خدعوك فقالوا الإسلام والعلمانية (2)
توجد مقابلات لا داعي لها أو تنم عن جهل بالمفاهيم..من هذه المقابلات ما نحن بصدده وهي.."الإسلام والعلمانية"..هذه مقابلة ظالمة وغير صحيحة منطقياً، فالإسلام دين..والأديان بالعموم مطلقة عند أصحابها، أما العلمانية اتجاه سياسي، والسياسة بالعموم نسبية وكما يُقال أن السياسة بُنيت على الخلاف، فلو جرى توظيف العلمانية لصالح التدين سيكون التدين أسوأ شئ في الوجود، حيث سيُصبح الدين –حينها-مهلكة للبشر، وبدلاً من أن يكون الدين قيمة وحدوية أصبح مدعاة للتفرق وللحروب.
كذلك فتلك المقابلة تضر الإسلام وتجعله في صراعٍ دائم أمام نُظُم ناجحة ، حيث تُوجد نُظُم علمانية أنتجت حضارتها وحداثتها بنفسها دون الاعتماد على الإسلام ..مثل الحضارة الغربية وكذلك الهند والصين واليابان، حينها لو قابلنا هكذا.."بين الإسلام والعلمانية"..نكون قد ظلمنا الإسلام كدين كونه موضوع كتحدٍ أمام نجاحات العلمانية في دولها.
حقيقة أن تلك المقابلات ليست جديدة، وهي وريثة فكر عربي منحط ظهر إبان صدمة الحداثة، فجرت مقابلات كالإسلام والمعاصرة، الإسلام والليبرالية، الإسلام واليسار، الإسلام والشيوعية، الإسلام والرأسمالية والاشتراكية...هذه كلها مقابلات تنم عن جهل مدقع أولاً بالإسلام-كدين-ثانياً بتلك المفاهيم ابتداء، وفي تقديري أنها من صناعة فكر ديني متأثر بمفاهيم التراث .
وأوضح مثال على ذلك كل من يؤمن بموضوعي الخلافة عند السنة والإمامة عند الشيعة لن يقبل بنُظم سياسية وإدارية أخرى، لذلك فتلك المقابلات ظهرت في الفكر السياسي السني والشيعي معاً، ولا عجب أن أشهر من يروّج لها هم المتحدثين الرسميين باسم المذاهب كالسعودية وإيران، أو السلفية والإخوان، أو بعض مفكري الشيعة الذين هالتهم الفجوة بين الغرب والمسلمين.
هذه المقابلة.."الإسلام والعلمانية"..هي مجرد رد فعل على نجاحات العلمانية في دولها، فاستعاد المسلمون ذاكرتهم التاريخية وعملوا على إحياء التراث في مواجهة ما أنتجته العلمانية من حداثة.
بينما المسلمون وفي نشوة استعادتهم للتراث لم يعوا أن هذا التراث غير صالح لزمانهم، سواء كونه محكوم بأجواء زمانية ومكانية، أو أنه يدعو للعنف والكراهية والعنصرية، وهذا يفسر شيوع الكراهية والطائفية بين المسلمين بالعموم والعرب بالخصوص، كل هذا منتوج تراثي يفقهه أولى التنوير والحداثة الحقيقيون، الذين فطنوا لموضع الداء وعلموا أنه لا أمل في حداثة أو عدالة إلا بمواجهة هذا التراث ودعاته والحد من استعاداته كمشروع ثقافي بدأ في منتصف القرن العشرين ولا زال يعمل بكامل نشاطه إلى الآن.
لقد أحدث هذا التراث عمليات تحلل للمجتمع العربي بدأت بانتفاضات سياسية وفوضوية وحروب عشوائية إلى أن وصل إلى محطته الأخيرة الآن من حروب مذهبية في سوريا والعراق واليمن، كل هذا من أثر غياب العلمانية (كثقافة) وكمشروع تنوير لدى العرب، نعم يوجد دعاة لها ولكن ليسوا بالمستوى المعرفي ولا بالشجاعة على أن يعلنوا مواجهتهم الصريحة مع عدو العلمانية الأول وهم.."كهنة الأديان"..فاستسلموا للقمع الفكري والسياسي وفضّلوا الاحتفاظ بمعارفهم داخل غرف مغلقة لا أثر لها إلا على أنفسهم.
فَجَرَت استعادة جرائم التاريخ واعتبارها دين كجريمة.."سمرة بن جندب"..في أهل البصرة وإعدامه لثمانية آلاف من أهلها كما روى الطبري في تاريخه (4/176) وطالما هم أهل البصرة العراقيون فتم تبرير الجريمة على أنها لشيعة ، وبالتالي ساد في الوسط السني -وبعد استعادة هذا التراث الإجرامي- أن قتل الشيعي حلال..
الأغرب أن هذه الجرائم التراثية جرت استعادتها في سياق.."التسامح والرحمة"..وهذا غريب ، كيف لجريمة أن يُقتل فيها العشرات أو الآلاف أن تكون في سياق الرحمة، هذا انفصام عقلي وشطط أصاب الشيوخ وكهنة الأديان بالتوازي مع صدمتهم الرئيسة في الحداثة، وقد عبّرت داعش عن هذا الانفصام بإحدى تسجيلاتها في إعدام أقباط مصر في ليبيا وكلمة رئيسهم.."لقد جئناكم بالذبح رحمةً للعالمين"..!!
إذن فتلك المقابلات بين الإسلام والمفاهيم الحداثية هي أثر طبيعي وتطور لأفكار المسلمين حدث آلياً بعد استعادة التراث وجرائمه، فانشق المسلمون إلى فريقين ، الأول يؤمن أنه لا سبيل لمواجهة الحداثة إلا احتوائها بالتنوير وفصل الدين عن الدولة ..وهؤلاء كانوا من النُخَب المثقفة والأعيان وعليها تمت صياغة الدساتير، أما الفريق الثاني فكَفَر بما آمن به الفريق الأول، فأطلق شرارة التمرد على الدساتير وكل المفاهيم الحداثية، وأعلن أن القرآن هو الدستور الوحيد وأن الإسلام برئ من خطايا الحداثة والانحلال الخُلقي أو جرائم الحضارة الغربية ..وهؤلاء كانوا من الشيوخ وكهنة الدين الذين نجحوا في حشد طاقات الشباب لمشاريعهم الدينية.
وهكذا اختزل الشيوخ الحضارة الغربية في الانحلال الخلقي وجرائم الحروب العالمية..وتم إلصاق هذه الاتهامات في العلمانية كونها المنتج الأهم لتلك الحضارة-حسب رأيهم- ولم يُجب الشيوخ عن أن جرائم التراث واستعادته تسبب في قتل ملايين المسلمين في سوريا والعراق وإيران، أي أنهم ليسوا أفضل حالاً من هتلر وموسوليني، ولم يُجيبوا كذلك عن النماذج العلمانية التي نجحت في نشر السلام ونُصرة المستضعفين وشيوع العدل، حتى حقوق الطفل والمرأة وتخصيص هيئات مستقلة لهم في الأمم المتحدة هي منتوج علماني بالأساس..
اجمالي القراءات
6818