جريمة العالم في سوريا
مشهد أليم نقلته الفضائيات العالمية بموت اكثر من 70 مهاجراً في شاحنة على حدود النمسا، وعند فحصهم تبين أنهم ماتوا اختناقاً وأنهم سوريون، مشهد آخر امرأة سورية تُقبّل يد مجندة مقدونية للسماح لها بالعبور والهرب من جحيم المعارك، مشهد ثالث سوريون يشحذون في شوارع تركيا ولبنان، مشهد رابع مهاجر سوري يبكي على الشاطئ وهو يحمل إبنته خوفاً وهلعا..مشهد خامس رجل سوري يبيع أقلام في الشوارع ليُنفق على أسرته..مشهد سادس أطفال سوريون غرقى على سواحل ليبيا..
البداية كانت في مارس 2011
قبل هذا التاريخ كان السوريون يعيشون كغيرهم من الشعوب(المستقرة) لا خوف.. لا فقر..لا إرهاب ..برامج تنموية..مشاريع اقتصادية ولكن فجأة ..جاء الغراب ينعق على المدن ويُبشر أهلها بالخراب..
غُراباً يختلف عن بقية الغربان..هذه المرة الغراب كان بلحية ويتحدث بالكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح ويُبشر الأهالي بنعيم الخلافة الراشدة وبساتين الحدود وحدائق الشريعة الغنّاء، وجد الغراب من يرحب به ويُدخله داره آمناً، صدّق الغراب نفسه فانتشر في الأرض داعياً لمنهاج الله والدين الحق، وأن الحكومة السورية هي عدو هذا الدين ونصيرة الباطل، وأن على السنة التوحّد في وجه الحكومة التي تفضل (النصيرية) عليهم وتُعطي لهم المناصب وتنفق عليهم ببذخ وتسرق خيراتهم وتُعطيها لإيران وحزب الله..
حتى كانت الضربة القاضية
خريف عربي بدأ في تونس وحط رحاله في مصر وعلى السوريين الاستعداد للمعركة، فقد جاء الوعد الحق وأن على المسلمين الجهاد وعلى السنة التوحد في وجه قوى الشر والعدوان..!
قامت الثورة السورية الملعونة بشعارات طائفية وهتافات عنصرية متوعدة بالويل والثبور وعظائم الأمور لمن يخذل هذه الثورة (المقدسة) التي بشّر بها رسول الله قبل 1400 عام، وأن على المسلمين في كل بقاع الأرض دعم إخوانهم المجاهدين في سوريا بالمال والسلاح، والأعظم من ذلك جهادهم بالنفس، فجاء الأفغاني والشيشاني والسعودي لينالوا حظهم من الجنة الموعودة، وبدلاً من كونها (ثورة سورية ملعونة) أصبحت (ثورة جهادية ملعونة)..
على الجانب الآخر مجموعة رجال بملابس أنيقة (وكرافتات) شيك وكلام مُنمّق وثقافة (مغشوشة) تصدروا الإعلام العربي وأطلقوا على أنفسهم (ثوار سوريا) وشكلوا أول مؤتمر لهذه الثورة الملعونة في تركيا، حذروا فيه الرئيس الأسد من البقاء وأن أيامه معدودة، وأن العالم (الحر) لن يسمح له بالبقاء.
كان مشهداً معبراً عن أزمة تنخر في الضمير والعقل العربي، إرهابيون يُقاتلون جيشاً نظامياً وتساعدهم أقوى آلات الحرب الإعلامية في العالم، ومجلس أمن تحكمه الولايات المتحدة، وجامعة عربية يحكمها (سفهاء) السعودية وقطر، كان مشهداً مُحزنا ويُنبئ عن مستقبل بشع لهذا الشعب (الغير محظوظ) فقد أوهموه أن ما هي إلا أيام ويسقط الأسد ويعودون إلى ديارهم، لكن عليهم النزوح من قُراهم كي يؤمن العالم بقضيتهم ..هكذا فكروا وخططوا فكانت النتيجة على غير ما يتوقعون..!
ظهر أن من يموّل هذه الحرب ضد الجيش السوري هم أعداء سوريا نفسها من أقطاب عالمية كأمريكا ومن أدواتها في الخليج، وأن المقصود ليس النظام الذي كانوا يؤمنون بقوته ودعم شريحة كبيرة من الشعب له، بل المقصود هي الدولة نفسها عليها أن تزول وتتفكك إلى عدة دول، وينتشر الإرهاب وتضعف جبهة الممانعة ضد أمريكا عالميا وضد إسرائيل إقليمياً..
استعملوا ضد سوريا أبشع أنوع الحروب الطائفية والمذابح وتصويرها لإرهاب الشعوب..ساندهم في ذلك إعلام طائفي وألكتروني قوي ما لبث أن فرض سيطرته الإعلامية ونشر فكرة مرادها أن (الجيش السوري) هو كتائب الأسد الشيعية التي تحارب أهل السنة، رغم أن هذه (الكتائب) يرأسها وزير دفاع سني، وقبل ذلك كان وزير دفاع مسيحي، ومخابراتها الحربية والعامة يرأسها مُدراء سنة، في مشهد (مُضحك) ينم عن سفاهة القوم وسذاجتهم أمام عظمة وتنوع الدولة السورية وريادتها في النظام العلماني..
اجتمع مجلس الأمن عدة مرات وفشل في إصدار قرار لوقف الحرب وفرض السلام، والسبب أن القوى العالمية والإقليمية رفضت الخروج من اللعبة دون مكاسب، تاجرت أمريكا بالحرية وتاجرت روسيا بالإرهاب ، وتاجرت السعودية بالسنة وتاجرت إيران بالشيعة..
أرسلت الجامعة العربية لجنة تقصي حقائق في سوريا للوقوف على الوضع الميداني وتحديد أصل المشكلة، كان هدفاً ظاهريا يخفي باطنه هدف دنئ وهو إدانة بشار الأسد وبالتالي فاللجامعة الحق في حشد الجيوش لإجباره على التنحي، ولكن كانت نتيجة اللجنة صادمة لأمريكا والسعودية وتركيا، شهد رئيسها الفريق السوداني (الدابو) أن سوريا فيها حرب أهلية ومجازر جماعية من الطرفين، وبالتالي سقطت فكرة (الثورة الشريفة المظلومة) التي روج لها سفهاء الخليج ..
كانت النتيجة مباشرة إقالة الفريق الدابو واتهامه بالرشوة
لكن في هذه المعمعة أين مصر؟
مصر كانت في مأمورية ضد الإخوان ونصب الشراك لهم، ولن يُسمح لها بالتدخل القوي والفاعل ما دام للإخوان سلطة سياسية أو إرادة شعبية.
في ظل هذه المعارك لم يسأل أحد..ما مصير الشعب السوري؟..أين حقوقه؟
لم يهتم أحد بالسؤال، فالرئيس السوري عرض عليهم في بداية الحرب خطة سلام رفضتها ممالك الخليج ..وحل سياسي رفضته أمريكا، وبالتالي فعلى الجيش السوري حسم الوضع الميداني فلا أمل في السلام ولا بشائر له في المستقبل القريب..ولا يمكن له تسليم سوريا لجماعات إرهابية تقاتل بعضها على الدين وينصبون المشانق للأقليات ويتعدون على دول وشعوب الجوار ..تصبح معها سوريا بدلاً من كونها دولة علمانية تصدر الثقافة إلى العالم إلى دولة دينية تصدر الإرهاب..
مرت السنوات حتى صحا العالم على مشاهد السوريين المؤلمة ..شعب مدمر نفسياً وماديا..دولة مفككة..إرهاب منتشر..تسلط ديني وقمع مذهبي على أشده..حمل البعض على تغيير موقفه والبعض الآخر على تعديله بأمل حصار الكارثة أو الحد من انتشارها، في المقابل تعنت سعودي وأمريكي وإصرار على دعم الإرهاب والمزيد من التدمير..
لكن في ظل هذا المشهد خرج لأول مرة من ينادي بالسلام في قاعات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وبدلاً من حشد القوى والمؤتمرات للحرب على سوريا ظهر نداء السلام ولكن كما يُقال...بعد خراب مالطة..
أكثر من أربع سنوات من الحرب والتدمير والشحن الديني والسياسي وفي الأخير يؤمن بعضهم بالسلام..أين كانوا طوال هذه المدة ؟؟ ربما موقف السعودية وأمريكا هو الأفضل اتساقاً مع نفسه، حيث آمن بدعم الإرهاب وتدمير الدولة من البداية إلى النهاية، وإلى الآن يرفض أي حل سياسي على قواعد الديمقراطية وحق انتخاب الشعوب ، ويصرون على دعم الجماعات بالمال والسلاح والإعلام، وطالما يوجد أمريكا والسعودية مباشرة تُذكر إيران وروسيا كمعادل إقليمي ودولي في هذه الحرب..
إن مأساة الشعب السوري لن يمحوها الزمن، فهي ليست أقل من مأساة الحروب العالمية، أكثر من 300 ألف قتيل و4 مليون لاجئ و10 مليون نازح وتدمير مئات القرى والمدن والأحياء، وتدمير آلاف المدارس والمصانع والمستشفيات، بل تدمير الآثار والكنوز التاريخية..في كارثة تم وصفها بأنها أبشع كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية..ويعيش الضمير العالمي الذي لم ولن يكتفِ بهذه الحرب لتستحق سوريا أنها.."جريمة العالم بامتياز"..!
اجمالي القراءات
9757