بين الفيلسوف والكاهن شعرة
صديقة عزيزة قالت على الدكتور مراد وهبة.. "فيلسوف مصر الأول"..فشجعتني على فهم تلك الكلمة الجديدة على الأسماع، حيث درج على المجتمع أن يصف أولوية المهن في الوظائف الاجتماعية ك.."راقصة مصر الأولى".."نجمة مصر الأولى".."مذيع مصر الأول"..وهكذا...أو ربما يعادلها مفهوم جديد يعطي نفس المعنى وهو "كبير الصحفيين".."شيخ المذيعين"..وهكذا..أما فيلسوف مصر الأول..ما الداعي لإطلاق تلك الكلمة وما تعنيها الفلسفة أصلا..
الصديقة هي مثقفة من جيل التنوير مهما دفعك الخلاف معها فلا يحملك على بغضها أبدا..فهي ذات قلب رقيق وعقل متفتح..علاوة على شكلها الجميل..لن أذكر اسمها منعاً للشخصنة، ويكفيني في هذا السياق مناقشة الكلمة فحسب..
لا أقصد من مناقشة الكلمة تحليل طريقة تفكير الصديقة، أو تصنيف رغبتها ضمن سياق ، إنما ذلك العنصر الذي إذا دخل على الإنسان حمله على تقديم الناس في مسائل هي عندي نسبية أو تعددية لا يصح فيها التقديم..أو حتى التقسيم بازدراء..فالفلسفة أسلوب وليس علم كما يظنها البعض، ولا يخيل لي للحظة أن الصديقة اعتمدتها علم مستقل..إنما هي أسلوب يدخل في كل العلوم، وقديما كانت الفيزياء تسمى فلسفة الكون، والرياضيات بفلسفة الأعداد والحساب، كذلك الفلك والكيمياء، الدارس لها والمهتم كان فيلسوف بالأصل..
هذا يعني أن كلمة "فيلسوف مصر الأول" لم تراعِ تعدد العلوم، أو جهل الدكتور بأبعاد وجوانب أخرى في الفلسفة كالفيزياء مثلا أو علوم اللغة والقيم والوجود والرياضيات..إلخ، فالرجل أحسبه –وأنا تلميذ له- متخصص فقط في التأويل والأنثربولوجيا والحضارة الإنسانية..بالتالي وضعه في أسبقية علماء مصر تهوّر، ليس لجهل الدكتور بعلوم أخرى..فهذا طبيعي في كل البشر، ولكن لأن تخصص الدكتور أيضا به اتجاهات فلسفية معارضة له، والفلسفة بالعموم (طُرق فهم) وأساليب تناول، وبتعبير آخر "منظار أو نظارة" يرى بها الإنسان الأشياء والكون..
كذلك فالفلسفة السياسية للدكتور وهبة اكتسبت قصورا في السنوات الأخيرة من فرط تعلقه برئاسة السيسي وخدمته لبلاطه، ولن أتوسع في عرض مواقف الدكتور المتحيزة أو انقلابه على أفكاره الليبرالية في السابق، ولكن أكتفي فقط أن الدكتور لم يعد يناقش قضايا جوهرية في الفكر الليبرالي كحرية الأقليات والمساواه والعدل الاجتماعي ، إضافة للتعاليم الدينية المتخلفة التي وصفت بأنها "شريان الجماعات الإرهابية" ..حتى أصبحنا أمام نموذج في الفكر مشهور بتغير قناعاته وأسلوبه بعد السلطة..فالإنسان قبل المُلك شئ وبعده شئ آخر..
هذا يعني أن الجانب السياسي في فلسفة الحضارة للدكتور تأثر بمواقفه الأخيرة المؤيدة والمبررة للدكتاتور، والدليل تصريح الرجل ضد المثقفين مؤخرا أنهم خانوا السيسي، فالأولى أن يعترف الدكتور بأن سبب هذا العنف اللفظي منه ضد المفكرين يعود لموقفه باكتساب أعراض وصور مؤيدي السلطان، وسيتصرف مثلهم بالضبط، وهنا إثبات الخلاف ، أو بالأحرى تكافؤ ميزان الفكر لدى الدكتور وخصومه، فهو يقول شئ وخصومه يقولون شئ آخر، حتى أصبحت كلمة "فيلسوف مصر الأول" هي تحيز ذات مدلول سياسي يحمل كل معاني البطش والإقصاء والأحادية المميزة لعصر السيسي.
