خدعوك فقالوا الإسلام والعلمانية (3)
من المثاليات في الفكر الديني هو الاعتقاد أن الدين خالي من الخرافات والأباطيل، وأن الدين منفتح على كل العلوم ، وأنه خالي من الكهنوت ومن أي سُلطة مقدسة، وأن الدين في مجمله يتفق مع الحضارة وتطور العلوم، هذه حجة من يرى في دينه نظام حياة شامل بما فيه الحُكم والإدارة، ويُنظّر لذلك ويكتب المقالات والكتب التي تدعم رأيه، رغم أنه لم يُجِب على سؤالين رئيسيين:
1-هل ما تدعوه.."بالدين"..هو نسخة بشرية أم إلهية؟..يعني هل هو اعتقادك أنت أم أنك اطلعت على دين الله في حقيقته المطلقة؟
2- هل هذه الفكرة عن الدين تتعارض مع الحقائق السياسية أو العلمية؟
دعونا نناقش السؤال الأول: مسألة خلو الدين من الخرافات والأباطيل هي مسألة نسبية، حيث المسلم يرى المسيحية خرافات والعكس، والسني يرى الشيعية خرافات والعكس، ماذا سنفعل لو تواجد هؤلاء جميعاً في وطن واحد؟
لو قلنا حينها أن دين الأغلبية هو السائد بثقافته ورفضه لخرافات الآخر ستكون الأقليات مضطهدة ، وسيَعم الظلم أرجاء الوطن وتنتشر الفتن الطائفية وتسود الكراهية، أما لو قلنا أن الدين للفرد أما الدولة للجميع فيعني أن الكل واحد أمام القانون، لا فرق بين مواطن وآخر بسبب جنسه أو معتقده..وهذا بالضبط ما تنادي به العلمانية، وهو الغرض من رفع نداء.."ضرورة فصل الدين عن الدولة"..كونه نداء للصالح العام وأن لا يكون للظلم موطئاً في أرضهم.
شئ آخر أن كل ما يملكه الإنسان من فكر ديني هو في مجمله نسخة بشرية ليست إلهية، وهذا يعني استحالة الوصول إلى الدين المطلق الإلهي كون تحقيقه يلزم وحدة البشر وهذا مُحال، لذلك جاء في الأمر الديني أن الوحدة من الله وإليه والتفرق من الشيطان وشذوذ عن الحق ومدعاة للظلم، وفي الإسلام نصين شهيرين يختصران أزمة الفكر الديني بالعموم..
الأول:.." لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون".. [المائدة : 48]
الثاني:.." شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب".. [الشورى : 13]
فالنص الأول يُوجب مجاهدة النفس والدعوة للوحدة مع تعدد الشرائع، وهذا لن يكون إلا بالتسامح وقبول الآخر، أما النص الثاني فيعني أن إقامة الدين وعدم التفرق فيه لشيع وأحزاب هو من شرع الله، والفكر الديني بالعموم يعاني من هذه المعضلة، أي لايؤمن بالتسامح والقبول، ويرى في ذاته التفرد والأنانية، كذلك تحريفه لشرع الله بدلاً من أن يكون بمعنى الوحدة جعله بمعنى التفرّق، فأنتج لدينا مئات المذاهب والأديان الفرعية تحارب بعضها بعضاً ويقتل الجميع الجميع.
أما الإجابة على السؤال الثاني وهو عن حقيقة تعارض الفكرة الدينية مع الحقائق السياسية أو العلمية، مع الانتباه أنني استخدمت مفردة.."الفكرة الدينية"..وهي تعني فكرة الشخص أو النسخة البشرية عن الدين، لا أتكلم عن الدين نفسه.
والإجابة على السؤال تتلخص في صراع المثالية مع الواقع منذ زمن أفلاطون وإلى الآن، فالمثالية تعني الخيال عكس المادية التي تعني الواقع، فحدث صراع بين الخيال والواقع أنتج لدينا ليس فقط صراعاً فكرياً بل صراعاً حربياً شرساً أفنى الملايين، هذا لأن الدين لو تم حصره في الخيال يكون قد طابق مذهب أفلاطون القائل أن الحقائق مصدرها العقل وما لم يوجد في العقل لا وجود له، وأن عالَم المُثل الأفلاطوني يجب أن يسود فيه الحكماء على الجهال والأقوياء على الضعفاء، ومن هذا العالَم الأفلاطوني نشأت بعض النُظم الاستبدادية القديمة والمعاصرة.
