أسباب وحيثيات تدمير الربيع العربي :
لماذا تقف السعودية وإيران مع الغرب ضد الربيع العربي
على سيرينى
Ýí
2013-08-23
علي سيريني
في عام 2011 حدث زلزال شعبي هائل، أطاح بسلطات تجثمت على صدور الشعوب العربية لعقود طويلة. الزلزال كان صادماً ومفاجئاً، أربك حسابات نظامين استبداديين في تونس ومصر، مَهدَي الثورة، فاستسلما بسرعة قياساً إلى أنظمة أخرى إرتأت الإنقضاض على الثوار بإمكانيات الدولة كلها.
قاومت الدولة العميقة والعصابات التي شكلت العمود الفقري السياسي والإقتصادي للنظامين، لكن زخم الجماهير والثورة انتصر في النهاية فأطيح برموز قلال من النظامين، واستقرت العصابات في الخفاء الصامت، تـشرأب مرارة الهزيمة، وتلملم شتاتها بعد تلقي الصدمة ومحاولة الإستـشفاء منها، وهي لا تصدق بقاءها على قيد الحياة. فمجرد بقاءها يُعد معجزة، ويُعد نصراً مظفراً لهذه الفلول وعودتها إلى ميادين السياسة بقوة ودهاء، أضيفت اليهما التجربة القاسية التي مرت بها منذ الشرارة الأولى من الربيع العربي، فعرفت كيف تلعب من جديد، لتعود من بوابة الديموقراطية التي حاول الإسلامييون إبراز وجههم بها أكثر من الديموقراطيين أنفسهم!
لكن أول الصادمين لم يكن هذه الأنظمة التي طالب الثوار بسقوطها، إنما قوى دولية، وأخرى إقليمية كانت نوعا ما بعيدة عن الجغرافية السياسية لثورات الربيع العربي، وهي دول الخليج العربي.
نشأت في منطقتنا سياسة دولية منذ عقود طويلة مفادها بقاء أنظمة إستبدادية، مقابل دورانها في فلك معين، رسمه اللاعبون الكبار في السياسة العالمية. ليس هذا فحسب، وإنما كان على هذه الأنظمة الإستيفاء بشرطين أساسيين: الأول، الخضوع للسياسات الإقتصادية التي تتضمن قروضاً دولية قاتلة، وصفقات أسلحة بالية، وثانياً إتخاذ الغرب المرجع الوحيد "الآمن" لأموال هذه الدول التي تستولي عليها فئة قليلة (عوائل حاكمة وحواشيها). لذلك بقيت هذه الدول منذ تاريخ طويل تعاني الفقر وتترنح تحت الحمل الثقيل للديون المتراكمة، التي عجزت حتى عن دفع فوائدها ناهيك عن الديون نفسها. واجهت هذه السلطات مشكلات وأزمات داخلية بالغة الخطورة والتعقيد، لم تملك إزاءها حلاً معقولاً سوى المزيد من الإستمرار في بيروقراطية فاسدة قاتلة، وقمع شديد في السجون والمعتقلات التي ظلت تتسع وتزداد عددا.
مع الربيع العربي الذي شكل ذروة إنفجار الغضب الشعبي الهائل، سقط نظامان على الفور، واستمر بعض الأنظمة في محاولة تجربة الحظ من أجل البقاء، بمواجهة عسكرية مع الحشود الجماهيرية. فنظام اليمن المستند على عرى القبلية، حاول أن يصمد أمام الحشود الهائلة، لكنه سقط في النهاية، ولم يفلح إتكاؤه على الدعم القبلي. أما نظام ليبيا، فاختار لنفسه مواجهة الحياة أو الموت، فكان الثاني نصيـبه، ولكن دون أن يترك الساحة إلا وقد حقق بعض مراده، بطعن مسموم في خاصرة الربيع العربي. تلك الطعنة التي سبّبت معضلة كبرى، تحولت إلى الورم الذي تعاني الثورة اليوم من فتكه القاتل. فالنظام الليبي، وعلى خلفيات كثيرة، أهمها مسألة الجدال العلني مع بعض الملوك والأمراء، حول وجود قوات أجنبية في مياه وأراضي الدول العربية، دخل في عداء شديد مع الدول الخليجية وتحديدا المملكة العربية السعودية. هذا العداء، شكّل هدية غير متوقعة للدول المعادية لليبيا، فأسرعَ في التعجيل الخفي لدعم دول الخليج الحربَ ضد نظام القذافي والإطاحة به. لكن الحرب على ليبيا خلقت جرثومة سرطانية في جسد الربيع العربي، أرادته دول الخليج (بإستثناء قطر والمفارقة أنها دعمت الحرب)، لأنها بذلك استراحت من هموم إمتداد الثورة إلى ديارها! والقصد أن الإندفاع الثوري الهائل الذي عم الشعوب العربية، أصابه فتور كبير نظرا لهول المأساة والخراب الذي حلّ بليبيا، والأنكى تدخل القوات الغربية المسيحية في الشأن الإسلامي!
والورم لم يظهر بتفاقمه إلا في سوريا، ليظهر جليّاً في مصر، ويفتك على عجل بالثورة لأسباب عديدة. كيف؟
واقع الثورة في سوريا يختلف عما عليه في مصر. ففي سوريا، يحكم نظام طائفي منذ عقود، هو جوهرياً إمتداد للنظام الإيراني الشيعي. لذك فإن هذا الإمتداد، مضيفاً إليه النظام العراقي وحزب الله اللبناني، دخلوا ساحة سوريا من أجل حماية النظام العلوي من السقوط. تناغم هذا الأمر مع سياسات دولية استراتيجية قديمة، حلمت وخططت لتحويل سوريا إلى دويلات متناحرة وضعيفة، للمزيد من دعم استقرار الكيان الإسرائيلي وأمنه، وإضعاف المسلمين عامة. لذلك فقد ظلت الدول الغربية تتعامل مع أفتك المجازر، التي ارتكبها النظام السوري، بدم بارد وبنفاق خبيث، لأن العواقب التي تحدثها المجازر، من تفتيت لسوريا وتضعيف لإرادة شعبها، هي التي سهر الغربُ على لياليها لأحقابٍ زمنية طويلة. هذه المجازر وفي ظل صمت دولي مريب، شجعت فلول النظام المصري السابق لإعادة حساباتها، وإعتبارها التسليم لإرادة الجماهير الثائرة منذ عام 2011 خطأً وسذاجة منها، إزاء ما حدث في ذلك الوقت. فقام (الجناحين العسكري والعَلماني) من بقايا النظام السابق وحلفائهم، بترتيب الإنقلاب على وجه السرعة، وإعمال المجازر، بعد أن اطمأنت للجانب الدولي، وخصوصا أوروبا وأمريكا اللتين مازالتا تمارسان النفاق الواضح إزاء ما يجري في مصر، من إنتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان ومبادئ الديموقراطية التي دُفنت على مرأى ومسمع العالم، عبر إنقلاب عسكري مرتدياً عباءة الثورة!
هذا الواقع الجديد أراح جهات عدة. تأتي في المقدمة إسرائيل، والدول الغربية وعلى رأسها أمريكا، وجماعات سياسية مصرية مرتبطة بالخارج وأخرى لها أجندات طائفية ودينية، فضلاً عن دول الخليج العربي بإستثناء قطر كما قلنا سابقا.
ولكن ما علاقة دول الخليج بهذا الأمر؟
تحكم دول الخليج سلطات وراثية عائلية. الضمان الأقوى لبقاء هذه السلطات تكمن في جاذبية العلاقات الدولية التي تديرها القوى الغربية. فلطالما تدفع هذه الأنظمة الجزية الرسمية وغير الرسمية للأنظمة الغربية، تحت مسميات شتى منها "الإستثمارات" والمساعدات المالية (كما حدثت في الكوارث الطبيعية)، فإن العالم الغربي يحرص على المحافظة على هذه الأنظمة للإدامة بالسياسات الراهنة. على سبيل المثال تبلغ الإستثمارات السعودية في أمريكا المئات من المليارات (أكثر من 850 مليار دولار لغاية عام 2001!)، رغم أن البطالة تبلغ في السعودية حوالي 20% ناهيك عن البطالة المقنعة، وكذلك الإفتقار للخدمات الأساسية في الكثير من أنحاء المملكة، الذي ظهر بوضوح أثناء الفيضانات التي عصفت ببعض مناطقها.
