قصة الأزمة الحالية بين مصر والسعودية
في عام 2013 نشر الدكتور سعيد سعد الدين الغامدي على حسابه في الفيس بوك صور له وهو يدعو.."الدروز"..في إدلب السورية للإسلام، ومعها صور مصاحف يحملها الدروز مع صلاة جماعة وهو يؤم المسلمين الجديد حسب تعبيره، هذا نصر عظيم للدكتور وانتشار مهم للإسلام في بداية الثورة السورية..
ما مدلول هذا المشهد؟
الأول: الغامدي شيخ سعودي حاصل على الدكتوراه في الشريعة الإسلامية، وداعية مرموق له محاضرات وجمهور، وما كان ينشره هو (الوهابية) التي أنفقت السعودية عليها وعلى الدكتور لنشرها في سوريا، هذا المذهب الوهابي لا يؤمن بالآخر ويستحل دماء وممتلكات الآخرين، وما كان يفعله ليس فقط نشر للإسلام بل تجنيد لهؤلاء المسلمين الجدد ضمن صفوف الثوار وقتها.
الثاني: أن الثورة السورية لم تكن سياسية، بل دينية بالأساس، مما دفع العلويين والمسيحيين لتأييد الأسد خشية أن يصيبهم ما أصاب دروز إدلب الذي لا يُعلم مصيرهم الآن..هل قتلوا أم أسلموا (وحَسُنَ إسلامهم) أم تم تجنيدهم في صفوف داعش والنصرة.
هذا المشهد كان كارثي يعبر عن سير الأحداث في سوريا، خصوصا وأن النصف الأول من عام 2013 كان الإخوان فيه يحكمون مصر ويتحكمون في 90% من المشهد، ونظموا مؤتمر الاستاد الشهير لنصرة الجماعات الإرهابية بدعوى أنها نصرة للشعب السوري، أي ما كان يقوم به الغامدي من نشر للوهابية -وفرض الإسلام على الدروز في إدلب- كان متكامل مع موقف الإخوان أيضا ، لكن هذه المرة فإخوان مصر يؤمنون بالخلافة وولاية الفقيه السنية..مما يهدد عرش آل سعود ،وبالتالي أصبح زوالهم من حكم مصر مصلحة سعودية، على أن يكون البديل موالي للسعودية حكومة وشعبا وستدفع له المملكة ما يريد..
لم يدرك السعوديون وقتها للجوامع بينهم وبين الإخوان، ركزوا كل طاقتهم في الخلاف فخسروا إخوان مصر وإلى الآن، لكن بعد موت الملك عبدالله وتصعيد الأمير سلمان كملك للسعودية جاء بقيادات ذات ميول إخوانية وأيدلوجية مذهبية، من هؤلاء الأمير محمد بن سلمان فاستغل ضعف ومرض والده وانفرد بالحكم، واستمر على سياسة سلفه عبدالله في سوريا، لكن بالتوازي مع انفتاح وتحالف مع تركيا وضغط على مصر لعقد مصالحة مع الإخوان، وإجراءات في غزة تهدف لتمكين حماس..إضافة لإشعاله حرب اليمن كإجراء يضمن به ولاء الشعب وتخويفه من أي بديل أولا، وكتنفيس عن ميوله الطائفية ثانيا.
إلى هنا شعر المصريون بالامتعاض من الضغط السعودي عليهم بمصالحة الإخوان، هذا لم يقم به الملك عبدالله، إذن هناك جديد.
طلب الملك سلمان -وابنه بالطبع- من السيسي جنود ليحاربوا في اليمن بجانب الجيش السعودي، لكن السيسي رفض بدعوى أن بحرية مصر في عاصفة الحزم لحماية باب المندب فقط، أما القوات الجوية فافعل ما شئت، أثار ذلك غضب بن سلمان، فذهب لباكستان وكان الرفض الباكستاني أيضا، شعر بن سلمان بغدر أصدقائه..فهو شاب لم يكمل 30 عاما بعد، ولديه حماس الشباب يتوق فيه لإنجاز عسكري يضاهي ما فعله هتلر في بداية الحرب العالمية الثانية، فلو فتح اليمن سيفتح العراق وبعدها سوريا ولبنان إلى أن يكتب المؤرخون اسمه في صحائف التاريخ كبطل سني قضى على أحلام الشيعة..!
