اعتذار للأقليات في العالم العربي
نشر الكاتب خالد صلاح مقالاً في صحيفة "المصري اليوم" (8/9/2005) بعنوان "اعتذار للدكتور سعد الدين إبراهيم"، استعرض فيه ملامح المعركة الفكرية والسياسية، التي انفجرت عام 1994، بسبب تنظيم مركز ابن خلدون مؤتمراً لتدارس "هموم الملل والنحل والأعراق في العالم العربي". وبسبب دوري الرئيسي في ذلك المؤتمر، فقد تعرضت وقتها لانتقادات حادة، بدأت بمقالين افتتاحيين في جريدة الشعب، لسان حال حزب العمل، للصديق المرحوم عادل حسين، أمين الحزب ورئيس التحرير.
ولكن مقالاً ثالثاً للكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل في صحيفة الأهرام بتاريخ 22/4/1994، بعنوان " أقباط مصر ليسوا أقلية وإنما جزء من الكتلة الحضارية الإنسانية للشعب المصري " ظهر في أعقاب مقالي عادل حسين، هو الذي حوّل الأمر إلى معركة حامية الوطيس، شارك فيها ما يزيد عن أربعمائة كاتب وكاتبة، من المحيط إلى الخليج. وكانت الغالبية العظمى، وتحديداً ثلاثمائة منهم، في جانب هيكل وعادل حسين، وفقط واحد من كل أربعة، أو تحديداً أقل من مائة هم الذين أيدوا وجهة نظري في هذا السجال غير المسبوق، حول موضوع ظل إلى ذلك الوقت من "المحرمات"، المحظور الاقتراب منها.
ومع تأثري العميق بما كتبه خالد صلاح، الذي لا أعرفه شخصياً، فإنني أنتهز فرصة ظهور مقاله لكي أشكره، وأستأذنه في تحويل اعتذاره لي إلى اعتذار لكل الأقليات في العالم العربي، حيث عانى معظمهم من التجاهل، أو التفرقة، أو الاضطهاد، أو الاقتلاع والتشريد، على أيدي الأغلبيات، أو الأنظمة الحاكمة باسم هذه الأغلبيات. ولم يكن المثقفون العرب ـ من وزن محمد حسنين هيكل ـ أبرياء من هذه الخطايا، كما سنرى.
كان جوهر الخلاف في هذه القضية وفي قضايا أخرى هو بين نهجين. أحدهما أيديولوجي طوباوي، ينظر للعالم العربي، من المحيط الأطلسي إلى الخليج الفارسي، كما لو كانت تعيش فيه أمة واحدة، ذات قومية ولغة واحدة، مزقها الاستعمار إلى شعوب وأقطار متعددة. ولأنها "أمة واحدة ذات رسالة خالدة"، فإن من يرى على هذا الاتساع الجغرافي غير ذلك، فهو أعمى أو جاهل، أو معادي للعرب والعروبة، أو خائن لهما، أو متآمر عليهما.
أما المنهج الثاني فهو اجتماعي ـ تاريخي مقارن، ينظر لنفس الفضاء الجغرافي الممتد من المحيط إلى الخليج على أنه يضم إلى جانب الكتلة الرئيسية، وهي الأمة العربية، شعوباً وثقافات أخرى غير عربية أو غير أسلامية، تتقارب أو تتفاوت مع الأمة العربية في السمات والخصال وطرق الحياة. وبالقدر الذي تختلف فيه وتعتز بهذا الاختلاف فهي تريد الحفاظ على هويتها وخصوصيتها. وينبغي فهم هذه الخصوصيات واحترامها.
كنت من أصحاب المنهج الثاني. واجتهدت في دراسة وفهم هذه الخصوصيات كما اجتهد أسلاف عظام في فهمها. بل إنني تعمدت أن أختار لمؤلفي الموسوعي حول هذا الموضوع، عنواناً مقتبساً من هؤلاء الأسلاف، مثل ابن حزم الظاهري في كتابه الأشهر "الملل والنحل". فجاء عنوان كتابنا "الملل والنحل والأعراق"، واخترنا له عنواناً فرعياً هو: "هموم الأقليات في الوطن العربي".