الفكر الديني حتى الآن يتعامل بمنطق أفلاطون، أنه لا سيادة لجاهل على عالِم، والعلماء في الفكر الديني يُرمز دائماً لهم.."بالفقهاء وأهل الحل والعقد أو المتخصصون أو الشيوخ"..لذلك فالفكر الديني لا يهتم بالواقع أكثر مما يهتم بالتنظير لفكرته عن القيادة والسيادة، ولم ينتبه رواد الفكر الديني أن لفظيّ.."جاهل وعالِم"..هما نسبيان، أي من هو عالِم عندي هو جاهل عندك والعكس، مع تفرق المتدينيين لشيع وأحزاب تكون قد اكتملت الكارثة وعنها تشتعل الحروب وتتفشى المظالم.
قد يكون أفلاطون معذرواً حين نادى بالمثالية الاستبدادية حين رأى أستاذه .."سقراط"..يُقتل شهيداً بسبب نقده للديمقراطية وحُكم الشعب للشعب، وقال كيف يتساوى رأي الجاهل مع رأي الحكيم؟..فالديمقراطية تُساوي بين الاثنين، أما المدينة الفاضلة لا سيادة فيها إلا للفلاسفة.
يكفي القول أن كوارث.."الربيع العربي"..حدثت بسبب هذا المنطق المثالي والروح الأفلاطونية التي هدمت الواقع لصالح صور خيالية ذهنية لا وجود لها على الإطلاق، فالخلافة الإسلامية هي صورة مثالية لا وجود حقيقي ، والشريعة كذلك مفعمة بالروح الأفلاطونية، وقصة الصراع السني الشيعي هي بالأساس قصة مثالية ترى الآخر متمرد شرير، وحين ترى الواقع مختلفاً تُنكره وتسعى لتصحيح هذه الصورة الذهنية باستفزاز الآخر أو العدوان عليه كي يرد الاعتداء وحينها تصدق الصورة الذهنية السابقة.. وعنها تُبنى العديد من نظريات المواجهة، وأكثر من يقع في تلك الآفة هم المتعصبون وأمراء الحروب.
العلمانية ليست فكراً حتى تتعامل مع المنطق الديني بتنظير هذه الصور المثالية، فهي في الأخير لا تهتم بها ولكنها تتعامل مع حالة وهي.."الاستبداد الديني"..أي لو لم يُوجد هذا النوع من الاستبداد فلا داعي للمبدأ العلماني وفصل الدين عن الدولة، وهذا يعني أن العلمانية هي مجرد قرار أو حالة طوارئ لرفع الظلم عن بني البشر، أما مفرداتها ومشتقاتها.."كالليبرالية والديمقراطية..إلخ"..هي أفكار ومناهج ومذاهب متباينة حسب طبائع وأعراف الشعوب.
أوضح مثال على ذلك أن الليبرالية الأمريكية –كأسلوب- تختلف عن الليبرالية الأوربية..يختلفون جميعاً عن الليبرالية في الهند أو في الشرق الأوسط، لكن مبدأها العلماني واحد وهو ضرورة تعايش الجميع بغض النظر عن أجناسهم ومعتقداتهم، فالمجتمع الأمريكي أشد محافظة من نظيره الأوروبي، وقد عانى الأمريكان من نزعات عنصرية ضد السود وضد النساء نتج عنها في الأخير عودة وتكفير عن هذه النزعة بسن قوانين تُعطي حقوق خاصة لتعليم السود والنساء، أما المجتمع الأوروبي فليبراليته أشد انفتاحاً وهو ليس بحاجة لسن هذه القوانين الآن رغم وجودها كإطار ورسوخه كحالة بدهية.
أما ليبرالية الشرق الأوسط فما زالت تعاني من تسلط وقهر الفكر الديني، وكلما حاولت الفكاك من هذا القهر تضل أحياناً عن الأسلوب الأمثل.. قد ينتج عن محاولتهم ردة عن مبادئ الليبرالية وتقرير الحريات الفردية، ولنا في شيوع العنصرية والطائفية عند بعض مثقفي وليبراليي العرب مثال، حتى أضحى من الصعوبة أن تُميّز بين الأصولي والليبرالي حين يتحدثون في قضية ذات ملامح طائفية أو عنصرية، ولمن يُتابع حرب اليمن الآن ويسمع لبعض المُنظّرين الليبراليين لها يفهم كلامي، ويثبت لديه أن الفوارق المعرفية بين الأصولية والانفتاح هي فوارق هشة..ضئيلة..تزول حتماً فور إعلاء جانب الهوية.
اجمالي القراءات
6730