أو هي جهل بالفلسفة أصلا كما أشرنا سابقا بأنها أساليب ومناظير رؤية وليست علم مستقل بذاته.
وبالنسبة للتأويل فالرجل مقلد لابن رشد لم يبدع في تصوير معنىً جديد للتأويل، واكتفى بنفسه (شارحاً لابن رشد) كما اكتفى ابن رشد سابقا بنفسه (شارحاً لأرسطو) مع الخلاف بين الدكتور وأستاذه، فابن رشد لجأ للتأويل حين تعارض النص الظاهري مع غايات الدين الكبرى، وهو الدافع للتأويل عموما بإخراج معنىً مجازيا من نصوص ظاهرية..ورأيي أن هذا يعود للشخص نفسه فلا يمكن تطابق مجاز ابن رشد مع غيره في تصور النصوص، إذ التأويل حينها تأثر بعوامل الزمان والمكان والمجتمع..وربما الظرف السياسي، أي أن تقليد ابن رشد هنا هو "آفة" وليس "ميزة".
وليس هذا السلوك حصرا للمسلمين، فالتأويل كان سلوك "فيلون السكندري" في إخراج التوراه بصورة مجازية أكثر عقلانية بعد الطعون التي وجهت لها من قِبل الفلاسفة والوثنيين، وأزعم أن هذا السلوك له لمحة مناطقية في مصر والشام تحديدا، بهما أكثر علماء التأويل قديما وحديثا، وفي الشرق برع علماء التأويل الهنود نزولا لطبيعة التدين الشرق آسيوي المتصف بالعرفان والروحانية، بينما يغيب التأويل عن فلسفات مادية ذات بعد مناطقي آخر كفلسفة الإنجليز..فلربما رأى الإنجليز أن التأويل كذب على النفس وإنكار للواقع المادي بإقرار فلسفة التحليل الحديثة..التي ترى الحقيقة المعرفية من باطن اللغة –النسبية – وتكسير المفاهيم الكلية إلى جزئيات لفهمها منفردة، أو ما اصطلح عليه "بالتحليل المفهومي"
وهذا يعني أن فلسفة التأويل التي ينتهجها الدكتور مراد ليست هي نهاية المطاف، فطبيعتها مثيرة للفكر والاختلاف..وربما الشقاق نزولا لنسبية نفوس البشر في التصور والتصديق، علاوة على تصادمها مع الفكر الإنجليزي المنتشر في أمريكا والمملكة المتحدة، وهنا يتبادر سؤال آخر: ماذا لو تبنى أحد فلاسفة مصر أفكار الإنجليز أو أسلوبهم..ألا يعد مقارنته بالدكتور مراد ظلم في حد ذاته ؟..بمعنى أن حصول الدكتور على لقب"فيلسوف مصر الأول" هو تقرير حقيقة دون إخضاعها للتجربة، وهنا أزعم أن الرغبة النفسية حاكمة على المعرفة، بيد أنك سترى شخصا آخر يعطي لخصم الدكتور مراد الفلسفي نفس اللقب..وهو نفس الشعور المحرك لعقائد دينية إقصائية كالفرقة الناجية مثلا..!
كذلك تشابه نفسية الصديقة ما نفوس متشددي المذاهب الدينية أو الجنود وقت الحرب ، والشعوب في ظل أزماتها السياسية..هنا أقف على العنصر الذي أردته منذ البداية وأستنتج منه خطورة إطلاق هذه الأوصاف على البشر كونها إسقاطا مجتمعيا على حقائق معرفية، فالذي أعطى راقصة ما لقبا بأنها الأولى مصالح اجتماعية في الأخير، بيد أنك لم تجد حتى مسابقة في الرقص تفوز بها تلك السيدة، فالحَكَم الأول هو المصلحة..كذلك فالفلسفة لا يصح فيها مسابقات، إنما ندوات ومؤتمرات تواصل لتقريب أذهان البشر لبعضهم والوقوف على صور التفكير عند الخصوم على الأقل لفهمهم.