الآن ما العمل؟..أدرك الناصحون له أن قيمة مصر وأهميتها بالنسبة للسعودية تتجاوز أمور الجيش والحرب، فقيمة مصر كبيرة عربيا وإقليما ،ووزنها الإعلامي والسياسي كبير، وبحكم موقعها الجغرافي وشعبها كثير العدد والممتد في أكثر من 100 دولة حول العالم، كل هذا يحتم على السعودية أن لا تخسرها بأي حال.
قرر بن سلمان الإنفاق على مصر بسخاء لكسبها في معارك أخرى، وقد نجح بكسب الموقف المصري في لبنان، وطردت مصر فضائيات حزب الله وحلفائه من على النايل سات..هذا جيد الآن كمرحلة، وكسبه أيضا في العراق..هاجم الإعلام المصري الحشد الشعبي الذي حرر 3 محافظات عراقية من داعش..وأصدر شيخ الأزهر بيانات ضد الحشد يتهمه بكل ما علق في الذهن السعودي دون استبيان..هذا أيضا جيد، لقد كسبوا مصر في لبنان والعراق واليمن..فاضل سوريا هذه نؤجلها ونصبر إلى ما بعد حين..
قام الملك سلمان بزيارة تاريخية لمصر في شهر إبريل هذا العام 2016 قررت فيها السعودية مضاعفة الدعم وبناء مشاريع بنى تحتية، بالطبع غير مجانية..هذا شراء للموقف المصري إقليميا وتثبيته إلى مرحلة معينة قد تتطور لاحقا، فالسعوديون لا يؤمنون بعلاقة مادية مجردة لا تتعدى الموضوع، كأن يحصروا مثلا علاقتهم بمصر في المصالح المالية، ولكن هم يريدون شراء مواقف..فقد تعلموا من آبائهم وأجدادهم شراء موقف أمريكا بنظام (أدفع لك وتحميني) بالتالي على مصر أن تسير على نفس الخط..ولكن هل أمريكا هي مصر؟..وهل الشعب المصري العروبي المسلم هو الشعب الأمريكي البراجماتي؟..وهل قوة ونفوذ أمريكا تماثل أو أقل من نفوذ وقوة مصر؟
كانت زيارة سلمان هي بداية الانحدار في العلاقات بين مصر والسعودية، وأطلقت المشهد الأول لمسلسل النهاية، فالزيارة ورغم أنها كانت أسطورية وحازت على اهتمام إعلامي كبير إلا أن كارثة تسليم السيسي لجزيرتي تيران وصنافير للسعودية أيقظت الشعور القومي المصري خصوصا المعادي للسعودية منذ زمان عبدالناصر، فاشتعلت مصر بالمظاهرات وهدد عرش السيسي نفسه لأول مرة منذ انتخابه كرئيس، وشاع في المحروسة أن السيسي عميل سعودي، كل هذا علمه الرجل واعترف به في خطابه بقوله.."انتوا زعلانين"..ولكن أنا لم أبيع وغضب من وصفه بعواد..
إلى هنا شعر الرجل أن السعودية عند المصريين ليست كما هي بالصورة المقدسة في ذهنه، ولكن الأمر لا يحتمل الجدال ولا التشغيب في هذه المرحلة الزمنية الحساسة..ولكن كإجراء أولي يجب الوفاء بكل التزاماته تجاه السعودي وهي تسليم الجزيرتين، فاتفق مع السعودية على دعم حملة سياسية وإعلامية في الداخل تشرح الموقف الحكومي الذي ظهر متأزما..فخرج الكتاب والإعلاميون -الموالون للسعودية- ينفون ملكية مصر للجزيرتين في محاولة ولو ضعيفة للتأثير في الرأي العام، جاء حكم القضاء الإداري بإلغاء اتفاقية تسليم الجزيرتين فكانت الأزمة والصدمة أكبر..إلى هنا أصبح النظام في ورطة كبيرة.
فلو سلم بحكم المحكمة يفقد فورا الدعم والمال السعودي، وأيضا كل الاتفاقيات التي تمت تصبح في خبر كان، ولو لم يسلم بها أصبح الجيش المصري –وهو شخصيا- خونة في نظر الشعب، وهذه نتيجة خطيرة لا يتمناها أي مصري بمن فيهم السيسي، إذن الحل في الطعن على الحكم مع توجيه بعدم حسم القضية الآن إلى ما بعد وضوح موقف السعودية من الدعم، وهذا رأي من يتنبأ بحكم المحكمة الإدارية العليا برفض طعن الحكومة بعد قطع السعودية للدعم، أما لو حكمت بسعوديتها فهو رأي القائلين بفرصة أخرى للعلاقات، وشخصيا لا أميل لهذا أو ذاك..بل في تقديري أن القضاء المصري عندما يحكم في هذه القضايا الشائكة والمهمة فهو يحكم بضمير ومعلومات واستقلالية تامة عن السلطة التنفيذية.
ولكن الآن وبعد قطع السعودية للدعم وسحب السفير تبين أن كل ما خطط له منذ رفض السيسي إرسال جنود بريين لليمن سيظهر للعلن، فمحمد بن سلمان ليس هو الرجل الحكيم الذي يليق بدولة كبيرة كالسعودية، بل هو شاب متهور ومغرور لحد السذاجة، وقراره هذا ضد مصر أكيد حصل على موافقة محمد بن نايف ولي العهد، وهؤلاء خصمان بالأساس يتصارعان على خلافة الملك المريض، أي أن القرار ضد مصر حصل على إجماع السلطة الحاكمة، وقد انعكس فورا على الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في حشد غير مسبوق للسعوديين ضد مصر، وأدى بالكاد إلى ردة فعل مصرية نتج عنها سباب وشتائم متبادلة بين الشعبين المصري والسعودي.
مع العلم أن طبيعة الشعبين مختلفة، هذا شعب صوفي أشعري وقياداته العليا مثقفون وفنانون، وهذا شعب سلفي حنبلي وقياداته العليا شيوخ وهابية وأمراء لا يعرفون في حياتهم سوى المال، المصريون يعشقون الاحتفالات والموالد والرقص، أما السعوديون لا يفعلون هذه الأشياء ويعدوها من البدع الخارقة للدين وللشخصية، المصريون أقرب إلى حب آل البيت والتغني بمديحهم، بينما السعوديون أقرب إلى كراهية آل البيت والتغني بمن قتلهم وظلمهم ، حتى بات ذكر آل البيت والإكثار من مديحهم في العرف السعودي مدعاة للاتهام بالتشيع..وهذه نزعة سلفية بشكل عام انتقلت في معظم الأقطار العربية حتى نشرت المذهبية والطائفية بين المسلمين.
بالمناسبة..كنت قد حذرت من قبل أن الشعب المصري يكره السعودية كدولة، ولكن علاقته بها كشعب ربما يوجد تباين، وقتها اتهمني البعض بالمبالغة في عز كانت البوارج المصرية والطيران يضربون أراضي اليمن ضمن تحالف عاصفة الحزم، والإعلام المصري منبهر بالملك سلمان وولده حتى جعلوا ولده بطل جسور لديه حماس الشباب ويقدر على انتزاع الريادة الدولية من أمريكا لصالح الجامعة العربية..!
مشهد مثير للسخرية، كاتب معترض على حرب اليمن، ومؤيدين للحرب يتغزلون في العلاقة (الحميمية) بين مصر والمملكة، وقلت يومها أن السيسي مثلما قلب التوقعات في شأن الإخوان ومرسي، وقلب التوقعات في جانب التنوير واتخذ خط المشايخ، هو كذلك قادر على قلب التوقعات تجاه دول الخليج والسعودية بالذات..هذا شخص براجماتي مخادع لأبعد الحدود، وبتعاملي الشخصي معه نجحت في قراءة بعض زوايا شخصيته ممن حتى ملوا من مشاهدته وهو يخطب أو يتحدث في الإعلام..
لكن ما زلت أقول أن الرجل هواه خليجي وسعودي بالذات ، لكن ببراجماتيته الشديدة لو رأى تعارضا بين هواه ومصلحته سيقدم مصلحته، وهذه سمة للشخص المكيافيللي على طول الخط، والسعودية أخطأت أنها لم تجيد قراءة السيسي ولا النظام المصري ولا حتى الشعب المصري، وغرّتهم تلك الزيارة الملعونة للملك سلمان في شهر إبريل الماضي والتي تميزت باستقبال أسطوري ومئات الاتفاقيات وعشرات المليارات من الدولارات منح ودعم، وجسر بين السعودية ومصر قلت يومها أنه وهمي، ثم ختموها ببيع جزيرتين للمملكة امتنانا وشكرا للسعودية ودورها في دعم مصر منذ ثورة يونيو 2013.
الآن لسنا في سياق تصفية حسابات مع أحد ولكنه تذكير ببعض ما جرى ليعلم من يعلم عن بينة، وفي هذا المقال أضيف بعض لمحات عن ما يحدث الآن في العالم والمنطقة..
البداية بعد الحرب العالمية الثانية..حرب باردة بين أمريكا ممثلة الليبرالية ، والاتحاد السوفيتي ممثل الشيوعية، انتهت بهزيمة الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتي إلى عدة دول، أصبحت روسيا هي وريثة الاتحاد المنهار وفي قلب العديد منهم أمجاد وطموحات ومشاعر انتقامية ممن تسببوا في انهيار أكبر تحالف جغرافي في العالم يمتد على مساحة 22 مليون كيلو متر مربع، بحيث شغل نصف قارة آسيا ونصف أوروبا في نفس الوقت، وبالطبع تحالف بهذا الوضع المميز كان هدف أوروبي أمريكي لتصفيته وعملوا لذلك وقد نجحوا..
السعودية ظهرت كدولة في عشرينات القرن الماضي وأعلن عن دولتها في مطلع الثلاثينات بأسرة عربية تجمع كل صفات العرب البدو، ومن ضمنها (البراجماتية) في خطاب الخارج، (والأصولية) في خطاب الداخل، وكلما كانت الدائرة الخارجية أضيق كلما كان خطابهم أكثر تشددا ومحافظة، كمثال خطابهم مع بريطانيا وقتها تشعر أنه انفتاحي..يضيق هذا الانفتاح بعلاقات أضيق مع العرب، ويضيق أكثر وأكثر بعلاقات أضيق مع مصر، وأكثر وأكثر وأكثر بعلاقات مع القبائل في شبه الجزيرة، إلى أن يصلوا لأضيق دائرة وهي الجماعة الوهابية نفسها وتحالفها الديني مع سلطة آل سعود..وقتها يكونوا معبرين تماما عن هويتهم.
هذا التسلسل والتنوع في العلاقات أفاد السعودية جدا، حيث أقامت علاقات دولية مميزة، مع تماسك مجتمعي جيد سواء في حدود صحراء شبه الجزيرة أو ضمن أقاليم العرب، أصبح شكل السعودية دوليا وطن ليبرالي، وإقليميا وطن عربي ، وداخليا وطن إسلامي يقيم الشريعة بمعنى الكلمة، ولتخيل كيف فعلت السعودية ذلك افترض سؤال مباشر وهو: كيف لو عاملت السعودية دول العالم كما تأمرها الشريعة الإسلامية؟..الجواب سيكشف أنهم تنازلوا عن تلك الشريعة من أجل المصالح، وهو المنطق البراجماتي الذي يميز العربي بالعموم إذا شعر بالخطر أو أراد توسيع نفوذه..
لكن إلى أي حد تصبر المملكة على هذا الوضع؟..سنرى ...خصوصا وقد ظهرت الآن هويتها بشكل فاضح وأثرت على علاقتها بالخارج، فجعلت ميزان المذهب (سني وشيعي) مؤثر على علاقاتها الخارجية فلم تعد حينها وطن ليبرالي بل طائفي..وهذه كانت بداية السقوط وأفول نجم المملكة..
نعود للقصة مرة أخرى..بعد ظهور النفط أعطى للسعودية ثقل نوعي في المنطقة، فاعتمدت عليها بريطانيا كقوة مالية ودينية وإقليمية، وبعد زوال النفوذ البريطاني وصعود النجم الأمريكي اعتمدت عليها الولايات المتحدة في تنفيذ سياساتها في الشرق الأوسط، وبالتوازي تقوم السعودية بتزويد أمريكا بالنفط مقابل حماية أمريكية لعرش أسرة آل سعود، وقد ظلت هذه السياسة إلى وقتنا هذا إلى أن قارب أوباما على الرحيل واكتفاء أمريكا بالنفط قررت أمريكا التخلي عن سياستها مع السعودية طيلة 80 عام ، وقانون جاستا الشهير هو مقدمة لانفصال مؤلم بين الحليفين.
على الضفة الأخرى ظهر قائد روسي يريد استعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي المنهار، وهو .."فلاديمير بوتين".. عمل على تقوية روسيا عسكريا واقتصاديا إلى أن بلغ الاقتصاد الروسي مرتبة عظمى وقوة تسليحية ضخمة، حتى قاربت هذه القوة مقدار ما كان عليه الاتحاد المنهار، إلى هنا قرر بوتين التدخل، فكانت أول معركة مع الغرب في جورجيا 2008 وانتصرت روسيا باستقلال دولتين هما أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية اللتان أصبحتا قوة روسية في العمق الجورجي التابع لأمريكا، ثم بعدها معركة في أوكرانيا نتج عنها استعادة روسيا لشبه جزيرة القرم واستقلال شبه كلي لجمهوريتين في العمق الأوكراني موالين لروسيا هما دونيتسك ولوغانيسك.
إلى أن وصلت المعركة لسوريا ، هنا لم ينس بوتين ما حدث ليوغوسلافيا وليبيا والعراق حلفائه في الماضي ، فقرر عدم التخلي عن سوريا كي لا يضيع النفوذ الروسي في آخر بقعة لهم في الشرق الأوسط، وكقاعدة يمكنه الانطلاق بعدها لإعادة النفوذ السوفيتي السابق، ولكن خطته كانت تقضي أولا بإضعاف حلفاء الغرب الإقليميين في الشرق الأوسط، فتم إشغال هؤلاء الحلفاء في اليمن، هذه الدولة العصية على كل الحروب والمميزة بتضاريسها الوعرة ، (لاحظ تمرير روسيا قرار حرب اليمن في مجلس الأمن) وبلعت دول الخليج الطُعم الروسي والسعودية بالذات بوصفها الحليف الأول لأمريكا، وغرقت دول الخليج في اليمن وأصبحت السعودية مطاردة دوليا لجرائمها ضد الإنسانية، وسمعتها التي أصبحت في الحضيض بعد فشلها العسكري الذريع.
هنا أصبح الوضع مهئ للتدخل في سوريا، وبالفعل دخل بوتين حرب سوريا ورجح كفة الجيش السوري ضد حلفاء أمريكا من الجماعات المسلحة التي عمل الغرب على إنشائها ورعايتها لعقود، وبهزيمة تلك الجماعات في أكثر من معركة بات من المستحيل عسكريا إقصاء بشار الأسد حليف روسيا إقليميا، شعرت أمريكا بالخطر فقررت استدعاء حلفائها في الخليج وساعدوا الجماعات بالمال والسلاح، لكن كل هذا ضاع أمام قوة النيران الروسية ، وعلى ما يبدو أن انتفاضة أمريكا جاءت متأخرة، هددت أمريكا بعمل عسكري ضد الأسد وبتمويل سعودي وإماراتي وقطري، فردت روسيا بنشر صواريخ إس 400 وإس 300 وهي من أقوى وسائل الدفاع الجوي التي عرفها الإنسان ، مما يعني استحالة دخول أي صواريخ وطيران معادي لأجواء سوريا بغرض تهديد الأسد..
لم يكتفي بوتين بذلك، بل اقترح على الكرملين زيادة قواته على الأرض وطيرانه في الجو وأسطوله في البحر، وافق الكرملين وأصبح الوجود الروسي عسكريا يتعزز يوما بعد يوم إلى أن قررت روسيا-بالاتفاق مع الأسد- إقامة قاعدة روسية بحرية دائمة في طرطوس وجوية في حميميم، مما يعني أن أي تهديد لنفوذ الأسد حليف روسيا سترد عليه روسيا مباشرة باعتباره عدوان على قواتها المرابضة هناك..وبوصول سوريا لهذه النقطة يكون بوتين قد نجح في معركة سوريا ضد الغرب، ويكفيه مع أقل المجهودات الدبلوماسية أن ينتزع أكبر انتصار روسي على الغرب في العصر الحديث..بل ربما في تاريخ الحرب الباردة ككل، بما يعني إمكانية توسع نفوذ روسيا وضم العديد من الحلفاء.
أكتفي بهذا العرض الكرونولوجي السريع لأحوال العالم، وأضيف لمحة فكرية وهي أن قوة أي دولة عالميا من قوة حلفائها والعكس، أي بضعف أمريكا ضد روسيا في 3 معارك حتى الآن ضعف حلفائها في دول الخليج، وهو الملاحظ من تورط السعودية في اليمن وفشلها في العراق ولبنان، بل ساءت علاقتها الآن بمصر وهو المحور الذي دفعني لكتابة هذا المقال كي أعايش أجواء ما يحدث من تغير مهم برصد الأوضاع الإقليمية الأكثر أهمية على المستوى الدولي.
ومن ضعف السعودية إقليميا فشلت عاصفة الحزم حتى باتت عبء كبير عليها اقتصاديا وعسكريا وسياسيا وأخلاقيا، الآن لم يعد لحلفاء السعودية الإقليميين –كمصر- أي إغراء على استمرار هذا التحالف، بل ربما ببقاء الحلف معها تتعرض مصالحهم للخطر، وهذا هو المفهوم من الأزمة الآن بين مصر والسعودية، فمصر ترى مصالحها في سوريا تتوافق مع الهوى الروسي الذي يحارب الإرهاب والمسلحين المدعومين من أمريكا والخليج، وبالتالي أصبح الحليفين (مصر والسعودية) غريمين في سوريا، فأخذت المملكة قرارها –الطبيعي- بوقف تزويد مصر بالبترول كإجراء يبتزوا به السيسي ليعود إلى حظيرة الخليج.
رد السيسي اليوم بخطاب متشدد وألفاظ يُفهم منها أنه لن ينفذ ما يريده السعوديون، وبلهجة تصادمية قال.."مصر لن تركع إلا لله"..في لفظ يحوي مضمونه معانٍ دينية ومشاعر مقاوِمة تخالف الخط الذي رسم به مبارك علاقة مصر بالسعودية منذ الثمانينات..هذا تغير بالتأكيد..وتغير جذري أيضا، فاللهجة تصادمية وتعبير أن ما حرص عليه السعوديون إجراءه في الخفاء أظهره السيسي للعلن بُغية مكاشفة شعبه الذي اتهمه في السابق بعمالته للسعودية إبان أزمة تيران وصنافير، وبردوده الحادة تلك يُفصح بجلاء عن ما يجري.
بكل الأحوال العلاقة بين مصر والمملكة تضررت ، فقرارات السعودية المتعجلة وردود السيسي التصادمية تنبئ عن مستقبل غير مبشر للعلاقات، حتى وإن حدثت مصالحة واعتذارات فالقلب امتلأ من فيض الشتائم والنعوت والأوصاف البذيئة التي ملأت بها وسائل التواصل الاجتماعي الذي اعترف السيسي أنه يقرأها ويتابعها بنفسه، أي أنه اطلع جيدا على الرأي العام السعودي المعادي لمصر وفطن أن قرار قطع البترول وسحب السفير لم يكن هباء إنما تنفيذ لرغبة شعبية سعودية تهدف لتطويع مصر وتركيعها.
ما كان هذا ليجري لولا ضعف حلفاء أمريكا مقابل قوة حلفاء روسيا، فالسيسي الآن لديه البدائل ويملك من محاور اللعبة الإقليمية، وبديل السعودية النفطي متنوع كالجزائر وليبيا والعراق وإيران وروسيا، وهذه الدول لديها خلاف شديد مع السعودية ولن يمانعوا من تزويد مصر واستغلال الموقف للقضاء على أهم وأكبر حليف أمريكي في المنطقة بعد إسرائيل، هذه فرصة من ذهب لن تمر، وأزعم أن حاجة مصر من الوقود سيكون من السهل تدبيرها.
أما على الجانب الأمريكي فمن شدة الصراع على الحكم بين أجنحة رأسمالية وقومية أسفر عن موقفين: الأول: مع السعودية ويمثله البيت الأبيض والحزب الديمقراطي والقوميين، في محاولة منهم لتقوية هذا الحليف الضعيف رغم عدم رضائهم عن سياساته الطفولية في تأجيج الأصولية ودعم كل الجماعات الإرهابية بلا استثناء، الثاني: ضد السعودية ويمثله رجال الأعمال والحزب الجمهوري والراديكاليين المسيحيين واللادينيين، وقد انتصر الفريق الثاني في معركة قانون جاستا بما ينبئ عن ملامح شيوع كراهية المملكة داخل القطر الأمريكي وعدم الاعتداد بها كحليف.
سبب من أسباب انتصار الفريق الثاني هو داعش وكل ما تمثله من أصولية وهابية ترعاها السعودية وتقول أنه يمثل الإسلام، والسبب الثاني يخص رجال الأعمال الذين لم تعد مصلحتهم في النفط الخليجي بعد ظهور النفط الصخري، ولكن هذا لا يعني أن الانتخابات الأمريكية تجري بين هذين الفريقين، كلا..بل بين حزبين داخليين كلهم منهم لديه مصالح خاصة، أما الانسحاب من الخليج والشرق الأوسط بات يحصل على شبه اتفاق بين الأمريكيين سواء كانوا فريق أول أو ثاني..وإدارة أوباما –خصوصا آخر سنتين- نفذت هذا الانسحاب بشكل تدريجي حتى اكتمل بعقد اتفاق نووي مع إيران وانفتاح غربي عليها.
السيسي مدرك للدور السعودي في سوريا ويعلم أنها من أسست جيش الإسلام بقائده زهران علوش المقتول منذ عدة أشهر، ويدرك أنها تدعم جبهة النصرة كأحد أقوى الفصائل المتحاربة ضد الأسد، وكذلك تدعم داعش لكن ولسمعتها السيئة تكتفي بدعمها في السر،ويعلم السيسي أن موافقته للسعودية في سوريا يعني أن هذه المجاميع الإرهابية ستستعيد عافيتها بعد ضربات بوتين الشديدة لها في الأشهر الأخيرة، وبالتالي يعود نفوذ الإخوان والإسلاميين ليهدد مصر من جديد، أي رفضه للقرار السعودي في سوريا كان لاعتبارات داخلية محضة ربما لا تخص السعودية أصلا..وكان أولى بأمراء المملكة أن يدركوا هذه النقطة جيدا فما أتى بالسيسي هي ثورة على الإسلام السياسي والجماعات المسلحة ..ليست فقط ثورة على الإخوان..
في مقال قديم بعنوان.."لماذا أعارض السيسي"..قلت أن جزئية سوريا هذه إشكالية كبيرة في العلاقات المصرية السعودية، بيد أن مواقف السيسي وآل سعود تتطابق في اليمن ولبنان والعراق بشكل ما، وقلت أن هذا الإشكال هو ثمرة نزعة ناصرية وقومية للجيش منذ الستينات، وأن السيسي لا يستطيع أن يخالف تلك النزعة رغم هواه السعودي الذي كتبت فيه أكثر من مرة ، لكن مع براجماتيته قدم مصالحه في الجيش المصري على هواه السعودي وكأنه يقول لسلمان.."أنا مش اللي في بالك"..
