة والشراء والبيع والتوكيل فيهما والخمر والإبراء والوصية والديون والميراث والحجر على التصرف والضمان والعتق والصلح والحوالة والحلف والغصب والقرض والإشهاد والرهن . ثم كان للعلاقات الزوجية والشخصية نصيب مثل الخلع ونكاح أم الولد ودعوى الزوج على زوجها وشراء الجواري للمتعة والنفقة وعصمة الزوجة أو الزوج والطلاق والرجعة ..الخ. ثم تحدث على ما اعتاده بعض الفقهاء من وسوسة في الطهارة والصلاة ومغالاتهم فيها إلى درجة تعطيل الفرائض.

المحور الثالث :

1 ـ ثم التفت إبن القيم لأصحاب الفلسفات والديانات الأخرى فرد عليهم وفنّد حججهم ، خصوصاً الفارابي وإبن سينا ونصير الدين الطوسي والفرق المسيحية ، وقد تتبع المجامع المسيحية التي عقدت للتوفيق بين طوائف النصارى في العصر البيزنطي مما يدل على علمه بتاريخ المسيحية وأبرز رجالاتها قبل الإسلام .وبحديثه عن الفقهاء وحيلهم ووسوستهم في الفرائض ثم بحديثه عن الفلاسفة وأهل الكتاب تكتمل المحاور الثلاثة لكتاب ( إغاثة اللهفان ) المعبر عن الحياة الدينية في عصر ابن القيم .

منهج إبن القيم

1 ـ ويعنى إبن القيم بتتبع جذور القضية التاريخية والدينية من خلال القرآن الكريم والأحاديث المعتمدة لديه والفقه ومصادر التاريخ , ففي حديثه عن القبور يتحدث عن نشأة عبادة الأولياء منذ عصر نوح عليه السلام وكيف أعادها الشيطان في نفس الصورة .

2 ـ  وإن كان هناك من مأخذ على إبن القيم فهو في عدم التنسيق الموضوعي في  كتابه ، إذ يعرض للموضوع الواحد أكثر من مرة ، يتركه مرة ليعود إليه أخرى وتحت عناوين متشابهة. وقد لاحظ هذا العيب في كتاب ( إغاثة اللهفان ) محققه الشيخ حامد الفقي ، فوضع عناوين قصيرة على فقرات الكتاب ، وسجلها في الفهرس لتكون عوناً للقارئ , ولولا تلك العناوين المختصرة لتاه القارئ في استطرادات ابن القيم   .

ملاحظة

هناك بحث سبق نشره هنا ، بتاريخ الأحد 06 أغسطس عام 2006 بعنوان ( نكاح المحلل ) فى إضافات تخص إبن القيم وكتابه إغاثة اللهفان . برجاء الرجوع اليه .



[1]
إغاثة اللهفان 1ر 194 .

[2] مخطوط بدار الكتب تحت رقم 404 مجاميع تيمورية

[3] إغاثة اللهفان 2ر 141 : 144.

 

اجمالي القراءات 4542

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5130
اجمالي القراءات : 57,285,160
تعليقات له : 5,458
تعليقات عليه : 14,839
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي