صفحات من تاريخ التنوير (2)
إن الشعب المصري بعد ثورة يونيو قد تسلح ليس فقط بثورة سياسية ولكنها مقدمات ثورة فكرية على جماعة دينية، كان يراها سابقاً أن لديها مشروعا ًدينيا يُحقق له طموحاته، وحين اختلف معها لم يرَ الفارق بين المواجهة الأمنية والمواجهة الفكرية، فاعتقد أن الحل الأمني كافٍ للقضاء على الجماعة، وهذا خطأ تبين له عقلاء الشعب بعد ذلك، وفطنت له دوائر صُنع القرار، ليُعلن الرئيس السيسي ولأول مرة كزعيم مصري ضرورة.."تجديد الخطاب الديني"..كحل أصيل لمشكلة التطرف واستغلال الصراع الديني في السياسة.
وهو ما يعني مراجعة الثقافة الدينية الحالية ليس بأقل من إعادة ترميم الشرخ بين القول والعمل، أيضاً يعني ضرورة وجود أساليب عملية وتدين صحيح خالٍ من العنف والتكفير، وبما أن التراث يعجّ بفتاوى التكفير والكراهية فالأولى حين نريد تجديد الخطاب الديني أن ننظر في ذلك التراث، ونعمل على تنقيته وعصرنته ليُلائم الواقع، أو على الأقل إيجاد صورة تدين وعلم بديلة تضع التراث بأكمله في سياقه مجرداً دون توظيفه لمصالح آخرين.
إن ما رفعه الرئيس السيسي لا يختلف كثيراً عن ما نادى به الزعيم التونسي الراحل.."الحبيب بو رقيبة"..أو ما نادى به.."كمال أتاتورك"..من ثورة تصحيحية تركية، مع فوارق أساسية وهامشية تخص البيئة والعُرف، فالمجتمع المصري ليس منفتحاً كالتونسي، الطفل الصغير في تونس لديه دراية باللغة الفرنسية التي تعد مهد وأصل كثير من التوجهات العلمانية والتنويرية، برامج التوك شو الفرنسية يتابعها التونسيون ويتفاعلون معها، وهذا لا يتوفر مع المجتمع المصري الذي لا يعرف سوى لغة واحدة تأثرت كثيراً بالفقه الخليجي ورؤية ابن تيمية وابن القيم الوافدة من شبه الجزيرة إبان الاختراق السلفي الداعشي لحصون الأزهر والشارع المصري.
مع ذلك ظلت الشخصية المصرية كأنها تحن لأصولها التسامحية منذ زمان الإمام المصري.."الليث بن سعد"..ت175هـ والمعروف بتسامحه ومذهبه الخاص توسطاً بين العقل والنقل، والمشهور بدفاعه عن حقوق الأقليات ونداءه بالعمران وعدم الالتفات لأي صراع ديني أو مذهبي ينادي به المتطرفون.
إن طبيعة التنوير الحقيقية تعني في المقام الأول .."خلع القداسة عن أي عمل شخصي"..وهذا يعني أن مسائل الخلافة والشريعة والحدود ليست مقدسة لأن فاعليها بشر، وبالتالي يجوز إخضاع هذه المسائل للعقل ومقاربتها دينياً بهدف إعادة نظر شاملة لها.
وفي تاريخ الإنسان صراع قديم وجديد يحمل هذه الصفة، أي صراعاً بين العقل ونداءه بالحرية..ضد أي عمل يلتحف زوراً بالصفة المقدسة، فيقوم المجرمون بفرض هويتهم وعقائدهم بالقوة، ولأن العقل في غالب الأحيان لا ينحو إلى العنف نجده دائماً في موقف الضعيف، فيُغري ذلك أصحاب النزعات والأهواء، حتى شاع أن المواجهة بين العقل والدين...وهذا غير صحيح، فالمواجهة بالأصل بين المعرفة والجهل، بين الحرية والكبت، بين العدل والظلم، بين الثقافة والعُرف، بين القديم والجديد..وقد اتخذت المواجهة أشكالاً متطرفة هنا وهناك..أي لا ننكر أنه أحياناً وصلت المواجهة إلى حد العداء الواضح للدين، لكن هذا بالعموم استثناء يؤكد القاعدة.
حدث ذلك قديماً مع الفيلسوف اليوناني.."أنكساجوراس"..ت428 ق.م، حيث وبإنكاره ألوهية الأجرام السماوية-كالشمس والقمر- قدمته كهنة المعابد إلى المحاكمة وحُكِم عليه بالإعدام ثم خُفف إلى النفي، وهذه –تقريباً-أول تسجيل لحالة قمع فكري مدونة في أوروبا، ومشهور عن أنكساجوراس قوله عن الشمس أنها .."كتلة متوجهة أكبر قليلاً من بلوبونيز"..والأخيرة جزيرة كان يسكنها الإسبرطيون، والتشبيه منه يعني نفي ألوهية الشمس، وأنها ليست كائناً عاقلاً حتى يُعبد، في سلوك يُشبه سلوك الأنبياء في إنكارهم لوثنية مجتمعاتهم.
وما حدث لأناكساجوراس حدث مع الفيلسوف سقراط ت 399 ق.م، أنكر الآلهة الوثنية لليونان، فتم الحُكم عليه بالكُفر والإلحاد، حتى سيق إلى المحكمة التي حكمت عليه بالإعدام وتم إعدامه بعد أن بلغ من العلم عتياً ونقل عنه تلاميذه عنه أنه حين إعدامه كان رابط الجأش قوياً ، ومن المفارقات أن العرب اختلفوا في سقراط، فمنهم من قال أنه ملحد، ومنهم من أثنى عليه حتى عده من المصلحين مثل الشهرستاني الذي قال عن سقراط:.." كان فضالا زاهدا واعتزل في غار بالجبل ونهى عن الشرك والأوثان فألجأت العامة الملك إلى حبسه ثم سمه فمات"...تاريخ ابن الوردي(1/72).
ويقول المؤرخ القفطي في مدحه.."سقراط شامي وكان الغالب عليه الفلسفة والنسك والتأله لم يكن له تآليف في الكتب ومات مقتولا قتله ملك زمانه إذ زجره عن القبائح والفحشاء"..."وكان سقراط في زمن أفلاطون ولما أكثر سقراط على أهل بلده الموعظة وردهم إلى الالتزام بما تقتضيه الحكمة السياسية"...أخبار العلماء بأخيار الحكماء(1/ 88:89)
يُفهم من كلامهم أن سقراط لم يكن مجرد فيلسوف حيث العرب في معظمهم يذمون الفلسفة، ولكنه كان صالحاً يحمل العامة والخاصة على الحكمة والفضيلة وينشدهم إليها، فمعنى أن يموت مقتولاً دون ذنب سوى أنه على رأيه ومعتقده، يعني أن الرجل بلغ من الحجة قوة لا يُضاهيها علم القوم ..فشرعوا في معاقبته جزاءً لإحراجهم، فالرجل في كل الأحوال لم يدع إلى قتلهم أو التحريض عليهم، ولكن كان يؤمن أن سبيل الحقائق يكون بالعقل وليس بالخرافة.
اجمالي القراءات
6354