معضلة الجهاد في الفكر الإسلامي
يرفع الإرهابيون الآن شعار الجهاد الإسلامي كمطلب رئيسي للدين، بعد أن تجاوزوا نقطة تعريف ما هو الجهاد، فقد فسروه على أنه القتال والعنف قولاً واحدا، رغم أن كلمة الجهاد ومشتقاتها ذكرت في القرآن 33 مرة العديد منها بمعنى آخر يعني جهاد النفس والصبر على البلاء وفعل الخيرات وغيرها
هنا أفصح الإرهابيون عن مذهبهم الحقيقي وانقسموا إلى فريقين، الأول قال: أن الجهاد في الإسلام هو لنشر الدعوة وبالتالي هو مشروع لقتال المشركين والتوسع في أراضيهم، أما الثاني قال: أن الإسلام لا يدعو للتوسع وظلم الأقوام الأخرى واستباحة أموالهم ..لكن الجهاد لديهم يعني إقامة الحق والعدل وتحرير الإنسان والدفاع عن القيم، والملاحظ أن الفريق الثاني أكثر رحمة من الأول، لكن في التطبيق يتساوى الفريقين لمطّاطية أهداف الفريق الثاني وإمكانية حملها على نفس المعنى الذي يسعى من أجله الفريق الأول..
بمعنى أن الجهاد بغرض إقامة الحق والعدل يتطلب أولا السؤال: ما هو الحق والعدل؟..فإذا فسرته حسب مذهبك وطريقتك في التفكير تصبح مصالحك الذاتية أولوية ولا اعتبار إذا لمصالح الآخر، فالتفكير البشري نسبي وكلُ يدعي رأيه حسب المكان الذي يقف فيه، وأكثر الحروب في التاريخ حدثت لخطأ في إمكانية تصور هذا المكان، فضلا عن تصور هذا الحق وتلك العدالة، فكلُ يزعم أنه الحق وكلُ يزعم أنه العدل، فلو رفعت شعار الجهاد حينها بدعوى الحق والعدل كأنك تبحث عن المبرر الأخلاقي في الغزو والتوسع أو فرض الهيمنة على الآخر، وأحسب أن الإمبرياليين في العصر الحديث وقعوا في هذا الخطأ وأكثروا من حروبهم بعد أن أحيوا ذات النزعة التوسعية للإمبراطوريات في القرون الوسطى..
نفس الحال في الرد على دعوى الجهاد بغرض تحرير الإنسان والدفاع عن القيم، وأمامنا النموذج الأمريكي كيف أفسد في العراق بدعوى تحرير العراق ونشر الديموقراطية، أشعل الطائفية فيها وظهرت تنظيمات الإرهاب والقتل بأشكال جديدة أكثر توحشاً وعنفا، وإذا كان الجهاد للدفاع عن القيم فالسؤال أيضاً مطروح: ما هي تلك القيم ؟..ومن الذي يحددها إذا كانت قيم أم لا؟..وما حقيقة إسقاطها على واقع معين؟..بمعنى لو أن داعش قتلت العراقيين بدعوى السفور والانحلال..فما هو السفور وما هو الانحلال..وهل ما تزعمه داعش صحيح؟..وما حقيقة أن داعش نفسها منحلة أخلاقيا حتى لو لم تكن نسائها سافرات؟..وهل يجوز قتل الآخر وغزوه بدعوى السفور؟
كل هذه أسئلة مطروحة لتعريف الجهاد في فكر هؤلاء
وفي تقديري أن تلك الأسئلة أثارت إشكاليات في العقل المسلم، فهو عقل ما زال أحادي النظر لا يؤمن بوجود الآخر حتى يؤمن برأيه، وقد يختلف معي البعض في هذا التعميم ..وأنا أعنى ما كتبته بالحرف، أن العقل المسلم ومسألة الفكر في الشارعين العربي والإسلامي تمثلان معضلة قوامها (الانغلاق والاستبداد) فتلك مشكلتين رئيسيتين يعانيان منها شعوب المنطقة تمّا، حتى من أصدر قراره بالانفتاح تجد نظام الدولة مستبد ولا يعطي الفرصة للأكفأ بل يعطيها حسب الانتماء، كالنموذج اللبناني مثلا..هذه دولة منفتحة جدا بل هي أكثر شعوب المنطقة انفتاحا..ورغم ذلك تعاني الدولة من محاصصة طائفية منذ 30 عاما، والسلطة هناك دائما تأتي حسب الهوية والانتماء الديني والجغرافي..