أعود للتأويل وأرى الدكتور لم يَخُض في نقد التراث الديني كما خاض فيه أستاذه، بل وظّف نزعته التأويلية في خدمة فلسفته الأصلية وهي "الحضارة وعلم الإنسان" حتى كتابه "ملاك الحقيقة المطلقة" بوصفه نقدا للتشدد بوجه عام- لم يناقش فيه التراث الديني –خصوصا الإسلامي- بل ناقش الإنسان من وجهة نظر يونانية تأثرا وتقليدا كما قلنا بأستاذه ابن رشد، مع العلم أن الأستاذ توسع في الموروث ببداية المجتهد وفصل المقال..فيظهر لدينا في الأخير مقلد لجانب واحد من ابن رشد وهو "الجانب اليوناني" الذي أراه السمة الأبرز لتخيلات الدكتور مراد عن العالم الحديث.
كذلك اهتم ابن رشد بعلوم الطب والحديث في عرضه موطأ مالك على والده ، كذلك في الفقه بكتب "مختصر المستصفى" و " المقدمات" و "التحصيل" (تاريخ الإسلام للذهبي 12/ 1039) والأخير مختلف عن البيان والتحصيل لجده، ففي رأيي أن ابن رشد أخذ الكثير من علوم جده باعتباره من أسرة مالكية المذهب، إضافة لكتابته في الأخلاق والفلك وعلوم المنطق، كل هذه اتجاهات غائبة عن الدكتور مراد.
إضافة لمحنته مع ملك البربر وإحراق كتبه بسبب جرأته مع الساسة..حتى توفى محبوسا في سجنه ، بينما الدكتور مراد هادن كل حكام مصر تقريبا.
كذلك فابن رشد اهتم بعلم الكونيات "الكوزمولوجي" في شرحه للبرهان على أرسطو بكتاب "الآثار العلوية" شئ أقرب لبرنامج العلم والإيمان قديما للدكتور مصطفى محمود، حاول فيه ابن رشد الربط بين ظواهر الكون والقوة العليا المطلقة (الله) بلا تصريح، في حين هذا الاتجاه غائب تماما عن الدكتور مراد، فهو لم يهتم بالمسائل الأنطولوجية بنسخة وسط بين ابن رشد وأرسطو عَمَد فيها على عدم التورط في صراع الإيمان والإلحاد..وقد يُحسَب له ذلك من باب اعتقاد بعض تلامذته أنه مؤمن والآخرين أنه ملحد..ورأيي أن الرجل قد يكون لا إكتراثي إذا رأى الإيمان فيه مصلحة سيُنظّر له مثلما ساق تجربته في مؤتمر "الإسلام والحضارة" عام 79 في كتابه "جرثومة التخلف" أو للعكس باعتبار الأديان أيدلوجيا في نفس الكتاب بعنوان "الأسطورة" صـ 63
وفي نفسي شئ من ذلك أن الدكتور هو محطة مهمة لكل مثقف يريد فهم العلمانية بشمولية ودقة كما طرحه في كتاب "الأصولية والعلمانية" شئ رائع ومدهش ، أما اعتبار فلسفة الدكتور معينا لأحد في تصور دين أو أيدلوجيا فالرجل لم يهتم بذلك، وللفلسفة الأصلية له تأثير واضح على كل أعماله بالاهتمام فقط بالإنسان وكيفية تصور الحضارة، وهنا فارق آخر يُسجّل إضافة للفوارق الفلسفية السابقة بين الدكتور وغيره، ودليل إضافي لخطأ مقولة "فيلسوف مصر الأول" فكيف إذن تُعطَى الأولوية لك في أمر لا تجيده..أو لا تهتم به، وأزعم أن الدكتور قد يفهم تلك الجزئية بينما لا يفهمها بعض تلاميذه، والواجب عليه التنبيه كي لا تُسجّل له قدسية كهنوتية في الفلسفة لأول مرة.
اجمالي القراءات
4167