فلماذا كرسنا عشر سنوات من حياتنا للتجوال والبحث في كل أرجاء العالم العربي من مرتفعات كردستان في العراق إلى جبال الأوراس في الجزائر، ومن غابات الأرز في لبنان إلى أحراش جنوب السودان ـ ونحن نعد ذلك الكتاب الموسوعي؟
كانت هناك أسباب علمية معرفية، اقتفينا فيها سيرة أسلافنا العظام، مثل ابن حزم والشهرستاني، الذين بحثوا وكتبوا عن نفس الموضوع قبل ألف سنة. وكانت هناك أسباب وجودية سياسية إنسانية. فقط لاحظنا أولاً، ثم وثقنا أن الصراعات المسلحة في عالمنا العربي خلال الخمسين سنة التالية للحرب العالمية الثانية (1945-1995) كانت في معظمها، إن لم تكن جميعها، صراعات عرقية ـ دينية ـ مذهبية ـ لغوية. ومع ذلك لا أحد من سياسيينا أو مثقفينا يريد أن يرى أو يعترف بذلك. هذا رغم أن هذه الصراعات الداخلية المسلحة أزهقت من الأرواح عشرين مثلاً مما أزهقته كل حروبنا مع إسرائيل (1967،1956،1948،1973). ثم إن استمرار هذه الصراعات الداخلية المسلحة أخرت وعوقت مسيرة التنمية وبناء الدولة والمؤسسات الديمقراطية، واستنزفت لا فقط الدماء ولكن أيضاً الثروات، وأفقرت البلاد والعباد.
ولكن ما إن ظهر مؤلفنا، عن الملل والنحل والأعراق، ثم ما إن نظمنا مؤتمراً لتدارس المشكلات والهموم المرتبطة بها، حتى انفتحت علينا نيران مدفعيات ثقيلة، من محمد حسنين هيكل وعادل حسين ومن لف لفهما، وعلى نحو ما ذكرنا في مقدمة هذا المقال.
ورغم ذلك مضينا في طريقنا، وعقدنا المؤتمر في قبرص، بعد أن رفضت السلطات المصرية عقده في القاهرة، كما كان مخططاً. وكان أهم توصيات المؤتمر هي:
ـ الديمقراطية للجميع، سواء من أبناء الأغلبية أو الأقليات.
ـ الفيدرالية على سبيل الاستثناء، للجماعات العرقية واللغوية حيثما يتركزون جغرافياً، ويطلبون حكماً ذاتياً.
ـ احترام الخصوصيات اللغوية والدينية لكل الجماعات التي تعيش في الوطن الواحد، دون انتقاص من حقوق المواطنة الكاملة لأبنائها ودون إخلال أو تهديد لوحدة التراب الوطني.
وكان من الذين تمت دعوتهم للمؤتمر زعماء الأقليات التي كانت تخوض صراعاً مسلحاً ممتداً مع الحكومات المركزية في بلدانها ـ ومنهم جلال الطلباني، الزعيم الكردي، الذي أصبح فيما بعد (الآن) رئيساً للجمهورية في العراق، وجون جارانج، الذي أصبح نائباً أول لرئيس الجمهورية في السودان، إلى أن توفى في حادث سقوط طائرته المروحية أثناء رحلة عودته من أوغندا، في يوليو 2005.
في كل الأحوال، كانت هذه التوصيات هي جوهر ما تم من تسويات بعد عشر سنوات، لوقف نزيف الدماء والثروات في بلدان مثل العراق والسودان ولبنان والبحرين. وما زال جوهر نفس التوصيات صالحاً لتبديد الاحتقان والتوتر في البلدان العربية الأخرى.
ومن المفارقات في هذا الموضوع أن الكاتب ذائع الصيت محمد حسنين هيكل، الذي كان من أول وأشرس المهاجمين لنا، والمنكرين لوجود أي مشكلة عرقية أو دينية، عاد إليه وعيه، بعد عشر سنوات وستة شهور، حيث اعترف في أحد أحاديثه الممتدة على قناة الجزيرة (نوفمبر2004)، بأن "مسألة الأقليات" هي أهم التحديات التي تواجه العرب في القرن الحادي والعشرين. وهذا شيء مطمئن، فالعودة للحق والاعتراف به هو فضيلة. هذا رغم أن الشيخ هيكل لم يكن في شجاعة الشاب خالد صلاح، الذي عاد هو أيضاً للحق ولكنه اعتذر عن التلكؤ فيه طيلة هذه السنوات.
ومع إكباري وتقديري للشجاعة الأدبية لخالد صلاح الشاب على الاعتذار وغفراني لحسنين هيكل الشيخ الذي اعترف ولم يعتذر، فإن أهم من هذا وذاك هو أن نواجه تحدي مسألة الأقليات في العالم العربي بشجاعة، وعقول ناضجة وقلوب رحيمة، وأن نعتذر جماعياً، لا لسعد الدين إبراهيم، ولكن لأبناء الجماعات العرقية والدينية واللغوية التي عانت لسنوات طويلة من تجاهل الأغلبية، وتعسف أو دموية معظم حكوماتنا المستبدة.
اجمالي القراءات
16996