نعود إلى الجهاد وأشير أن هذه المعضلة المطروحة –الاستبداد والانغلاق- طبيعي أن تنتج فكر مشوّه عن الدين والثقافة المحلية، بيد أن الشائع في الدولة هو (رأي واحد) سياسي أو ديني، ولا فرصة لمناقشة أو تحرير هذا الرأي وبالتالي إمكانية تبيان عواره، فبمن سيتعظون إذا؟
القرآن نفسه لا يدعم فكرة الغزو أو فرض الرأي والهيمنة على الآخرين بآية صريحة وجلية.." لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"..[البقرة : 256]..والنفي هنا هو نهي مشدد في ذاته عن أي نوع من الإكراه بما فيه أقوال الفريق الثاني بأن الجهاد مشروع لنشر القيم والدفاع عن الحق، فيلزمك قبل القطع بمشروعيته أن تؤمن أولاً بأنه لا إكراه في الدين..
العقائد لا تكون سوى بالإقناع والإيمان، أما السيف والقنبلة هذه مجالات حرب وصراعات مصالح لا فرصة للتفكير العقلاني فيها وإلا ما رفع أي نوع من السلاح، وهذا الفصل ضروري جدا الآن للمسلمين أن ينتبهوا إليه، فالحروب لا تغير قناعات بل تغير (أساليب تعامل) والبشرية تفصل في عقلها الباطن بين القناعة والإقرار لكن تختلف في الظاهر أحيانا فتخلط بينهم، وعند اندلاع الحروب تتغير وسائل التعامل تبعاً للفصل الثابت في عقل البشرية الباطن، فنجد المهزوم يعلن هزيمته أو المنتصر ينساق وراء رغباته ويمعن في القتل أو الرحمة..أو في معركة متكافئة تجد الطرفين أقل حماسا للحرب بعد إنهاكهم..بعدها تختفي الصورة الذهنية والنفسية الشائعة قبل الحرب وتحل محلها صورة كائن قوي يصعب هزيمته أو السيطرة عليه..
وفي الفكر اليساري شائع أن الصدام ينتج تنوير نزولاً لطبيعة ونتائج معظم المعارك، فالتغيير الذي يطرأ على التعامل بعدها لاحظه المثقفون طوال التاريخ، فصورة الغرب المسيحي تغيرت في الشرق الإسلامي بعد الحروب الصليبية وصارت أوروبا أقوى مما كان يعتقده المسلمون، واعترف العرب حينها لأول مرة بكيان مسيحي في أوروبا يستحيل القضاء عليه أو إمكانية غزوه لفرض الشريعة كما كان سائدا في زمن الدولة الأموية، كذلك تغيرت صورة المشرق الإسلامي في الذهن الأوروبي بعد حروب العثمانيين في البلقان ووصولهم لحدود المجر، واعترفت أوروبا بكيان عثماني إسلامي مما ساعد في بقاء الدولة العثمانية 6 قرون من الزمن..
لا أتحدث هنا عن طبيعة الحكم العثماني فهي طبيعة مستبدة ومنغلقة ومتخلفة ، لكن صورة هذا الحُكم في أوروبا انطبعت بالقوة فترة طويلة وجرى إسقاطها على واقع المسلمين في المشرق إلى أن تقدمت أوروبا ونهضت حضاريا هنا قررت إنهاء الأسطورة العثمانية للأبد، وقد صدقوا.. فمع أول مواجهة بين العثمانيين والحضارة الأوروبية في مصر-إبان الحملة الفرنسية- ظهر الضعف العثماني وأن الوحش التركي الذي أرّقهم في البلقان منذ قرون وشكل خطورة كبيرة على المسيحية بات فأرا حقيرا يستحق الشفقة..
