وقفات مع الفكر الأزهري
الأزهر في مصر يدين بالمذهب الأشعري في العقائد والشافعي في الفقه، وعلى هذا الطريق منذ انتقاله في زمن الأيوبيين من المذهب الشيعي الإسماعيلي وفقه جعفر الصادق، والمذهب الأشعري هو مذهب عقائدي يؤمن بالتأويل لفهم المتشابهات في الإسلام، سواء قرآن أو أحاديث وأخبار، يعني عمل التأويل بشكل أساسي هو في النصوص الغير واضحة، أو التي لها دلالات ومعانٍ مُتعارضة مع صريح الدين..
والتأويل له آداة مشهورة في اللغة العربية يجري استخدامها عند الحاجة وهي آداة.."القرينة"..وتعني دليل يُعرف بالقياس من غير محل، أي لو أرادوا إثبات شئ لا دليل عليه يأتون بدليل آخر على نفس الرتبة أو النوع في محل آخر، هذا الدليل الآخر هو لديهم.."القرينة"..ويستعملونها غالباً في الدفاع عن التراث وتسويق رؤيتهم للجماهير الغير مثقفة..
كمثال
لو أرادوا إثبات سحر النبي لأجل تصديق حديث البخاري يأتون بقوله تعالى.." فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى" [طه : 66]..فثبت لديهم أن موسى سُحِر فلا مانع من سحر باقي الأنبياء، لكن دفعاً للشُبهة يقولون أن السحر المقصود لا يمس العقل ولا الوحي ، وهي طريقة في التأويل تذهب لمُراد المتكلم الهدف منها أن يخرج البخاري وغيره أبرياء من إلصاق تهمة السحر..
هذه الآية هي لديهم.."القرينة"..على تأويل كلام البخاري.
والجواب على ذلك: أن سحر التخييل في الآية لا علاقة له بالجوهر ، فهو من قبيل خفة اليد والخداع البصري المشهور عند السحرة، وهذا النوع يسحر العين كما في قوله تعالى.." فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم "..[الأعراف : 116]..
وهذا يعني أن سحر موسى كان سحر عين لا عقل...
أما حديث البخاري فيقول باللفظ:
"سُحِر النبي حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله"
والتخييل هنا واضح أنه يمس العقل، والدليل أنه أصاب فعل النبي نفسه وليس مجرد بصره، وهذا تجويز لأن يفعل النبي أفعالاً لا يدريها أو يفقه عواقبها، فما الذي يمنع أن يكون القرآن الذي أنزل عليه من قبيل ذلك السحر، أو أي عمل فعله الرسول لم يكن يقصده..!
فالقرينة التي جاءوا بها ليست محل ولا موضع نزاع، فالقياس فاسد إذاً، واستقراءهم للمسألة بالكامل لا معنى له.
هذه طريقة الأزهر التأويلية، وهي طريقة يصعب معها الوصول إلى اتفاق، ورحم الله جدي كان يقول.."الكلام مثل حبال الصوف لا أول له من آخر"..والمعنى أن لكل سؤال جواب ليس بالضرورة أن يكون منطقياً، ولكل مسألة فهم لا يشترط أن يكون صحيحاً، وفي المجالس العُرفية للفلاحين عندما يريدون الاتفاق على حل لمشكلة ما يكون الكلام فيها قليل ومُنظّم لأقصى درجة، فكل كلمة قد تفتح معها أبواباً تُفسد القضية والهدف منها..
غالباً هم يلجأون في الدفاع عن البخاري لكلام.."ابن حجر العسقلاني"..المتوفي عام 852هـ، وهو أشهر وأكبر شارح للبخاري، وكتابه.."فتح الباري"..مرجع دائم وملاذ لكل الشيوخ في تصديهم للتنويريين ودعاة تجديد الخطاب.