ماعدا الإعمار ومظاهر الرخاء، لا توجد البنى التحتية لقيام حضارة متينة في دول الخليج، كما هي في دول الغرب، رغم أن الإمكانيات المادية متوفرة. ومن هنا، يقفز إلى ذهن المراقب سؤال عن مصير هذه الأموال الضخمة من عائدات النفط، أين تذهب وماذا حلّ بها؟
الأموال تذهب إلى الغرب. جزء منها يُصرف لشعوب هذه الدول لترويضها وللإدامة بالحياة، دون وجود خطط إقتصادية ومشاريع مستقبلية، وجزء كبير للعوائل المالكة لتـتـنعم به، لكن معظمه يستـقر في بنوك الغرب ويضاف إلى الرأسمال الغربي.
شكّل مجئ الإسلاميين، تحديدا الإخوان المسلمين، إلى الحكم في تونس وليبيا واليمن ومصر خطراً كامناً على دول الخليج ودول الغرب أيضا. ففي العالم الإسلامي السنّي تعتبر الحركات الإسلامية هي الأكثر شعبية والأكثر رفضاً للتبعية للخارج، لأنها تعيش بهواجس تاريخية، تحمل في طياتها صراعات دموية مع قوى دولية لقرون مديدة. إن صعود هذه الحركات في قلب العالم الإسلامي يعيد بقوة إحتمال مشروع الدول/ الدولة الإسلامية التي انقطعت منذ سقوط الخلافة العثمانية قبل حوالي قرن، خصوصا مع نجاح التجربة الإسلامية التركية الجديدة. هذا الصعود يشكل خطورة بالغة التعقيد بالنسبة لعالمين معاديين للعالم الإسلامي، أولهما العالم الغربي الممتد من تاريخ إستعماري وصليبي، يتمتع بقوة آيديولوجية ومادية وعسكرية، مع حضور الهواجس التاريخية على الدوام. وبموازاة هذا العالم، يأتي أيضا العالم الشيعي الممتد تاريخياً من دول وحركات شيعية، حاربت الخلافة الإسلامية السنيّة. ويتمتع هذا العالم اليوم بمركز قوي في إيران، وإمتدادات قوية في العراق وسوريا ولبنان، مع قوة مادية وعسكرية وآيديولوجية، فضلاً عن هواجس التاريخ كما الحال لدى العالم الغربي. أما في داخل العالم السنيّ فهناك ثلاثة تيارات ضد المشروع التاريخي للعالم الإسلامي، تتمثـل في السلطات العائلية الوراثية، والجماعات العَلمانية، والأقليات الدينية والطائفية. ما يجمع هذه التيارات الثلاثة هو أنها جميعا على خصومة مع التيار الإسلامي، وكذلك لا تملك الهواجس التاريخية التي تملكها التيارات الإسلامية بالإشتراك مع العالمين الغربي والشيعي، مما يجعلها في مأمنٍ من شر هذين العالمين (الغربي والشيعي) الّذين يران في الحركات الإسلامية إحتمال المنافس المعادي لهما. وفوق ذلك، تـشترك هذه التيارات في إمكانيات مادية متفاوتة، ولكن دون وجود مركز قوي وآيديولوجية موازية لتلك التي في العالمين الشيعي والغربي. وما يجمع هذين العالمين، بالتيارات الثلاثة في العالم الإسلامي، هو الحفاظ على الوقائع الراهنة لما قبل ثورات الربيع العربي، ألا وهي وجود أنظمة إستبدادية متفرقة ومشتـتة، وضعيفة أمام الخارج، تعمل لصالح فئات قليلة من المجتمع. وإذا تعذر ذلك، فإن الإختيار الثاني هو ضرب المشروع الإسلامي الصاعد من قلب الثورات العربية، بكل قوة متاحة، وتقاسم الغنائم حسب رغبات كل جهة: الغرب يريد دولاً ضعيفة هزيلة سياسيا وإقتصاديا، لا تقوم لها قائمة إلا بالغرب نفسه، كما حدث منذ ولادة الدول الإقليمية القومية بداية القرن الماضي. الشيعة يريدونها دولاً ضعيفة وممزقة لتمكين أنفسهم فيها، مستندين على دول وقوى شيعية متماسكة (العراق وسوريا وحزب الله)، بقيادة دولتهم "العظمى" إيران، من أجل الإنفراد بمركز القوة، ودفع عامة المسلمين ودولهم نحو الشتات والتفرق والضعف. أما دول الخليج فتريد إفشال المشروع الإسلامي، لأنه في حال النجاح سيمتد إلى شعابها، وهي التي تنعم بالإستقرار الذي يمد العوائل الحاكمة بنعيم السلطة منذ عقود طويلة. وكلّ همّ العلمانيين هو الظفر بالسلطة، بأي وسيلة شرعية أو غير شرعية. ولا مشلكة لديهم مع الغرب، بل وحتى مع إسرائيل. أما الأقليات الدينية، مثل الأقباط والعلويين والشيعة، فمشروعها التاريخي هو إقامة دول لهم على أرض مصر وسوريا، للتخلص من هيمنة "التطرف الإسلامي" حسب تسميتها.