وفي نفس الوقت حذرت أن الإعلام المصري-الممول سعوديا- قد يحرك الرأي العام الداخلي ضد الأسد بدعوى أنه حليف لإيران وللشيعة، وقتها سيحسب السيسي أي خطوة تجاه سوريا بحيث يصبح قراره في حد ذاته أزمة أيا كان هو، ومع الوقت ينقلب الرأي العام والسياسة المصرية برمتها تجاه سوريا لتتوافق تماما مع رؤية آل سعود، وفي تقديري أن الأسرة السعودية صبرت على السيسي كل هذه الفترة كي يراجع نفسه، منذ إعلان رفض مصر مشاركتها البرية في اليمن، لتقوم مؤقتا بتأجيج مشاعر الكراهية تجاه الشيعة في الإعلام المصري بدعوى أنهم عملاء لإيران، هذا تمهيد جيد لإحداث ضغط على السيسي والجيش المصري لتعديل مواقفهم من الأسد.
ولكن جاء دعم مصر للمشروع الروسي في مجلس الأمن مع فيتو روسيا ضد المشروع الفرنسي كشعرة معاوية المقطوعة، وضاع أمل السعودية في حماية المسلحين في حلب الشرقية، وتتوالى الأخبار والمصالحات في مناطق شتى من سوريا تقضي بتسليم الإرهابيين لأسلحتهم وآخرها اليوم في قدسيا، وقد سبقتها بأسابيع في داريا والمعضمية، وغدا ستكون في دوما وحلب الشرقية كمقدمة للتفرغ تماما لتحرير إدلب والرقة وبقية الجيوب في حماه وحمص ودرعا، وبالتالي يفشل المشروع الغربي الخليجي بتقسيم سوريا الذي أعد له منذ عقود وأنفق عليه مؤخرا مئات المليارات من الدولارات لتكون حرب سوريا أحد أعظم حروب العصر الحديث إنفاقا وتسليحا..
أخيرا: فالموقف المصري من سوريا وضح جدا بدعم الدولة والجيش ضد الإرهاب ، ووحدة سوريا ضد خطط التفكيك والتمكين للأجانب، في المقابل الموقف السعودي لم يسعى فقط لإزاحة الأسد..ولكن لنشر الوهابية في سوريا فأرسلوا العشرات والمئات من شيوخ المملكة للدعوة وللتبشير، وآلاف الشباب للعمل في صفوف المسلحين، وبالتوازي مع جهود السعودية عمل السلفيون الوهابيون على حشد الشباب أيضا من كل الأقطار العربية والإسلامية، في محاولة أخيرة لبناء إمبراطورية وهابية ممتدة خارج الصحراء العربية..لكن بجهود وتضحيات الجيش السوري وحلفائه ودعم مصر الإعلامي والسياسي لهم تحطمت تلك الخطط عسكريا، وإلى أن تتحطم فكريا نلتقي.
اجمالي القراءات
6231
مملكة أل شرور قطعت البترول عن مصر معاقبة لها على عدم تعاونهم معهم فى حربهم ضد غلابة اليمن وأيضا لعدم تعاونها معهم ضد الأسد فلجأت مصر لإيران وهذه خطوة ممتازة. لقد أن الأوان للقضاء على هذه الدولة الشريرة التى دفعت لخيلارى كلنتون ٢٥ مليون دولار للإطاحة بالأسد وكان ما كان من تدمير سوريا البلد الجميلة تماما كما فعلوا مع لبنان سنة ١٩٧٧. ولكن سبحان الله مغير الأحوال جاءت هزيمتها فى الإنتخابات لتكون الأمل فى القضاء على الأخطبوط الصهيونى الذى يسيطر على كل شىء...والفرد العادى فى أمريكا قد زهق من سياستهم وأكاذيبهم سنة وراء سنة....