وابن حجر كان أشعرياً يؤمن بالتأويل، والأزهر ورث مذهبه في الدفاع عن التراث بشكلٍ كامل، وفي عقيدته نزاع بين الأشعرية والسلفية في الصفات الخبرية والتفويض شأنه كشأن ابن كثير والنووي، لذلك ينتسب إليه الأزهر والسلفية وغالباً ما ينقلون كلامهم للرد على المنتقدين، وهذه الجزئية التي اشتبهت على البعض بتحالف الأزهرية والسلفية، فكلاهما ينقل كلام ابن حجر بالحرف، أي كان الرجل لديهم مرجعية..اختلفوا في أشياء كثيرة واجتمعوا عليه..
لكن لو علمنا من هو ابن حجر العسقلاني والعصر الذي عاش فيه نعلم لماذا يقدس الأزهر والسلفية أفكاره وطريقته في الدفاع عن التراث، فابن حجر عاش في أحلك عصور المسلمين انحطاطاً وهو عصر المماليك، وفي عصره كان البخاري معبوداً بلا مبالغة، وكانوا يقرأون كتابه ويحفظونه كالقرآن، ويتبركون به في الأزمات والحروب، وكانت منزلة الشيوخ تعلو عند الحاكم كلما كان يحفظ البخاري، ويتقلد المناصب بالدفاع عنه وتبرير أخطائه، فلو علمت أن ابن حجر كان قاضياً في دولة المماليك وفقيهاً خاصاً للسلطان المملوكي لزال العَجَب...
بالمناسبة كانت عبادة البخاري عند الشيوخ قائمة إلى وقت قريب وبالتحديد في عصر الخديوي إسماعيل، وتلاوته كانت تعادل تلاوة القرآن، وينقل المؤرخون أن شيوخ الأزهر قرأوا البخاري ضد الانجليز في معركة التل الكبير عام 1882مـ ، فكانت الهزيمة الساحقة لأحمد عرابي، واستغرب الشيوخ كيف يقرأون البخاري ويتوسلون ببركة هذا الكتاب ثم يُهزمون بهذه الطريقة..!
وإلى الآن لا زالت بعض الدول والشعوب تتلو البخاري في جلسات سنوية وتُعطي هدايا قيّمة لحفظه، وكله سلوك موروث منذ زمن المماليك، لكن في الأزهر انتقلوا من فضائل حفظ صحيح البخاري إلى فضائل أخرى تعني في المقام الأول تسويقه وتقديمه للجماهير ككتاب يُعادل القرآن بل يعلوه ويهيمن عليه في مسائل...ومن شدة تعصب الشيوخ للبخاري وعبادتهم له جاء المَثَل الاستنكاري الشهير.."هو احنا غلطنا في البخاري؟!"..فعقول المسلمين وغير المسلمين منذ القدم وهي تستشكل على هذا الكتاب وتُعلّق على الطوام الذي يحتويها، فيرد الشيوخ بتعصّب مبالغ فيه وتهوّر في التكفير وإطلاق الأحكام المعلبة والاتهامات المبطنة.
هذه كانت لمحة عن طريقة تفكير الأزهر إيماناً منا بأن فهم الآخرين يأتي بفهم الخلفيات الفكرية والمراجع المعرفية، وتاريخ هذه الأفكار والطُرق بالتراكم، فكل واقعة حدثت قديماً صنعت جذور لواقعة تليها حتى ورثنا هذه الوقائع والمرجعيات كما هي وبنفس الظروف التي نشأت فيها، حتى استدعاء الزمن نفسه حدث بطريقة مذهلة، فمن أراد أن يُشاهد الفتنة الكبرى أو جرائم الأمويين فليُشاهد ما تفعله داعش، ومن يريد معرفة كيف كان الشيوخ في القرون الوسطى وكيف تصدوا للمصلحين وقتلوا المفكرين فليشاهد ما يفعله الأزهر ودعاة السلفية إلى اليوم.
اجمالي القراءات
7040