في سوريا تُستنزف طاقات المشروع الإسلامي، لأن أهل السنّة يُحاربون في عقر دارهم من قبل العالم الشيعي وبدعم ورضى العالم الغربي بشقيه الروسي والأورو-أمريكي، مما حول سوريا إلى خراب بائن بعد أفغانستان والعراق، حيث أقصي الجوهر والهيمنة السنّيين في كلا البلدين. وفي مصر (قلب العالم العربي والإسلامي) نجح الإنقلاب الذي أطاح بالأكثرية، وأوصل بالفلول إلى سدة الحكم، عبر مجازر شملت الديموقراطية نفسها، من أجل القضاء على هذا المشروع المنشود أو على أقل تقدير تأخيره أطول قدر ممكن!
والمفارقة أن السعودية تساند الجماعات الإسلامية المسلحة في سوريا لأنها بذلك تضرب عصفورين بحجر واحد. فمن جهة تبعد الخطر الإيراني على الخليج، بإستدراجها، وإستدراج أذرعها، إلى الساحة السورية، ومن ثم ضرب أعدائها اللدودين من الإسلاميين السنّة في إلهائهم في الساحة السورية، ونسيان التفكير في الثورة في دول الخليج المستقرة في الحضن الأمريكي الدافئ! فكما حوّلت أمريكا ودول الخليج أفغانستان إلى خراب ودمار، بعد الإحتلال السوفيتي، فإن الآية تتكرر في سوريا ومصر. وتزامنت هذه الإستراتيجيات مع إلقاء القبض على المئات من قادة وأعضاء الإخوان المسلمين في الإمارات، كعملية وقائية لأي تغير محتمل في ميزان القوى. وعدنا مبدئياً إلى ما قبل عام 2011، حيث هناك تعدد القوى ومناطق نفوذ متقاسمة بين قوى إقليمية ودولية. ويبدو أن الأمر شبيه بإتفاقية سلام بين أعداء خاضوا غمار الحرب فلم ينتصر أحد، وتعاهد الجميع بالإحتفاظ بمواقعه الأصلية والعودة إلى الحدود التي سبقت الحرب. فدول الخليج اطمأنت إلى إبعاد خطر إيران من جانب، والمشروع الإسلامي السني الصاعد في المنطقة من جانب آخر. واحتفظت إيران بالعراق ولبنان وسوريا (قبل قيام الدولة العلوية القادمة). وظلت المصالح الغربية، ورؤوس الأموال والجزيات المنقولة إلى دول أمريكا وأوروبا، في مأمن من أي خطر محتمل. وأصبحت حدود إسرائيل أكثر تحصناً من السابق!
وتنفّس الجميع، من أعداء المشروع الإسلامي، الصعداء بعد هلع دام منذ عام 2011. لذلك لا غرابة أن تعم الأفراح إسرائيل ودول الغرب والأوساط الشيعية، وأنظمة الحكم في الخليج العربي، والجماعات المصرية (أغلبها فلول نظام حسني مبارك) التي خسرت الإنتخابات، فعادت إلى السطوة بحبل من الخارج وحبل من العسكر.
أما التيار الإسلامي، فكانت لديه شعبية كبيرة، وكذلك الآيديولوجية. لكن ما كان ينقصه في التحول إلى منافس للعالمَين المعاديين له، هو القوة الماديّة والعسكرية، أراد التمكن منهما، لكن الإجهاز المبكر للقوى الدولية والإقليمية والمحلية عليه، حال بينه وبين الظفر فخسر الجولة إلى حين!
15 أغسطس 2013
اجمالي القراءات
10510