وفي تقديري لولا هذا الضعف العثماني وقوة الحضارة الأوروبية ما تغيرت مفاهيم كثيرة عند المسلمين، فبداية من القرن 19 بدأ المسلمون في التخلي تدريجيا عن الشريعة الفقهية التي حكمتهم منذ 1000 عام، وأخذ المسيحيون موضعهم الحقيقي كمواطنين وليسوا كعبيد، وإصدار الباب العالي للخط الهمايوني وإلغاء الجزية وتغير مفاهيم أساسية كالجهاد والحدود وغيرها جاء ليساوق هذا التغير الجذري الطارئ على المنطقة ..الذي نقلها لعصر الحضارة حتى أننا نعيش من (بعض) خيرات هذا الانتقال إلى الآن..
الكارثة جاءت بعد ذلك فمع انهيار الدولة العثمانية طليعة القرن 20 تأسست جماعات تدعو للصحوة الإسلامية بهدف استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، فهم لم ينظروا لتركيا كفأر حقير رآه نابليون في مصر، بل رأوهم وحوشا كاسرة فتحت القسطنطينية وغزت نصف دول أوروبا حتى كاد الإسلام يرفرف فوق قصور لندن وباريس وبرلين، وقد أعطى ذلك إيحاء للجماعات الإسلامية بأن التزام الخط العثماني كفيل بسيادة الإسلام على العالم، فهم كانوا على مقربة من السيطرة عليه في السابق ما الذي يمنع من السيطرة عليه في اللاحق؟
هنا فقط تم تأويل الآيات القرآنية الداعية للتسامح وحرفها عن معناها اللغوي وظاهرها العقلاني، فشرع مفسرو تلك الجماعات في تأويل آية .."لا إكراه في الدين"..والبعض قال أنها منسوخة -أي ملغية- والبعض قال هي مجرد بيان حال واقعي كالمدير الذي يقول للموظف.."لا إكراه في العمل وإن شئت فعليك الاستقالة"..لكن هذا لا يعني أن الإهمال في العمل ليست لديه عقوبة، فهم يفسرون بما أن البشر خلقوا جميعا للعبادة إذن فوظيفتهم هذه جزء من وجودهم في النهاية، وبما أنهم لم يحققوا الغرض من الوظيفة فعلى المدير أن يعاقبهم، ومن هو المدير إذا غير الخليفة الحارس لدين الله؟..والذي وصفوه في متون أخرى بأنه .."ظل الله في الأرض"..و.."سلطان الله في أرضه"..أي أن الخلافة والشريعة وجهين لعملة واحدة ، فلا شريعة بدون خليفة والعكس صحيح..
خلاصة قولهم هذا أن نفي الإكراه في القرآن ليس حكم شرعي، ومعها قد فتحوا الباب لتأويل الآية حسب ما تقتضيه مصالحهم باستباحة الأقوام والأمم الأخرى، وهو ما حدث فعلا فاستعانوا بالقرآن في كل شئ إلا في جزئية نفي الإكراه..فهو جانب غير معترف به لديهم
وغفل هؤلاء عن الأصل الإنساني والمبدأ العام الذي يحكمه وهو أن العقائد لا يمكن فيها الإكراه، وعدم الإمكانية هنا تعني أنه حتى لو أردت الإكراه بأي وسيلة لن تستطيع، فتعارضت مذاهبهم وصار الجهاد لديهم معضلة حقيقية كل من يقوم به متهم إما بإنكار القرآن والمبادئ الإسلامية وإما بإنكار الإنسان والحياة على الكون، وكلا التهمتين تلاحق المسلمين الآن خصوصا المؤمنين منهم بالجهاد كجماعات داعش والقاعدة والإخوان وغيرهم..أما عوام المسلمين فطالما متأثرين بفقه هذه الجماعات وموقفهم من الآخر سيظلوا متهمين إلى أن تحدث النقلة الحضارية ويشعر المسلمون لأول مرة بمعنى التحضر والتدين الحقيقي الخالي من النزاعات والمصالح والأهواء.
اجمالي القراءات
7236